زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
تجربتي مع المال (1)
يحضرني على الدوام تعريف طريف ولطيف للكوميديان البريطاني الراحل بوب مونكهاوس للسعادة، فهي في نظره أن تتزوج فتاة عن حب، ثم تكتشف لاحقاً أنها غنية! وعلى مدى آلاف السنوات ظل البشر يتساءلون: هل المال يجلب السعادة؟ أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال بسؤال آخر: وهل عدم توافر المال (الفلس/الفقر) يجلب السعادة؟ دعوني أواصل محاولة الإجابة عن هذا السؤال دون جرح مشاعر شخص فقير أو غني ومن ثم سأتحدث عن تجربتي الشخصية مع المال.
عندما أكملت تعليمي الجامعي كان همي الأول أن أعين شقيقي الأكبر في تحمل أعباء نفقات العائلة، وكان قد قطع تعليمه لأواصل أنا وشقيقي الأصغر تعليمنا العالي، وكان راتبي كمدرس مستجد في المرحلة الثانوية 45 جنيها (وكان الجنيه السوداني وقتها يعادل دولارين)، وكنت أعطي أمي ثلث راتبي ومع هذا يتبقى معي مبلغ يعينني على شراء هدايا لأفراد أسرتي في الأعياد والأفراح. وبعد دخولي الحياة العملية بسنتين فزت بوظيفة في السفارة البريطانية في الخرطوم وصار راتبي الشهري أكثر قليلا من 90 جنيها، فحسبت أنني صرت من كبار الشخصيات وأن جميع النشالين في الخرطوم يعدون لي الكمائن ويتربصون بي، وارتفع عدد قمصاني إلى ستة، واشتريت نظارة طبية جديدة تليق (بمقامي) كشخص ثري.
ثم ابتعثت للدراسة في بريطانيا وصرت مخرجاً تلفزيونياً وصار دخلي الشهري نحو 120 جنيها، وكانت تلك ثروة طائلة جعلتني أفقد توازني وخشيت على نفسي من الانحراف والزلل فتزوجت. وبعد الزواج بنحو ستة أشهر أحسست بأن راتبي الذي كان ضخماً بمقاييس ذلك الزمان وبالمقارنة بما كان يتقاضاه نظرائي من رواتب، أحسست أنه لم يعد يلبي مطالب أسرتي الصغيرة ثلاثين يوماً فهاجرت إلى السعودية ومنها إلى الإمارات ثم قطر ثم بريطانيا ثم قطر. طبعا (التنطيط) من بلد إلى آخر كان بسبب العروض الأكثر إغراء، بمعنى أنني كنت أتلقى عروضاً مالية أفضل في هذا البلد أو ذاك فأشد الرحال إليه! ولحسن حظي كانت الوظائف متوافرة لمن يملك المؤهلات والخبرات الصحيحة في كل الدول الخليجية، التي كانت كلفة المعيشة فيها أقل من ربع مستواها في يوم الناس هذا.
وفي أبوظبي اشتريت أول سيارة جديدة في حياتي. وكانت تويوتا كورولا، وكما أوردت في مقالات سابقة فإن السودانيين ظلوا سنوات طويلة يعتقدون أن الحياة لا تستقيم إلا بسيارة تويوتا وسجائر بنسون أو روثمان ومعجون الأسنان سيجنال. (كل هذا «كان زمان» واليوم فمن ينجح في اقتناء سيارة كورية تم تجميعها في تايوان يعتبر إما حرامي يسرق من المال العام، وإما له قريب مهاجر في بلد ما يقدم له العون المادي)، وكنت أغسل السيارة بنفسي يومياً لأتمتع بملامسة هيكلها الصقيل، وكانت ابنتي الصغيرة تجلس في بلكونة شقتنا وعينها على الكورولا وتصيح فجأة بصوت يزلزل جنبات الشارع كله: ابتعد عن سيارتنا الجديدة يا غبي.. كانت تحس بأن الجميع يتآمرون لتشويه سيارتنا أو سرقتها. وبعد نحو سنة طارت نشوة الكورولا وبدأت النقنقة: نريد سيارة أكبر وأكثر فخامة.. وقد كان.. بعت الكورولا واشتريت.. بالضبط تويوتا كريسيدا جديدة، بالتقسيط غير المريح (وهل هناك فعلا تقسيط مريح؟؟)، وكنت استيقظ ليلا نحو ثلاث مرات لأتفقدها واطمئن على أنها بخير.
ودارت الأيام وارتفع دخلي الشهري ولكنني كنت قد بلغت تلك المرحلة من (الحكمة) التي تجعلك تدرك أنه كلما ارتفع دخلك ازدادت هواجسك وارتفعت التزاماتك. لست غنياً ولا أعتقد أنني سأصبح غنيا يوما ما، ولكنني راض تماما بنصيبي من الدنيا، وبأن الله أعطاني أكثر مما كنت أحلم به، ولا يفوتني قط وأنا اركب سيارتي كل صباح أن أتذكر كيف فرحت وطربت عندما صار عندي حمار أذهب به إلى المدرسة و«أبركنه» مع حمير المدرسين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك