العدد : ١٦٨٥٢ - الاثنين ١٣ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٢ - الاثنين ١٣ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كيف تصبح مثقفا

كشفت‭ ‬سنوات‭ ‬طوال‭ ‬كنت‭ ‬خلالها‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأوزون‮»‬‭ ‬من‭ ‬مشتقات‭ ‬البترول،‭ ‬فعلى‭ ‬عهدنا‭ ‬بالدراسة‭ ‬لم‭ ‬يحدثنا‭ ‬أحد‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬حصص‭ ‬الجغرافيا‭ ‬ولا‭ ‬حصص‭ ‬التربية‭ ‬البدنية،‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬أنني‭ ‬أعرف‭ ‬عنه‭ ‬الكثير‭ ‬الآن،‭ ‬فكل‭ ‬الذي‭ ‬أعرفه‭ ‬عنه‭ ‬أنه‭ ‬شيء‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الكون،‭ ‬وأنه‭ ‬تعرض‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬التلف‭ ‬بسبب‭ ‬التلوث‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬أدخنة‭ ‬المصانع‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭. ‬وأعرف‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬توسيع‭ ‬ثقب‭ ‬الأوزون،‭ ‬بل‭ ‬نسف‭ ‬الأوزون،‭ ‬سيرفع‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬على‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض‭ ‬بحيث‭ ‬يضطر‭ ‬الأوروبيون‭ ‬والأمريكيون‭ ‬إلى‭ ‬قضاء‭ ‬معظم‭ ‬شهور‭ ‬السنة‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬حاملين‭ ‬معهم‭ ‬أكياس‭ ‬العملات‭ ‬الصعبة‭ ‬لأن‭ ‬الحر‭ ‬عندنا‭ ‬سيظل‭ ‬محتفظاً‭ ‬بـ«أصالته‮»‬‭ ‬بينما‭ ‬سيكون‭ ‬الحر‭ ‬عندهم‭ ‬‮«‬مفبركاً‮»‬‭ ‬وخانقاً‭.‬

وإنني‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية‭ ‬أهيب‭ ‬بشعوب‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬أن‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬الأسلحة‭ ‬اللازمة‭ ‬لقصف‭ ‬الأوزون‭ ‬حتى‭ ‬يزول‭ ‬نهائياً‭ ‬فترتفع‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة،‭ ‬ويذوب‭ ‬القطب‭ ‬الشمالي،‭ ‬وتبتلع‭ ‬المياه‭ ‬معظم‭ ‬أجزاء‭ ‬أوروبا‭ ‬فيضطر‭ ‬سكانها‭ ‬إلى‭ ‬اللجوء‭ ‬إلينا،‭ ‬نحن‭ ‬أهل‭ ‬الجنوب،‭ ‬حاملين‭ ‬معهم‭ ‬مصانعهم،‭ ‬فنريهم‭ ‬النجوم‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬الظهيرة‭ ‬في‭ ‬المطارات،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬نسمح‭ ‬لهم‭ ‬بالعمل‭ ‬لدينا‭ ‬كأجراء‭ ‬‮«‬لا‭ ‬شركاء‮»‬،‭ ‬عملا‭ ‬بوصية‭ ‬صاحب‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬زنقة،‭ ‬زنقة،‭ ‬بيت،‭ ‬بيت‮»‬،‭ ‬سيئ‭ ‬الذكر‭ ‬معمر‭ ‬الجزافي،‭ ‬فتختفي‭ ‬بذلك‭ ‬الهوة‭ ‬بين‭ ‬الشمال‭ ‬الغني‭ ‬والجنوب‭ ‬الفقير‭ ‬ونصبح‭ ‬‮«‬كلنا‭ ‬في‭ ‬البؤس‭ ‬شرق‮»‬‭!!‬

ورغم‭ ‬جهلي‭ ‬بشؤون‭ ‬الأوزون‭ ‬فإنني‭ ‬أحسن‭ ‬حالاً‭ ‬من‭ ‬صاحبنا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬الديمقراطية‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬الجلدية‭ ‬المعدية‭ ‬والفتاكة،‭ ‬ويقول‭ ‬صاحبنا‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬عزز‭ ‬عنده‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬أنه‭ ‬سمع‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬أن‭ ‬علاج‭ ‬الديمقراطية‭ ‬هو‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الديمقراطية‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬فهم‭ ‬صاحبنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬أن‭ ‬التطعيم‭ ‬بمصل‭ ‬واقٍ‭ ‬يمنع‭ ‬الإصابة‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬التطعيم‭ ‬هو‭ ‬تزويد‭ ‬الجسم‭ ‬بجرعة‭ ‬من‭ ‬الميكروب‭ ‬أو‭ ‬الطفيل‭ ‬الذي‭ ‬يسبب‭ ‬مرضاً‭ ‬بعينه،‭ ‬وقياساً‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬حقن‭ ‬الجسم‭ ‬بمصل‭ ‬‮«‬الديمقراطية‮»‬‭ ‬يمنع‭ ‬الإصابة‭ ‬بالديمقراطية‭.‬

ولسبب‭ ‬لا‭ ‬أفهمه‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬أقربائي‭ ‬يربط‭ ‬‮«‬عدم‭ ‬الفهم‮»‬‭ ‬بسنغافورة،‭ ‬فإذا‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬شيئاً‭ ‬حسب‭ ‬أن‭ ‬القصد‭ ‬من‭ ‬ورائه‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الاستغفال‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الاستهبال‮»‬‭ ‬فإنه‭ ‬يرد‭ ‬عليك‭: ‬فاكرنني‭ ‬من‭ ‬سنغافورة؟‭ (‬هل‭ ‬تحسبني‭ ‬من‭ ‬سنغافورة؟‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬فشلت‭ ‬كافة‭ ‬المحاولات‭ ‬لإقناعه‭ ‬بأن‭ ‬أهل‭ ‬سنغافورة‭ ‬أذكياء‭ ‬وممتلئون‭ ‬حركة‭ ‬ونشاطاً،‭ ‬وأنهم‭ ‬يجنون‭ ‬الثروات‭ ‬من‭ ‬بيع‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الأوكسجين‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬طائل،‭ ‬فإذا‭ ‬أراد‭ ‬قريبنا‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬يصمك‭ ‬بالغباء‭ ‬فإنه‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬مكانك‭ ‬الطبيعي‭ ‬هو‭ ‬سنغافورة‭! ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬الكل‭ ‬كان‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بعبارة‭ ‬‮«‬يا‭ ‬ريت‮»‬‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يتنازل‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬عن‭ ‬موقفه‭ ‬مما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬سنغافورة‮»‬‭... ‬بمفهومه‭ ‬هو‭ ‬بالطبع‭!!‬

وأجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬أنني‭ ‬مع‭ ‬جهلي‭ ‬بأمر‭ ‬الأوزون،‭ ‬وصاحبي‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬وقريبي‭ ‬السنغافوري،‭ ‬جميعنا‭ ‬‮«‬مثقفون‮»‬‭ ‬لأن‭ ‬العبرة‭ ‬ليست‭ ‬بالمعاني،‭ ‬بل‭ ‬بالعبارات‭ ‬والألفاظ‭ ‬والأسماء‭ ‬الرنانة‭. ‬فإذا‭ ‬صعدت‭ ‬إلى‭ ‬منبر‭ ‬وأعلنت‭ ‬أمام‭ ‬الملأ‭ ‬وأنا‭ ‬متسلح‭ ‬بنظارتين‭ ‬وكرافته‭ ‬‮«‬إن‭ ‬معهد‭ ‬انزايم‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬سامبدوريا‭ ‬الأمريكية‭ ‬توصل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الفسيخ‭ ‬يحوي‭ ‬كاربوهيدرات‭ ‬البلوتونيوم‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬خطراً‭ ‬على‭ ‬الأوزون‭ ‬والبروتون‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬جملة‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬كفيلة‭ ‬بتوصيلي‭ ‬إلى‭ ‬استوديوهات‭ ‬التلفزيون،‭ ‬وصالات‭ ‬الفنادق‭ ‬الفخمة‭ ‬لتناول‭ ‬الوجبات‭ ‬المجانية‭.‬

باختصار‭ ‬فإن‭ ‬بضع‭ ‬كلمات‭ ‬طنانة‭ ‬مطعمة‭ ‬بمفردات‭ ‬أفرنجية‭ ‬تكفي‭ ‬لإيصال‭ ‬قائلها‭ ‬إلى‭ ‬غايات‭ ‬المجد‭ ‬وارضاء‭ ‬نزعاته‭ ‬الشوفينية‭ *‬،‭ ‬باعتبار‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬مشتقة‭ ‬من‭ ‬اللفظة‭ ‬العامية‭ ‬‮«‬شوفوني‮»‬‭. ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬أن‭ ‬أصل‭ ‬الكلمة‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬‮«‬الشوف‮»‬‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬التي‭ ‬يشتهر‭ ‬أهلها‭ ‬بالعصبية‭ ‬الزائدة‭ ‬في‭ ‬انتمائهم‭ ‬الإقليمي‭ ‬والقطري‭ ‬والقومي‭ ‬والدولي،‭ ‬ويعود‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬انتشار‭ ‬الكلمة‭ ‬إلى‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬اللبناني‭ ‬الذي‭ ‬عجز‭ ‬عن‭ ‬بناء‭ ‬خلايا‭ ‬في‭ ‬الشوف‭ ‬فأصبح‭ ‬يصف‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يرفض‭ ‬عضويته‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬شوفيني‮»‬‭.‬

‭* ‬لعلم‭ ‬القارئ‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬بهذه‭ ‬الكلمة‭ ‬فإنها‭ ‬تعني‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬العموم‭ ‬التعصب‭ ‬القومي‭/ ‬الوطني‭ ‬الأعمى‭ ‬مقرونا‭ ‬بالاستعلاء‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا