العدد : ١٦٨٥٢ - الاثنين ١٣ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٢ - الاثنين ١٣ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

حكاية جدي مع قائد أُموي

أذكر‭ ‬جيدا‭ ‬الهوجة‭ ‬الصحفية‭ ‬العارمة‭ ‬المدمدمة‭  ‬لأن‭ ‬الدستور‭ ‬العراقي‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬سيء‭ ‬الذكر‭ ‬نوري‭ ‬المالكي،‭ ‬لم‭ ‬ينص‭ ‬صراحة‭ ‬على‭ ‬انتماء‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭: ‬غضب‭ ‬الكتّاب‭ ‬القومجية‭ ‬والشعبيون،‭ ‬وكأنما‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬أمة‭ ‬أو‭ ‬جنس‭ ‬أو‭ ‬عرق‭ ‬أو‭ ‬ملة‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ (‬شهادة‭ ‬رسمية‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬يثبت‭ ‬إلا‭ ‬بالتدوين‭ ‬والتوثيق،‭ ‬والدساتير‭ ‬التي‭ ‬تحظى‭ ‬باحترام‭ ‬الحكام‭ ‬والشعوب‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬أي‭ ‬ذكر‭ ‬للانتماء‭ ‬العرقي‭ ‬أو‭ ‬الجغرافي،‭ ‬والعجيب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬لديها‭ ‬دساتير‭ ‬عليها‭ ‬القيمة،‭ ‬تعترف‭ ‬بأن‭ ‬مواطنيها‭ ‬هجين‭ ‬بينما‭ ‬نحن‭ ‬نزعم‭ ‬النقاء‭ ‬العرقي‭ ‬للعرب،‭ ‬وبعد‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬أدرك‭ ‬الساسة‭ ‬العراقيون‭ ‬أن‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لامتصاص‭ ‬النعرات‭ ‬الانفصالية‭ ‬لدى‭ ‬الأكراد‭ ‬والأشوريين‭ ‬وغيرهم‭ ‬يتأتى‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬إضفاء‭ ‬جنسية‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬البلد‭ ‬بالجملة‭.‬

وقبل‭ ‬وبعد‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬عدم‭ ‬ذكر‭ ‬الدستور‭ ‬المذكور‭ ‬أن‭ ‬العراق‭ ‬عربي،‭ ‬لن‭ ‬يجرده‭ ‬من‭ ‬عروبته،‭ ‬وتبرؤ‭ ‬الأب‭ ‬من‭ ‬ولده‭ ‬لا‭ ‬يلغي‭ ‬حقيقة‭ ‬أنه‭ ‬والده،‭ ‬وأن‭ ‬المُتبرَأ‭ ‬منه‭ ‬ولده‭. ‬وكثرة‭ ‬التباكي‭ ‬على‭ ‬كون‭ ‬الدستور‭ ‬العراقي‭ ‬لم‭ ‬ينص‭ ‬صراحة‭ ‬على‭ ‬عروبة‭ ‬العراق‭ ‬جعلني‭ ‬أتذكر‭ ‬الانتقادات‭ ‬المتكررة‭ ‬التي‭ ‬توجه‭ ‬إليّ‭ ‬لأنني‭ ‬أعلن‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬أنني‭ ‬نوبي‭. ‬فيعتبرني‭ ‬البعض‭ ‬‮«‬مرتدا‮»‬،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬يستوقفني‭ ‬أحدهم‭ ‬قائلا‭: ‬عندي‭ ‬لكم‭ ‬سؤال،‭ ‬لماذا‭ ‬تقول‭ ‬إنك‭ ‬نوبي‭ ‬بينما‭ ‬أنت‭ ‬عربي؟‭  ‬جواب‭: ‬هل‭ ‬تعرفني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نفسي؟‭ ‬أنا‭ ‬نوبي‭ ‬الجينات‭ ‬والسحنة‭ ‬واللسان‭ ‬و‭ ‬الثقافة،‭  ‬ولكن‭ ‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تعريب‭ ‬ألسنتنا‭ ‬والثقافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الرابط‭ ‬بيننا‭ ‬والعرب،‭ ‬فلا‭ ‬تعربوا‭ ‬الناس‭ ‬بـ‭ (‬العافية‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬أنا‭ ‬اتنصل‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬اكتسبت‭ ‬العروبة‭ ‬باللسان،‭ ‬وفي‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال‭ ‬فإن‭ ‬النوبيين‭ ‬يحسون‭ ‬بأنهم‭ ‬وبحكم‭ ‬روابط‭ ‬الدين‭ ‬والجغرافيا‭ ‬والتاريخ‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬ولا‭ ‬تتفشى‭ ‬في‭ ‬صفوفهم‭ ‬النعرات‭ ‬الانفصالية‭ ‬ولا‭ ‬يعانون‭ ‬عقدة‭ ‬الاضطهاد‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬تعرضوا‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬تهميش‭ ‬وتهويش‭!  ‬هل‭ ‬تودون‭ ‬معرفة‭ ‬لماذا‭ ‬نحن‭ ‬النوبيين‭ ‬شديدو‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بجذورنا؟‭  ‬اقرأوا‭ ‬معي‭ ‬حكاية‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭:‬

كان‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي‭ ‬يتسامر‭ ‬مع‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬خلصائه‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬إن‭ ‬مؤسسي‭ ‬الدولة‭ ‬الأموية‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬استقامة،‭ ‬ولكن‭ ‬أبناءهم‭ ‬المترفين‭ ‬قصدوا‭ ‬الشهوات‭ ‬واللذات‭ ‬وارتكبوا‭ ‬المعاصي‭ ‬والمساخط‭ ‬فسلبهم‭ ‬الله‭ ‬العز‭ ‬ونقل‭ ‬عنهم‭ ‬النعمة،‭ ‬فاقترح‭ ‬عليه‭ ‬صالح‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬أن‭ ‬يسمع‭ ‬من‭ ‬الأموي‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬مروان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬سجون‭ ‬المنصور‭ ‬عن‭ ‬حكايته‭ ‬مع‭ ‬ملك‭ ‬النوبة،‭ ‬فأمر‭ ‬المنصور‭ ‬بإحضاره،‭ ‬وسأله‭ ‬عن‭ ‬القصة‭ ‬فقال‭:  ‬هربنا‭ ‬بعد‭ ‬زوال‭ ‬ملكنا‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬النوبة‭ ‬غير‭ ‬المسلمة،‭ ‬وبينما‭ ‬نحن‭ ‬جلوس‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬للضيافة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فرشنا‭ ‬عليها‭ ‬ثيابنا،‭ ‬دخل‭ ‬علينا‭ ‬ملكهم‭ ‬وكان‭ ‬فارع‭ ‬القوام‭ ‬أقني‭ ‬الأنف‭ (‬مثل‭ ‬الأنف‭ ‬الذي‭ ‬تراه‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬أعلاه‭) ‬حسن‭ ‬الوجه‭ (‬كما‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬أيضا‭)  ‬جلس‭ ‬ملك‭ ‬النوبة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬فسألناه‭:  ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تجلس‭ ‬على‭ ‬ثيابنا‭ ‬فكان‭ ‬رده‭:  ‬أن‭ ‬على‭ ‬الملك‭ ‬أن‭ ‬يتواضع‭ ‬لعظمة‭ ‬الله‭ ‬إذا‭ ‬رفعه‭. ‬

ثم‭ ‬سألني‭: ‬لماذا‭ ‬تشربون‭ ‬الخمر‭ ‬وهي‭ ‬محرمة‭ ‬عليكم؟‭ ‬قلت‭ (‬والكلام‭ ‬لعبدالله‭ ‬بن‭ ‬مروان‭): ‬اجترأ‭ ‬عبيدنا‭ ‬وغلماننا‭ ‬علينا‭. ‬وسألهم‭ ‬الملك‭  ‬النوبي‭: ‬ولماذا‭ ‬تطأون‭ ‬الزرع‭ ‬بدوابكم‭ ‬والفساد‭ ‬محرم‭ ‬عليكم؟‭ ‬ج‭:  ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬عبيدنا‭ ‬واتباعنا‭ ‬لجهلهم‭.  ‬فلِم‭ ‬تلبسون‭ ‬الحرير‭ ‬والديباج‭ ‬والذهب‭ ‬والفضة‭ ‬وقد‭ ‬حرم‭ ‬الله‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬رجالكم؟‭  ‬ج‭:  ‬قلَّ‭ ‬أنصارنا‭ ‬فانتصرنا‭ ‬بقوم‭ ‬من‭ ‬العجم‭ ‬أتونا‭ ‬بعاداتهم‭ ‬فلبسوا‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬كره‭ ‬منا‭. ‬

طفق‭ ‬ملك‭ ‬النوبة‭ ‬ينكت‭ ‬الأرض‭ ‬ويردد‭: ‬عبيدنا‭ ‬وأتباعنا‭ ‬وقوم‭ ‬استنجدنا‭ ‬بهم‭.. ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬ليس‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬بل‭ ‬أنتم‭ ‬قوم‭ ‬استحللتم‭ ‬ما‭ ‬حرم‭ ‬الله‭ ‬وركبتم‭ ‬ما‭ ‬نهاكم‭ ‬عنه،‭ ‬وظلمتم‭ ‬من‭ ‬ملكتم‭ ‬أمرهم،‭ ‬فسلبكم‭ ‬الله‭ ‬العز‭ ‬وألبسكم‭ ‬الذل‭ ‬بثيابكم،‭ ‬وأخاف‭ ‬أن‭ ‬يحل‭ ‬بكم‭ ‬العذاب‭ ‬وأنتم‭ ‬في‭ ‬بلدي،‭ ‬وللضيافة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬فتزودوا‭ ‬بحاجتكم‭ ‬وارتحلوا‭ ‬عن‭ ‬بلدي‭.  ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬من‭ ‬أجدادي‭ ‬أفلا‭ ‬يحق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أفتخر‭ ‬بالانتساب‭ ‬إليه؟

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا