زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
شتان ما بين اللطافة والجلافة (1)
أكثر ما يحيرني هو أن وسائل الإعلام عندنا تناقش مختلف القضايا التي تعتقد أنها ملحة ومهمة مثل العنوسة والفساد وتردي مستويات التعليم وجنوح الأحداث، ولكنها تهمل أمر وباء تفشى في مجتمعاتنا وباض وأفرخ: الجلافة وقلة الذوق وعدم التهذيب، وجميعها تندرج تحت مسمى سوء الخلق، بينما معاملة الآخرين بأدب واحترام وكياسة وتهذيب تمثل «حسن الخلق»، ولا يكاد يمر يوم دون أن يتعرض الواحد منا أو يكون شاهداً على موقف أو مسلك ينم عن غياب حسن الخلق. ذات مرة كنت قد أوقفت سيارتي أمام بقالة وعدت إليها بعد نحو دقيقتين ووجدت سيارة أخرى تسد عليّ طريق الخروج، ولما طال غياب صاحبها دخلت البقالة ورفعت صوتي قليلاً راجياً من صاحب السيارة الكذا وكذا أن يحركها من مكانها كي يتسنى لي الانصراف، ولم يكن بالبقالة أكثر من أربعة أشخاص وكان صاحب السيارة المعنية من بينهم بالتأكيد، ولكنه لم يكلف نفسه عناء الرد عليّ فعدت ووقفت إلى جانب سيارتي، حتى جاء سيادته وتوجه نحو سيارته، وأنا أنظر إليه دون أن أنطق بكلمة، فما كان منه إلا أن صاح في وجهي: رجاء أنا صائم وخلقي ضايق وما أبغي منك محاضرة!! قلت له بهدوء: ليس لك مني محاضرة أو مهاترة، ويفترض أن الصوم يعلم الناس الصبر وسعة الصدر، وليس «ضيق الخلق»، فرد علي بعدوانية: بلاش فلسفة (الفلسفة أم كل العلوم تعني عندنا الكلام الفارغ أو عديم المعنى)، وتعمد أن ينطلق بسيارته محدثا غبارا يحجب الرؤية.
والمصيبة هي أننا لا ندرك أن سوء الخلق وانعدام التهذيب نوع من أنواع العنف، بل يفضي إلى العنف الجسدي، فلو قابلت جلافة شخص ما بجلافة مماثلة فإن العاقبة هي الدخول في مبارزة بالألسن ثم «مضاربة» بالأيدي، يعني تصرف غير مهذب قد يقود إلى جريمة. والعنف اللفظي بين الأزواج قد يقود إلى الطلاق وفركشة العائلة، والظاهرة المستجدة في مجتمعاتنا هي سوء الظن بالغرباء، والغرباء هنا ليسوا الأجانب أو الذين هبطوا من كواكب أخرى بل الناس الذين لا تربطنا بهم علاقة قربى أو زمالة عمل أو «تعارف»، بدرجة أنه لم تعد هناك حقوق «جيرة»، أي ان الجار يعامل معالمة الغريب، فقد صار كل واحد منا يعيش داخل فقاعة خاصة به ويخشى عليها من الانفجار، إذا اقترب من الآخرين، كما يتطلب الحس السوي والخلق القويم، وهكذا تجلس في الطائرة في المقعد المخصص لك، ولكن من سبقك إلى المقعد المجاور ينظر إليك وكأنك ستقطع جزءاً من لحمه وتجلس عليه، وإذا كان يتمتع بدرجة معقولة من التهذيب فإنه ينظر بعيدا عنك، وكأنك تحمل كاوية لحام ستؤثر على بصره. بل أنظر قلة الذوق في مطاراتنا عند النداء على الركاب للتوجه إلى الطائرة: يتدافع الناس في البوابات وسلالم ومداخل الطائرات وكأن من يدخل الطائرة أولاً سينال جائزة نوبل للفيزياء، وأن من يتلكأ في دخول الطائرة ستقول له المضيفة: سوري كل المقاعد امتلأت، شوف رحلة / طائرة ثانية.
وجرَّب أن تبقي الباب المزدوج في ممر مستشفى -مثلاً- مفتوحاً كي يمر الآخرون وانظر كم واحد منهم سيقول لك: شكراً! ربما يقولها واحد من بين كل عشرة، والنتيجة هي أنك ستقرر أن تصبح جلفا مثلهم ولن تمسك بالباب كي يبقى مفتوحاً حتى لو كان هناك شخص سيمر منه وراءك مباشرة، وكثيرا ما رأيت ذا إعاقة على كرسي متحرك يحاول دخول اسانسير في مكان عام، فلا يفسح له الآخرون الطريق، والجلافة مُعدية وسريعة الانتشار، لأنك كلما لمست السلوك الجلف من الآخرين تصبح أقل استعدادا للسلوك المهذب، رغم أن هذا الضرب من السلوك لا يتطلب جهداً، بينما حسن الخلق يأتي بترويض النفس وتدريبها على كظم الغيظ وعدم الاشتغال والانفعال بتوافه الأمور وإدراك أن الآخرين يخطئون وأن الصفح عنهم أجمل من الانتقام اللفظي أو الجسدي، ومعاملة الناس بالحسنى نوع من العمل الخيري الطوعي ومردوده يصون كبرياء المانح والمتلقي. وإذا كنت تريد أن تتفرج على الجلافة «بالجملة» فقف على رصيف شارع وانظر كيف تتبارى السيارات في الانعطافات الخاطئة والتسابق الأرعن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك