العدد : ١٦٨٣٢ - الثلاثاء ٢٣ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٣٢ - الثلاثاء ٢٣ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الحجر للفت النظر

هذه‭ ‬حكاية‭ ‬تناولتها‭ ‬عرضا‭ ‬وعلى‭ ‬نحو‭ ‬عابر‭ ‬هنا‭ ‬قبل‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة،‭ ‬وأود‭ ‬أن‭ ‬أشرككم‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬تفاصيلها‭ ‬اليوم،‭ ‬فاقرأوا‭ ‬وتفكروا‭:‬    

كان‭ ‬الشاب‭ ‬يقود‭ ‬سيارته‭ ‬بي‭ ‬إم‭ ‬دبليو‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬داخل‭ ‬حي‭ ‬سكني‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة‭ ‬منتشياً‭ ‬ومزهوّا‭ ‬لكونه‭ ‬ناجحاً‭ ‬في‭ ‬عمله،‭ (‬ولا‭ ‬يهمك‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬فأنت‭ ‬أيضا‭ ‬تملك‭ ‬بي‭ ‬إم‭ ‬دبليو‭ ‬BMW‭ ‬عتيقة‭: ‬بي‭= ‬بكرة،‭ ‬إم‭= ‬معليش،‭ ‬دبليو‭= ‬ولا‭ ‬يهمك‭)‬،‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الانبساط‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صار‭ ‬مدير‭ ‬إدارة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬الـ27،‭ ‬وخطب‭ ‬فتاة‭ ‬جميلة،‭ ‬ولديه‭ ‬رصيد‭ ‬مصرفي‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬به،‭ ‬ولاحظ‭ ‬صاحبنا‭ ‬خلو‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬الأطفال،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يسعد‭ ‬بالتمايل‭ ‬بالسيارة‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة،‭ ‬وهو‭ ‬يمارس‭ ‬التفحيط،‭ ‬وفجأة‭ ‬رأى‭ ‬حجراً‭ ‬كبيراً‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬صوب‭ ‬سيارته‭ ‬فقام‭ ‬بمناورة‭ ‬جعلت‭ ‬الحجر‭ ‬يضرب‭ ‬الباب‭ ‬الخلفي‭ ‬للسيارة،‭ ‬فأوقفها‭ ‬ونزل‭ ‬فإذا‭ ‬هي‭ ‬منبعجة‭ ‬حيث‭ ‬أصابها‭ ‬الحجر،‭ ‬وتلفت‭ ‬فوجد‭ ‬صبياً‭ ‬يستتر‭ ‬وراء‭ ‬جدار،‭ ‬فأمسك‭ ‬به‭ ‬وهو‭ ‬يصيح‭: ‬من‭ ‬الذي‭ ‬ألقى‭ ‬الحجر‭ ‬على‭ ‬سيارتي‭ ‬يا‭ ‬غبي‭ ‬ويا‭ ‬حيوان‭ ‬ويا‭ ‬حاقد؟‭ ‬انظر‭ ‬حجم‭ ‬التلف‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بها‭! ‬ونزلت‭ ‬الدموع‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬الصبي‭ ‬وقال‭: ‬سامحني‭ ‬لأنني‭ ‬من‭ ‬رمى‭ ‬ذلك‭ ‬الحجر‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمامي‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬أخرى‭! ‬طريقة‭ ‬أخرى‭ ‬لماذا‭ ‬يا‭ ‬ولد‭ ‬يا‭ ‬أهبل؟‭ ‬قال‭ ‬الصبي‭: ‬حاولت‭ ‬إيقاف‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬السيارات‭ ‬المارة‭ ‬ولكنها‭ ‬جميعاً‭ ‬لم‭ ‬تستجب‭ ‬لمحاولاتي،‭ ‬فقررت‭ ‬إيقافك‭ ‬بضرب‭ ‬سيارتك‭ ‬بحجر‭!.. ‬ولماذا‭ ‬تريد‭ ‬إيقافي؟‭ ‬هل‭ ‬تعرفني؟‭ ‬هل‭ ‬بيني‭ ‬وبينك‭ ‬ثأر؟‭ ‬هل‭ ‬أنت‭ ‬مستوى‭ ‬بي‭ ‬إم‭ ‬دبليو‭ ‬كي‭ ‬أقوم‭ ‬بتوصيلك‭ ‬الى‭ ‬الحي‭ ‬العشوائي‭ ‬الذي‭ ‬تعيش‭ ‬فيه؟‭ ‬تحول‭ ‬بكاء‭ ‬الصبي‭ ‬إلى‭ ‬نشيج‭ ‬ونحيب‭ ‬وقال‭: ‬إن‭ ‬أخي‭ ‬هناك‭ ‬قرب‭ ‬تلك‭ ‬السيارة‭.. ‬لقد‭ ‬سقط‭ ‬من‭ ‬كرسيه‭ ‬المتحرك‭ ‬وعجزت‭ ‬عن‭ ‬رفعه‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬واضطررت‭ ‬إلى‭ ‬إيقافك‭ ‬بتلك‭ ‬الطريقة‭ ‬كي‭ ‬تساعدني‭! ‬أرجوك‭ ‬ساعدني،‭ ‬لأنه‭ ‬يئنّ‭ ‬ويتألم،‭ ‬فنظر‭ ‬الشاب‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬أشار‭ ‬الصبي‭ ‬فرأى‭ ‬كرسياً‭ ‬بعجلات‭ ‬مقلوباً‭ ‬وفي‭ ‬حفرة‭ ‬قريبة‭ ‬منه‭ ‬شاب‭ ‬كان‭ ‬واضحاً‭ ‬أنه‭ ‬يعاني‭ ‬إعاقة‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬الحركة‭.‬

هز‭ ‬الموقف‭ ‬الشاب‭ ‬صاحب‭ ‬البي‭ ‬إم‭ ‬دبليو،‭ ‬وتحول‭ ‬غضبه‭ ‬إلى‭ ‬حزن‭ ‬مشوب‭ ‬بالخجل،‭ ‬وفي‭ ‬غضون‭ ‬دقائق‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أجلس‭ ‬الشاب‭ ‬المعاق‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬ثم‭ ‬أخرج‭ ‬منديله‭ ‬الورقي‭ ‬المعطر‭ ‬النظيف‭ ‬ومسح‭ ‬عن‭ ‬وجهه‭ ‬التراب‭ ‬واطمأن‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يصب‭ ‬جراء‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬الحفرة،‭ ‬وهكذا‭ ‬تصافحا‭ ‬بينما‭ ‬لسان‭ ‬الصبي‭ ‬يلهج‭ ‬بشكر‭ ‬الشاب‭ ‬صاحب‭ ‬السيارة‭ ‬الفارهة‭ ‬على‭ ‬شهامته‭ ‬ونبله،‭ ‬وعاد‭ ‬صاحبنا‭ ‬إلى‭ ‬سيارته‭ ‬ولاحظ‭ ‬أن‭ ‬الحجر‭ ‬ألحق‭ ‬بها‭ ‬تلفاً‭ ‬بليغاً‭ ‬ولكنه‭ ‬قرر‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬‮«‬الطعجة‭ ‬والانبعاج‮»‬‭ ‬كي‭ ‬يتذكر‭ ‬أن‭ ‬عليه‭ ‬عدم‭ ‬الاندفاع‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬بحيث‭ ‬يكون‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يلقي‭ ‬عليه‭ ‬حجراً‭ ‬ليقول‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭: ‬خفف‭ ‬الوطء‭ ‬ما‭ ‬أظن‭ ‬أديم‭ ‬الأرض‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأجساد‭.‬

كثيرون‭ ‬منا‭ ‬يمتلئون‭ ‬تيهاً‭ ‬وخيلاء‭ ‬لأنهم‭ ‬صاروا‭ ‬‮«‬فوق‮»‬‭: ‬عمارات‭ ‬وفلل‭ ‬وأساطيل‭ ‬سيارات‭ ‬وحسابات‭ ‬بنكية‭ ‬متخمة،‭ ‬وينسون‭ ‬أنهم‭ ‬مثلي‭ ‬ومثلك‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬ودم‭ ‬ومشاعر‭ ‬وعرضة‭ ‬للمرض‭ ‬والألم‭ ‬والفقد‭ ‬والخسارة،‭ ‬فترمي‭ ‬الأقدار‭ ‬بحجارة‭ ‬في‭ ‬وجوههم‭ ‬أو‭ ‬جنوبهم‭ ‬ليفيقوا‭.. ‬فيفيق‭ ‬من‭ ‬به‭ ‬بقية‭ ‬من‭ ‬ضمير،‭ ‬ويتمادى‭ ‬بقيتهم‭ ‬في‭ ‬غيِّهم‭ ‬وغطرستهم،‭ ‬والمدير‭ ‬الذي‭ ‬يذرع‭ ‬الممرات‭ ‬بين‭ ‬المكاتب‭ ‬وحذاؤه‭ ‬يصدر‭ ‬إيقاعات‭ ‬منغمة‭: ‬كك‭ ‬كرك‭ ‬كك‭ ‬كرك‭.. ‬وكأنه‭ ‬سيخرق‭ ‬الأرض‭ ‬ويبلغ‭ ‬الجبال‭ ‬طولا،‭ ‬وتمنعه‭ ‬إيقاعات‭ ‬حذائه‭ ‬عن‭ ‬سماع‭ ‬التحيات‭ ‬التي‭ ‬يلقيها‭ ‬عليه‭ ‬الموظفون‭ ‬وشكاواهم‭ ‬ومظالمهم،‭ ‬قد‭ ‬يأتيه‭ ‬حجر‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬تقرير‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬المحاسبة‭ ‬يكشف‭ ‬تجاوزاته‭ ‬المالية‭ ‬أو‭ ‬قرار‭ ‬بإنهاء‭ ‬خدماته،‭ ‬عندها‭ ‬فقط‭ ‬يتذكر‭ ‬أنه‭ ‬خصم‭ ‬راتب‭ ‬أسبوع‭ ‬من‭ ‬موظف‭ ‬راتبه‭ ‬بضعة‭ ‬دريهمات،‭ ‬وأنه‭ ‬‮«‬فنَّش‮»‬‭ ‬عاملاً‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬لأنه‭ ‬رفض‭ ‬غسل‭ ‬سيارته‭ ‬بلا‭ ‬مقابل‭.‬

فلنشق‭ ‬طريقنا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬بلا‭ ‬اندفاع‭ ‬أو‭ ‬خيلاء،‭ ‬فالمطبات‭ ‬كثيرة،‭ ‬ولكل‭ ‬شيء‭ ‬ضده‭! ‬وما‭ ‬طار‭ ‬طير‭ ‬وارتفع‭ ‬إلا‭ ‬كما‭ ‬طار‭ ‬وقع‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا