زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
استعلاء باستعلاء
عندما وصلت قبل خمسة أعوام مع عائلتي الى غلاسغو ثانية أكبر المدن الاسكتلندية، وجدنا أن سيدي مثل ستي، يعني لا تختلف ملامحها العامة عن بقية مدن بريطانيا، نفس المباني التي يفوح منها عبق التاريخ، ولكن غلاسغو قد «تتفوق» على غيرها من مدن بريطانيا في كونها تحتضن عدداً أكبر من الحانات، فبين كل عشرة متاجر تجد ثلاث خمارات، والاسكتلنديون أشهر من ينتج الخندريس المسمى «ويسكي»، ووجبات الغداء في أماكن العمل في اسكتلندا «سائلة»، أي أنهم يشربون كميات مهولة من البيرة يملأون بها بطونهم، ولا يتناولون معها طعاما صلبا، ومعروف أيضا أنهم يقبلون على المخدرات أكثر من بقية البريطانيين بمعنى أن المخدرات أكثر تفشياً في بلدهم.
وكان لدينا أصدقاء في هذه المدينة كفونا مشقة التعامل مع الفنادق، واستأجروا لنا بيتاً فاخراً (بالمقاييس المحلية)، صاحبه من أصل آسيوي، وظل الرجل يطوف معنا أرجاء البيت وهو يشرح لنا كيف نستخدم المفاتيح الكهربائية وصنابير المياه، وكيف نغلق الأبواب ونفتحها: هذا الجهاز اسمه فرن المايكروويف ويستخدم للطبخ وتسخين الطعام بالضغط على الأزرار على النحو التالي و.. وهذا الذي إلى جواره هو الكوكر، ويستخدم للطبخ أيضاً ويتم فتح الغاز بتدوير هذه المفاتيح الى اليسار، ثم تشعل الكبريت وتضع الشعلة على مقربة من عين الغاز لتشعل النار، وهذا الصندوق المحشور بين الخزانات هو جهاز غسل الملابس: تضع الملابس عبر هذه الفتحة ثم تصب مسحوق الصابون في هذا المجرى ثم تدير المفتاح ذاك، وتعود بعد نحو أربعين دقيقة لتجد الملابس نظيفة.
وهنا فاض بي الكيل فقلت له: لماذا اشتريت هذا الكوكر البدائي وفي السوق منذ أكثر من ثلاثين سنة أنواع منه بها نظام اشعال الكتروني أو كهربائي، ولماذا لم تشتر غسالة ملابس بها خاصية التجفيف؟ ولعلمك يا باشا فإن بيتك كله بحديقته أصغر من ديوان (مجلس الرجال) في بيتنا في جزيرة بدين، وعندما دخلت الكهرباء السودان لم يكن قومك في بلدك الأم قد اكتشفوا الملابس، ولعلمك فإنه لا يفرش الموكيت في الحمام إلا شخص متخلف لأن الموكيت يختزن المياه السائلة من الدوش والروائح الكريهة، والعالم يتجه إلى التخلص من الموكيت نهائياً حتى في غرف النوم.
وبالمناسبة فإنني أملك بيتاً في السودان يعتبر بيتك مقارنة به مجرد مخزن للمهملات، (ربما كان في هذا بعض الكذب والمبالغة)، هنا بدأ الرجل يعتذر بأنه لم يكن يقصد أن يعاملنا كقوم يجهلون التعامل مع أبسط أدوات العصر.. فطلبت منه بكل أدب أن يغادر البيت لأننا لا نود رؤية وجهه إلا عندما نقوم بتسليمه المفاتيح يوم نغادر نحن البيت نهائياً، خاصة وأننا سلمناه الأجرة مقدما.
وقبلها بسنة كنت في فندق شبه محترم في لندن عندما لاحظت أن حوض الغسيل في الغرفة لا يقوم بتصريف المياه فاتصلت بقسم الخدمات فأرسلوا سباكاً قام باستخدام الكباس لفتح الحوض ثم خاطبني قائلاً: لا ترموا الأجسام الصلبة والورق في حوض الغسيل لأنها تتسبب في انسداده فقلت له: شوف بالله؟ حسبنا الحوض في بادئ الأمر دورة المياه، ولما انتبهنا لكونه شديد الارتفاع «راجعنا» أنفسنا وقلنا أنه قد يكون سلة القمامة وكنا نصب فيه فضلات الطعام والنفايات، ولاحظت أن الرجل محتار ولا يعرف ما إذا كنت جادا، أو مستخفا به، فقررت أن أوضح له الأمر وقلت: يا حمار يا ابن قراد الكلب نحن دخلنا الغرفة قبل عشرة دقائق، ثم تعال شوف بيوتنا لتكتشف أنك لا تصلح حتى أن تكون كلب حراسة فيها.
مثل هذا التصرف وهذه الأقوال من خصالي «الجميلة»: لا أترك لخواجة فرصة ممارسة الاستعلاء عليّ، لأنني تخلصت من عقدة النقص تجاه الجنس الأبيض بكثرة الاحتكاك به واكتشافي أنهم لا يعرفون شيئا عن الشعوب غير البيضاء، ويعتبرونهم بدائيين لا صلة لهم بالعصر الحديث، الذي يفترضون أنهم سادته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك