زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
العمل من سن 18 إلى اللحد
في مارس الجاري تجددت في عموم فرنسا الاضطرابات العامة الرافضة لرفع سن المعاش فوق الستين، بينما خلال السنوات القليلة الماضية رفعت العديد من الدول الأوروبية سن التقاعد من العمل من 60 إلى 65 سنة، ومن حق كل من يمضي أكثر من 15 سنة في الخدمة في معظم تلك البلدان أن يطالب بتقاعد مبكر، أي قبل أن يبلغ سن التقاعد الرسمي. ولسنوات ظل شغلي الشاغل هو: ماذا أفعل بعد أن أبلغ التقاعد، ويتم تفنيشي؟ ثم انتبهت إلى أن الله أكرمني بمهنة (الصحافة) ليس فيها سن تقاعد طالما النفس طالع ونازل، والقدمان قادرتان على الحركة وأصابع اليد لم تتعرض للتكلس والتيبس.
في العالم العربي عموما قد يتجاهل المسؤولون النصوص والأحكام القطعية، حول الأمور الكبيرة والخطيرة، ولكنهم لا يتجاهلون «اللوائح» التي تنص –مثلا– على أن الانسان يصبح «كشرة» وعديم الفائدة بعد أن يبلغ الستين! ولو كان الستيني «فلتة» فلا بد من قرار من الوزير أو مجلس الإدارة المختص لتمديد أمد خدمته، وعيش يا حمار! فالوزير مشغول بأمور أكثر أهمية، واجتماعات مجالس الإدارة لا يتوافر فيها النصاب القانوني بسهولة، وهناك أيضاً منطق اللوائح المقلوب الذي تحدثت عنه مرارا وهو أن يُشهر في وجوه الشباب: آسفون لا نستطيع توظيفك لأنك تفتقر إلى شرط الخبرة! ولا تستطيع أن ترد على من يقول مثل هذا الكلام: وأنت ما شاء الله واسم الله عليك طلعت من بطن أمك وعندك خبرة عشر سنوات!
والمصيبة بالنسبة إلى أمثالي الذين يعملون خارج أوطانهم مزدوجة: تبلغ الستين وتفقد وظيفتك، وحكومة بلادك غير مسؤولة عنك بأي شكل، (وهي أصلاً غير مسؤولة عنك أو عن غيرك، وإلا لما طفشت من بلدك، والشاعر يقول: يقيم الرجال الموسرون بأرضهم/ وترمى النوى بالمقترين المراميا). يعني ليس هناك ما يؤهلك يا وافد ويا «غريب بلدك» للحصول على معاش تقاعدي أو أي نوع من الضمان الاجتماعي! ما الحل؟ الحل هو أن يعمل الواحد منا إلى اللحد؛ يعني يظل يعمل في أي وظيفة متاحة إلى أن يسقط ميتاً، بل كما يفعل البعض تتحسب لإنهاء الخدمات بتزويد نفسك بشهادات ميلاد وخبرة من صنف «لكل حادث حديث»، فيكون عمرك هنا 54 سنة وهناك 49 سنة.. إلخ.
هذا أمر محزن، فمن حق أي انسان أن يرتاح جزءا من عمره بعد أن يتجاوز الستين ويعيش مستورا وموفور الكرامة. آسف فقد استخدمت كلمة «حق» في غير موضعها في الجملة السابقة، فلا أذكر منذ ولدت أنه أتيح لي أن أقول «هذا من حقي»، يعني قضيت طفولتي بلا حقوق تذكر، وكلما كبرت قل هامش الحقوق.. فيما مضى كان حق المتقدمين في السن مضموناً بـ«عيالهم»، ومن ثم كان الناس ينجبون بكميات تجارية، وكلما كثرت الذرية أحس الوالدان بأن لديهما السند في الشيخوخة، لأن التكافل الأسري كان يفرض على الأبناء والبنات توفير العيش الكريم للوالدين. لكننا في زمان تسمع فيه أن شاباً انتزع حشوة الذهب من ضرس أمه كي يجمع المبلغ اللازم لشراء هاتف جوال «كشخة». والزمن نفسه صار قاسياً بعد أن صارت الكماليات ضروريات، ولم تعد الرواتب تكفي سداد فواتير الكماليات التي صارت ضروريات (مثلا الهاتف الجوال والانترنت). يعني حتى لو عندك عيال بررة فقد لا يكونون في وضع يمكنهم من مساعدتك في شيخوختك، إما لضعف مداخيلهم وإما لأن ما يكسبونه لا يكفي لإعالة عيالهم الذين هم «أحفادك»، وواقع الحال عندنا هو أنه برغم ارتفاع الرواتب ظاهرياً فإن مداخيلنا تصير أضعف من حيث القوة الشرائية من عام إلى آخر؛ فأمور الاقتصاد عندنا تسير خبط عشواء، وكل شيء ذي قيمة يتعرض «للشفط واللفط واللهف».. وحكوماتنا تكره التخطيط لأنه «ليس من موروثنا وثقافتنا».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك