العدد : ١٦٨٥٢ - الاثنين ١٣ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٢ - الاثنين ١٣ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

العمل من سن 18 إلى اللحد

في‭ ‬مارس‭ ‬الجاري‭ ‬تجددت‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬فرنسا‭ ‬الاضطرابات‭ ‬العامة‭ ‬الرافضة‭ ‬لرفع‭ ‬سن‭ ‬المعاش‭ ‬فوق‭ ‬الستين،‭ ‬بينما‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬رفعت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬سن‭ ‬التقاعد‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬60‭ ‬إلى‭ ‬65‭ ‬سنة،‭ ‬ومن‭ ‬حق‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يمضي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬الخدمة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬تلك‭ ‬البلدان‭ ‬أن‭ ‬يطالب‭ ‬بتقاعد‭ ‬مبكر،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬سن‭ ‬التقاعد‭ ‬الرسمي‭. ‬ولسنوات‭ ‬ظل‭ ‬شغلي‭ ‬الشاغل‭ ‬هو‭: ‬ماذا‭ ‬أفعل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أبلغ‭ ‬التقاعد،‭ ‬ويتم‭ ‬تفنيشي؟‭ ‬ثم‭ ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬أكرمني‭ ‬بمهنة‭ (‬الصحافة‭) ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬سن‭ ‬تقاعد‭ ‬طالما‭ ‬النفس‭ ‬طالع‭ ‬ونازل،‭ ‬والقدمان‭ ‬قادرتان‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬وأصابع‭ ‬اليد‭ ‬لم‭ ‬تتعرض‭ ‬للتكلس‭ ‬والتيبس‭.‬

في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عموما‭ ‬قد‭ ‬يتجاهل‭ ‬المسؤولون‭ ‬النصوص‭ ‬والأحكام‭ ‬القطعية،‭ ‬حول‭ ‬الأمور‭ ‬الكبيرة‭ ‬والخطيرة،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لا‭ ‬يتجاهلون‭ ‬‮«‬اللوائح‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تنص‭ ‬مثلا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الانسان‭ ‬يصبح‭ ‬‮«‬كشرة‮»‬‭ ‬وعديم‭ ‬الفائدة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬الستين‭! ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬الستيني‭ ‬‮«‬فلتة‮»‬‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬قرار‭ ‬من‭ ‬الوزير‭ ‬أو‭ ‬مجلس‭ ‬الإدارة‭ ‬المختص‭ ‬لتمديد‭ ‬أمد‭ ‬خدمته،‭ ‬وعيش‭ ‬يا‭ ‬حمار‭! ‬فالوزير‭ ‬مشغول‭ ‬بأمور‭ ‬أكثر‭ ‬أهمية،‭ ‬واجتماعات‭ ‬مجالس‭ ‬الإدارة‭ ‬لا‭ ‬يتوافر‭ ‬فيها‭ ‬النصاب‭ ‬القانوني‭ ‬بسهولة،‭ ‬وهناك‭ ‬أيضاً‭ ‬منطق‭ ‬اللوائح‭ ‬المقلوب‭ ‬الذي‭ ‬تحدثت‭ ‬عنه‭ ‬مرارا‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يُشهر‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬الشباب‭: ‬آسفون‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬توظيفك‭ ‬لأنك‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬شرط‭ ‬الخبرة‭! ‬ولا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬ترد‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭: ‬وأنت‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬واسم‭ ‬الله‭ ‬عليك‭ ‬طلعت‭ ‬من‭ ‬بطن‭ ‬أمك‭ ‬وعندك‭ ‬خبرة‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭!‬

والمصيبة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أمثالي‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬خارج‭ ‬أوطانهم‭ ‬مزدوجة‭: ‬تبلغ‭ ‬الستين‭ ‬وتفقد‭ ‬وظيفتك،‭ ‬وحكومة‭ ‬بلادك‭ ‬غير‭ ‬مسؤولة‭ ‬عنك‭ ‬بأي‭ ‬شكل،‭ (‬وهي‭ ‬أصلاً‭ ‬غير‭ ‬مسؤولة‭ ‬عنك‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬غيرك،‭ ‬وإلا‭ ‬لما‭ ‬طفشت‭ ‬من‭ ‬بلدك،‭ ‬والشاعر‭ ‬يقول‭: ‬يقيم‭ ‬الرجال‭ ‬الموسرون‭ ‬بأرضهم‭/ ‬وترمى‭ ‬النوى‭ ‬بالمقترين‭ ‬المراميا‭). ‬يعني‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يؤهلك‭ ‬يا‭ ‬وافد‭ ‬ويا‭ ‬‮«‬غريب‭ ‬بلدك‮»‬‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬معاش‭ ‬تقاعدي‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الضمان‭ ‬الاجتماعي‭! ‬ما‭ ‬الحل؟‭ ‬الحل‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يعمل‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬إلى‭ ‬اللحد؛‭ ‬يعني‭ ‬يظل‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وظيفة‭ ‬متاحة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يسقط‭ ‬ميتاً،‭ ‬بل‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬البعض‭ ‬تتحسب‭ ‬لإنهاء‭ ‬الخدمات‭ ‬بتزويد‭ ‬نفسك‭ ‬بشهادات‭ ‬ميلاد‭ ‬وخبرة‭ ‬من‭ ‬صنف‭ ‬‮«‬لكل‭ ‬حادث‭ ‬حديث‮»‬،‭ ‬فيكون‭ ‬عمرك‭ ‬هنا‭ ‬54‭ ‬سنة‭ ‬وهناك‭ ‬49‭ ‬سنة‭.. ‬إلخ‭.‬

هذا‭ ‬أمر‭ ‬محزن،‭ ‬فمن‭ ‬حق‭ ‬أي‭ ‬انسان‭ ‬أن‭ ‬يرتاح‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬الستين‭ ‬ويعيش‭ ‬مستورا‭ ‬وموفور‭ ‬الكرامة‭. ‬آسف‭ ‬فقد‭ ‬استخدمت‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬حق‮»‬‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬موضعها‭ ‬في‭ ‬الجملة‭ ‬السابقة،‭ ‬فلا‭ ‬أذكر‭ ‬منذ‭ ‬ولدت‭ ‬أنه‭ ‬أتيح‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬من‭ ‬حقي‮»‬،‭ ‬يعني‭ ‬قضيت‭ ‬طفولتي‭ ‬بلا‭ ‬حقوق‭ ‬تذكر،‭ ‬وكلما‭ ‬كبرت‭ ‬قل‭ ‬هامش‭ ‬الحقوق‭.. ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬كان‭ ‬حق‭ ‬المتقدمين‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬مضموناً‭ ‬بـ«عيالهم‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬ينجبون‭ ‬بكميات‭ ‬تجارية،‭ ‬وكلما‭ ‬كثرت‭ ‬الذرية‭ ‬أحس‭ ‬الوالدان‭ ‬بأن‭ ‬لديهما‭ ‬السند‭ ‬في‭ ‬الشيخوخة،‭ ‬لأن‭ ‬التكافل‭ ‬الأسري‭ ‬كان‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬الأبناء‭ ‬والبنات‭ ‬توفير‭ ‬العيش‭ ‬الكريم‭ ‬للوالدين‭. ‬لكننا‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬تسمع‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬شاباً‭ ‬انتزع‭ ‬حشوة‭ ‬الذهب‭ ‬من‭ ‬ضرس‭ ‬أمه‭ ‬كي‭ ‬يجمع‭ ‬المبلغ‭ ‬اللازم‭ ‬لشراء‭ ‬هاتف‭ ‬جوال‭ ‬‮«‬كشخة‮»‬‭. ‬والزمن‭ ‬نفسه‭ ‬صار‭ ‬قاسياً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صارت‭ ‬الكماليات‭ ‬ضروريات،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬الرواتب‭ ‬تكفي‭ ‬سداد‭ ‬فواتير‭ ‬الكماليات‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬ضروريات‭ (‬مثلا‭ ‬الهاتف‭ ‬الجوال‭ ‬والانترنت‭). ‬يعني‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬عندك‭ ‬عيال‭ ‬بررة‭ ‬فقد‭ ‬لا‭ ‬يكونون‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬يمكنهم‭ ‬من‭ ‬مساعدتك‭ ‬في‭ ‬شيخوختك،‭ ‬إما‭ ‬لضعف‭ ‬مداخيلهم‭ ‬وإما‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يكسبونه‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لإعالة‭ ‬عيالهم‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬‮«‬أحفادك‮»‬،‭ ‬وواقع‭ ‬الحال‭ ‬عندنا‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬برغم‭ ‬ارتفاع‭ ‬الرواتب‭ ‬ظاهرياً‭ ‬فإن‭ ‬مداخيلنا‭ ‬تصير‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬القوة‭ ‬الشرائية‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬إلى‭ ‬آخر؛‭ ‬فأمور‭ ‬الاقتصاد‭ ‬عندنا‭ ‬تسير‭ ‬خبط‭ ‬عشواء،‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬ذي‭ ‬قيمة‭ ‬يتعرض‭ ‬‮«‬للشفط‭ ‬واللفط‭ ‬واللهف‮»‬‭.. ‬وحكوماتنا‭ ‬تكره‭ ‬التخطيط‭ ‬لأنه‭ ‬‮«‬ليس‭ ‬من‭ ‬موروثنا‭ ‬وثقافتنا‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا