العدد : ١٦٨٥١ - الأحد ١٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥١ - الأحد ١٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

تجربتي مع المال (1)

يحضرني‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬تعريف‭ ‬طريف‭ ‬ولطيف‭ ‬للكوميديان‭ ‬البريطاني‭ ‬الراحل‭ ‬بوب‭ ‬مونكهاوس‭ ‬للسعادة،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬أن‭ ‬تتزوج‭ ‬فتاة‭ ‬عن‭ ‬حب،‭ ‬ثم‭ ‬تكتشف‭ ‬لاحقاً‭ ‬أنها‭ ‬غنية‭! ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬آلاف‭ ‬السنوات‭ ‬ظل‭ ‬البشر‭ ‬يتساءلون‭: ‬هل‭ ‬المال‭ ‬يجلب‭ ‬السعادة؟‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أجيب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬بسؤال‭ ‬آخر‭: ‬وهل‭ ‬عدم‭ ‬توافر‭ ‬المال‭ (‬الفلس‭/‬الفقر‭) ‬يجلب‭ ‬السعادة؟‭ ‬دعوني‭ ‬أواصل‭ ‬محاولة‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬دون‭ ‬جرح‭ ‬مشاعر‭ ‬شخص‭ ‬فقير‭ ‬أو‭ ‬غني‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬سأتحدث‭ ‬عن‭ ‬تجربتي‭ ‬الشخصية‭ ‬مع‭ ‬المال‭.‬

عندما‭ ‬أكملت‭ ‬تعليمي‭ ‬الجامعي‭ ‬كان‭ ‬همي‭ ‬الأول‭ ‬أن‭ ‬أعين‭ ‬شقيقي‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬تحمل‭ ‬أعباء‭ ‬نفقات‭ ‬العائلة،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬قطع‭ ‬تعليمه‭ ‬لأواصل‭ ‬أنا‭ ‬وشقيقي‭ ‬الأصغر‭ ‬تعليمنا‭ ‬العالي،‭ ‬وكان‭ ‬راتبي‭ ‬كمدرس‭ ‬مستجد‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬45‭ ‬جنيها‭ (‬وكان‭ ‬الجنيه‭ ‬السوداني‭ ‬وقتها‭ ‬يعادل‭ ‬دولارين‭)‬،‭ ‬وكنت‭ ‬أعطي‭ ‬أمي‭ ‬ثلث‭ ‬راتبي‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬يتبقى‭ ‬معي‭ ‬مبلغ‭ ‬يعينني‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬هدايا‭ ‬لأفراد‭ ‬أسرتي‭ ‬في‭ ‬الأعياد‭ ‬والأفراح‭. ‬وبعد‭ ‬دخولي‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭ ‬بسنتين‭ ‬فزت‭ ‬بوظيفة‭ ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬وصار‭ ‬راتبي‭ ‬الشهري‭ ‬أكثر‭ ‬قليلا‭ ‬من‭ ‬90‭ ‬جنيها،‭ ‬فحسبت‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬الشخصيات‭ ‬وأن‭ ‬جميع‭ ‬النشالين‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬يعدون‭ ‬لي‭ ‬الكمائن‭ ‬ويتربصون‭ ‬بي،‭ ‬وارتفع‭ ‬عدد‭ ‬قمصاني‭ ‬إلى‭ ‬ستة،‭ ‬واشتريت‭ ‬نظارة‭ ‬طبية‭ ‬جديدة‭ ‬تليق‭ (‬بمقامي‭) ‬كشخص‭ ‬ثري‭.‬

ثم‭ ‬ابتعثت‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬بريطانيا‭ ‬وصرت‭ ‬مخرجاً‭ ‬تلفزيونياً‭ ‬وصار‭ ‬دخلي‭ ‬الشهري‭ ‬نحو‭ ‬120‭ ‬جنيها،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬ثروة‭ ‬طائلة‭ ‬جعلتني‭ ‬أفقد‭ ‬توازني‭ ‬وخشيت‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬الانحراف‭ ‬والزلل‭ ‬فتزوجت‭. ‬وبعد‭ ‬الزواج‭ ‬بنحو‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬أحسست‭ ‬بأن‭ ‬راتبي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ضخماً‭ ‬بمقاييس‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬وبالمقارنة‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يتقاضاه‭ ‬نظرائي‭ ‬من‭ ‬رواتب،‭ ‬أحسست‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يلبي‭ ‬مطالب‭ ‬أسرتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬ثلاثين‭ ‬يوماً‭ ‬فهاجرت‭ ‬إلى‭ ‬السعودية‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬الإمارات‭ ‬ثم‭ ‬قطر‭ ‬ثم‭ ‬بريطانيا‭ ‬ثم‭ ‬قطر‭. ‬طبعا‭ (‬التنطيط‭) ‬من‭ ‬بلد‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬كان‭ ‬بسبب‭ ‬العروض‭ ‬الأكثر‭ ‬إغراء،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أتلقى‭ ‬عروضاً‭ ‬مالية‭ ‬أفضل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬فأشد‭ ‬الرحال‭ ‬إليه‭! ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬كانت‭ ‬الوظائف‭ ‬متوافرة‭ ‬لمن‭ ‬يملك‭ ‬المؤهلات‭ ‬والخبرات‭ ‬الصحيحة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬كلفة‭ ‬المعيشة‭ ‬فيها‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬مستواها‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا‭.‬

وفي‭ ‬أبوظبي‭ ‬اشتريت‭ ‬أول‭ ‬سيارة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭. ‬وكانت‭ ‬تويوتا‭ ‬كورولا،‭ ‬وكما‭ ‬أوردت‭ ‬في‭ ‬مقالات‭ ‬سابقة‭ ‬فإن‭ ‬السودانيين‭ ‬ظلوا‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬تستقيم‭ ‬إلا‭ ‬بسيارة‭ ‬تويوتا‭ ‬وسجائر‭ ‬بنسون‭ ‬أو‭ ‬روثمان‭ ‬ومعجون‭ ‬الأسنان‭ ‬سيجنال‭. (‬كل‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬كان‭ ‬زمان‮»‬‭ ‬واليوم‭ ‬فمن‭ ‬ينجح‭ ‬في‭ ‬اقتناء‭ ‬سيارة‭ ‬كورية‭ ‬تم‭ ‬تجميعها‭ ‬في‭ ‬تايوان‭ ‬يعتبر‭ ‬إما‭ ‬حرامي‭ ‬يسرق‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬العام،‭ ‬وإما‭ ‬له‭ ‬قريب‭ ‬مهاجر‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬ما‭ ‬يقدم‭ ‬له‭ ‬العون‭ ‬المادي‭)‬،‭ ‬وكنت‭ ‬أغسل‭ ‬السيارة‭ ‬بنفسي‭ ‬يومياً‭ ‬لأتمتع‭ ‬بملامسة‭ ‬هيكلها‭ ‬الصقيل،‭ ‬وكانت‭ ‬ابنتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬بلكونة‭ ‬شقتنا‭ ‬وعينها‭ ‬على‭ ‬الكورولا‭ ‬وتصيح‭ ‬فجأة‭ ‬بصوت‭ ‬يزلزل‭ ‬جنبات‭ ‬الشارع‭ ‬كله‭: ‬ابتعد‭ ‬عن‭ ‬سيارتنا‭ ‬الجديدة‭ ‬يا‭ ‬غبي‭.. ‬كانت‭ ‬تحس‭ ‬بأن‭ ‬الجميع‭ ‬يتآمرون‭ ‬لتشويه‭ ‬سيارتنا‭ ‬أو‭ ‬سرقتها‭. ‬وبعد‭ ‬نحو‭ ‬سنة‭ ‬طارت‭ ‬نشوة‭ ‬الكورولا‭ ‬وبدأت‭ ‬النقنقة‭: ‬نريد‭ ‬سيارة‭ ‬أكبر‭ ‬وأكثر‭ ‬فخامة‭.. ‬وقد‭ ‬كان‭.. ‬بعت‭ ‬الكورولا‭ ‬واشتريت‭.. ‬بالضبط‭ ‬تويوتا‭ ‬كريسيدا‭ ‬جديدة،‭ ‬بالتقسيط‭ ‬غير‭ ‬المريح‭ (‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬فعلا‭ ‬تقسيط‭ ‬مريح؟؟‭)‬،‭ ‬وكنت‭ ‬استيقظ‭ ‬ليلا‭ ‬نحو‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬لأتفقدها‭ ‬واطمئن‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬بخير‭.‬

ودارت‭ ‬الأيام‭ ‬وارتفع‭ ‬دخلي‭ ‬الشهري‭ ‬ولكنني‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬بلغت‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ (‬الحكمة‭) ‬التي‭ ‬تجعلك‭ ‬تدرك‭ ‬أنه‭ ‬كلما‭ ‬ارتفع‭ ‬دخلك‭ ‬ازدادت‭ ‬هواجسك‭ ‬وارتفعت‭ ‬التزاماتك‭. ‬لست‭ ‬غنياً‭ ‬ولا‭ ‬أعتقد‭ ‬أنني‭ ‬سأصبح‭ ‬غنيا‭ ‬يوما‭ ‬ما،‭ ‬ولكنني‭ ‬راض‭ ‬تماما‭ ‬بنصيبي‭ ‬من‭ ‬الدنيا،‭ ‬وبأن‭ ‬الله‭ ‬أعطاني‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬كنت‭ ‬أحلم‭ ‬به،‭ ‬ولا‭ ‬يفوتني‭ ‬قط‭ ‬وأنا‭ ‬اركب‭ ‬سيارتي‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬أن‭ ‬أتذكر‭ ‬كيف‭ ‬فرحت‭ ‬وطربت‭ ‬عندما‭ ‬صار‭ ‬عندي‭ ‬حمار‭ ‬أذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬و«أبركنه‮»‬‭ ‬مع‭ ‬حمير‭ ‬المدرسين‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا