زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كيف تصبح مثقفا
كشفت سنوات طوال كنت خلالها أعتقد أن «الأوزون» من مشتقات البترول، فعلى عهدنا بالدراسة لم يحدثنا أحد عن هذا الشيء لا في حصص الجغرافيا ولا حصص التربية البدنية، ولا يعني هذا أنني أعرف عنه الكثير الآن، فكل الذي أعرفه عنه أنه شيء موجود في الكون، وأنه تعرض لكثير من التلف بسبب التلوث الناجم عن أدخنة المصانع في الدول المتقدمة. وأعرف أيضاً أن توسيع ثقب الأوزون، بل نسف الأوزون، سيرفع درجة الحرارة على كوكب الأرض بحيث يضطر الأوروبيون والأمريكيون إلى قضاء معظم شهور السنة في بلداننا حاملين معهم أكياس العملات الصعبة لأن الحر عندنا سيظل محتفظاً بـ«أصالته» بينما سيكون الحر عندهم «مفبركاً» وخانقاً.
وإنني عبر هذه الزاوية أهيب بشعوب العالم الثالث أن تعمل على تطوير الأسلحة اللازمة لقصف الأوزون حتى يزول نهائياً فترتفع درجة الحرارة، ويذوب القطب الشمالي، وتبتلع المياه معظم أجزاء أوروبا فيضطر سكانها إلى اللجوء إلينا، نحن أهل الجنوب، حاملين معهم مصانعهم، فنريهم النجوم في عز الظهيرة في المطارات، وبعد ذلك نسمح لهم بالعمل لدينا كأجراء «لا شركاء»، عملا بوصية صاحب مقولة «زنقة، زنقة، بيت، بيت»، سيئ الذكر معمر الجزافي، فتختفي بذلك الهوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير ونصبح «كلنا في البؤس شرق»!!
ورغم جهلي بشؤون الأوزون فإنني أحسن حالاً من صاحبنا الذي كان يعتقد أن الديمقراطية نوع من الأمراض الجلدية المعدية والفتاكة، ويقول صاحبنا إن ما عزز عنده هذا الاعتقاد أنه سمع عبارة «أن علاج الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية»، فقد فهم صاحبنا من هذه العبارة أن التطعيم بمصل واقٍ يمنع الإصابة بالديمقراطية لأنه كان يعرف أن التطعيم هو تزويد الجسم بجرعة من الميكروب أو الطفيل الذي يسبب مرضاً بعينه، وقياساً على هذا فإن حقن الجسم بمصل «الديمقراطية» يمنع الإصابة بالديمقراطية.
ولسبب لا أفهمه كان أحد أقربائي يربط «عدم الفهم» بسنغافورة، فإذا قلت له شيئاً حسب أن القصد من ورائه هو «الاستغفال»، أو «الاستهبال» فإنه يرد عليك: فاكرنني من سنغافورة؟ (هل تحسبني من سنغافورة؟)، وقد فشلت كافة المحاولات لإقناعه بأن أهل سنغافورة أذكياء وممتلئون حركة ونشاطاً، وأنهم يجنون الثروات من بيع كل شيء، بما في ذلك الأوكسجين. كل ذلك من دون طائل، فإذا أراد قريبنا هذا أن يصمك بالغباء فإنه يقول إن مكانك الطبيعي هو سنغافورة! ورغم أن الكل كان يرد على ذلك بعبارة «يا ريت» فإنه لم يتنازل إلى يومنا هذا عن موقفه مما يدل على أنه «ينتمي إلى سنغافورة»... بمفهومه هو بالطبع!!
وأجمل ما في هذا كله أنني مع جهلي بأمر الأوزون، وصاحبي الديمقراطي، وقريبي السنغافوري، جميعنا «مثقفون» لأن العبرة ليست بالمعاني، بل بالعبارات والألفاظ والأسماء الرنانة. فإذا صعدت إلى منبر وأعلنت أمام الملأ وأنا متسلح بنظارتين وكرافته «إن معهد انزايم في ولاية سامبدوريا الأمريكية توصل إلى أن الفسيخ يحوي كاربوهيدرات البلوتونيوم مما يجعله خطراً على الأوزون والبروتون»، فإن جملة مثل هذه كفيلة بتوصيلي إلى استوديوهات التلفزيون، وصالات الفنادق الفخمة لتناول الوجبات المجانية.
باختصار فإن بضع كلمات طنانة مطعمة بمفردات أفرنجية تكفي لإيصال قائلها إلى غايات المجد وارضاء نزعاته الشوفينية *، باعتبار هذه الكلمة الأخيرة مشتقة من اللفظة العامية «شوفوني». ولا يعرف كثير من المثقفين أن أصل الكلمة يعود إلى منطقة «الشوف» في لبنان، التي يشتهر أهلها بالعصبية الزائدة في انتمائهم الإقليمي والقطري والقومي والدولي، ويعود الفضل في انتشار الكلمة إلى الحزب الشيوعي اللبناني الذي عجز عن بناء خلايا في الشوف فأصبح يصف كل من يرفض عضويته بأنه «شوفيني».
* لعلم القارئ الذي لم يسمع بهذه الكلمة فإنها تعني على وجه العموم التعصب القومي/ الوطني الأعمى مقرونا بالاستعلاء.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك