زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كم هن قويات
منذ مطلع الألفية الثالثة والهند تشهد ظاهرة غريبة: الإقبال على دراسة الأشعة الطبية أعلى من الإقبال على دراسة الطب أو الصيدلة أو علوم المختبرات الطبية، بل إن أطباء اختصاصيين في مجالات مثل العيون والباطنية والغدد والعظام هجروا تخصصاتهم ودرسوا علوم الأشعة، والسبب في ذلك أن الحصول على موعد مع فني أو طبيب يتخصص في مجال الكشف على الحوامل بالموجات الصوتية (السونار) يتطلب «واسطة» قوية حتى في القطاع الخاص.
وفي الهند اليوم عشرات الآلاف من المراكز التي تحمل اسم «الخصوبة»، ولكن الغريب في الأمر أن زبائنها من النساء لا يعانين العقم، بل جميعهن من الحوامل، وتقدم تلك العيادات خدمات الكشف على الحوامل بالموجات الصوتية لتحديد جنس الجنين، وما إن تعرف النساء أنهن حاملات ببنات حتى يتوجهن إلى واحدة من عيادات الإجهاض المنتشرة في الشوارع الخلفية في المدن، وجاء في تقرير نشرته مجلة لانسيت التي يصدرها المجلس الطبي البريطاني أن الهند تشهد إسقاط 700 ألف جنين أنثى سنوياً، لأن الهنود يعتبرون البنت عبئاً لأنها (غير منتجة) وتكلف الأسرة الكثير عند زواجها، لأن المرأة في الهند هي التي تدفع المهر (الدُّوَري كما يسمونه).. مما يعني أن عشرات الملايين من البنات تعرضن على مدى سنوات للقتل بالإجهاض قبل اكتمال نموهن في أرحام أمهاتهن.
نحن أيضاً في العالم العربي لا نرحب كثيراً بالبنات ونفضل أن ننجب ذكوراً، بل إن منا من يعتقد أن إنجاب الأولاد إنجاز ومفخرة له شخصياً، والأنكى من ذلك أن كثيرات من نسائنا أيضاً يفضلن إنجاب الأولاد على إنجاب البنات، ولكننا لم نعد نمارس وأد البنات (إلا معنوياً). وأذكر كيف كانت زوجتي تصلي ليل نهار أن يكون مولودها البكر ولداً، واستجاب الله لدعائها، ولما حملت بالمولود الثاني تمنت أيضاً أن يكون ولداً، ولكن الله شاء أن تكون بنتاً ففرحت بها من منطلق أنها سلفاً لديها (ولد)، وضايقني كثيراً تفضيلها الأولاد على البنات، ولكنها عللت ذلك بأن أمها لم تنجب ولدا، ومن ثم ليس لها أخ شقيق، ومن ثم تريد أولاداً يملأون الفراغ العاطفي الناجم عن كونها محرومة من الأشقاء الذكور. وحملت بالمولود الثالث وعندما داهمها المخاض ذهبت بها إلى مستشفى الولادة، وكنا وقتها في أبوظبي، ونقلوها فوراً إلى غرفة التوليد، وسرت مع النقالة التي كانت ممددة عليها إلى أن دخلت الغرفة وهممت بالخروج، ولكن الطبيبة الأجنبية أغلقت باب الغرفة بالمفتاح فنبهتها إلى أنني «ينبغي» أن أخرج فقالت لي بحزم: نو واي.. لا سبيل لذلك، ستبقى داخل غرفة الولادة، لأنك «طرف في هذه العملية»! يا بنت الناس عيب.. أمي ستتبرأ مني إذا عرفت أنني بقيت داخل غرفة الولادة خلال قدوم مولودي الثالث! لا يليق بجعفر حفيد عنتر أن يكون في وضع (بايخ) كهذا! ولكن لا (حياء) لمن تنادي! تجاهلتني الطبيبة تماماً وتركتني أحدق في جدران الغرفة وأنا أتصبب عرقاً، ثم طلبت مني أن أجلس قرب زوجتي وأقول لها كلمات (تشجيع).. يا ستي والله لا أعرف حتى التشجيع في مباريات كرة القدم فكيف أشجع امرأة في لحظة المخاض؟ كانت تجربة فظيعة.. حسبت أن زوجتي ستموت ونسيت حكاية حفيد عنتر و(العيب) وجلست ممسكاً بيد زوجتي إلى أن سمعت صرخة.. كانت بنتاً.. وفي لحظات كانت تعابير السعادة قد حلت محل تعابير الألم على وجه زوجتي، وحملتُ ابنتي التي كانت في حجم الفأر الحضري وبكيت فرحاً بها ولأنني سعدت بنهاية معاناة زوجتي.. ويومها أدركت معنى الأمومة، وكيف وهب الله النساء فيضاً من الطاقة الجسدية والعاطفية لا يملكها الرجل، وكيف إن المرأة تدرك حجم المعاناة خلال الحمل ثم الإنجاب، ومع هذا تكرر «التجربة»، ومن ثم فإنني أزدري كل من (يستعر) من بنات عائلته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك