زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الحجر للفت النظر
هذه حكاية تناولتها عرضا وعلى نحو عابر هنا قبل أشهر قليلة، وأود أن أشرككم في كامل تفاصيلها اليوم، فاقرأوا وتفكروا:
كان الشاب يقود سيارته بي إم دبليو الجديدة في شارع داخل حي سكني بسرعة فائقة منتشياً ومزهوّا لكونه ناجحاً في عمله، (ولا يهمك أيها القارئ فأنت أيضا تملك بي إم دبليو BMW عتيقة: بي= بكرة، إم= معليش، دبليو= ولا يهمك)، المهم أن ذلك الشاب كان في منتهى الانبساط بعد أن صار مدير إدارة قبل أن يبلغ الـ27، وخطب فتاة جميلة، ولديه رصيد مصرفي لا بأس به، ولاحظ صاحبنا خلو الشارع من الأطفال، مما جعله يسعد بالتمايل بالسيارة يمنة ويسرة، وهو يمارس التفحيط، وفجأة رأى حجراً كبيراً يشق طريقه صوب سيارته فقام بمناورة جعلت الحجر يضرب الباب الخلفي للسيارة، فأوقفها ونزل فإذا هي منبعجة حيث أصابها الحجر، وتلفت فوجد صبياً يستتر وراء جدار، فأمسك به وهو يصيح: من الذي ألقى الحجر على سيارتي يا غبي ويا حيوان ويا حاقد؟ انظر حجم التلف الذي لحق بها! ونزلت الدموع من وجه الصبي وقال: سامحني لأنني من رمى ذلك الحجر لأنه لم يكن أمامي من طريقة أخرى! طريقة أخرى لماذا يا ولد يا أهبل؟ قال الصبي: حاولت إيقاف عدد من السيارات المارة ولكنها جميعاً لم تستجب لمحاولاتي، فقررت إيقافك بضرب سيارتك بحجر!.. ولماذا تريد إيقافي؟ هل تعرفني؟ هل بيني وبينك ثأر؟ هل أنت مستوى بي إم دبليو كي أقوم بتوصيلك الى الحي العشوائي الذي تعيش فيه؟ تحول بكاء الصبي إلى نشيج ونحيب وقال: إن أخي هناك قرب تلك السيارة.. لقد سقط من كرسيه المتحرك وعجزت عن رفعه على الكرسي واضطررت إلى إيقافك بتلك الطريقة كي تساعدني! أرجوك ساعدني، لأنه يئنّ ويتألم، فنظر الشاب إلى حيث أشار الصبي فرأى كرسياً بعجلات مقلوباً وفي حفرة قريبة منه شاب كان واضحاً أنه يعاني إعاقة تمنعه من الحركة.
هز الموقف الشاب صاحب البي إم دبليو، وتحول غضبه إلى حزن مشوب بالخجل، وفي غضون دقائق كان قد أجلس الشاب المعاق على الكرسي ثم أخرج منديله الورقي المعطر النظيف ومسح عن وجهه التراب واطمأن إلى أنه لم يصب جراء السقوط في الحفرة، وهكذا تصافحا بينما لسان الصبي يلهج بشكر الشاب صاحب السيارة الفارهة على شهامته ونبله، وعاد صاحبنا إلى سيارته ولاحظ أن الحجر ألحق بها تلفاً بليغاً ولكنه قرر الإبقاء على «الطعجة والانبعاج» كي يتذكر أن عليه عدم الاندفاع في الحياة بحيث يكون بحاجة إلى من يلقي عليه حجراً ليقول له ما قاله أبو العلاء المعري: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
كثيرون منا يمتلئون تيهاً وخيلاء لأنهم صاروا «فوق»: عمارات وفلل وأساطيل سيارات وحسابات بنكية متخمة، وينسون أنهم مثلي ومثلك من لحم ودم ومشاعر وعرضة للمرض والألم والفقد والخسارة، فترمي الأقدار بحجارة في وجوههم أو جنوبهم ليفيقوا.. فيفيق من به بقية من ضمير، ويتمادى بقيتهم في غيِّهم وغطرستهم، والمدير الذي يذرع الممرات بين المكاتب وحذاؤه يصدر إيقاعات منغمة: كك كرك كك كرك.. وكأنه سيخرق الأرض ويبلغ الجبال طولا، وتمنعه إيقاعات حذائه عن سماع التحيات التي يلقيها عليه الموظفون وشكاواهم ومظالمهم، قد يأتيه حجر على هيئة تقرير من ديوان المحاسبة يكشف تجاوزاته المالية أو قرار بإنهاء خدماته، عندها فقط يتذكر أنه خصم راتب أسبوع من موظف راتبه بضعة دريهمات، وأنه «فنَّش» عاملاً في مكتبه لأنه رفض غسل سيارته بلا مقابل.
فلنشق طريقنا في الحياة بلا اندفاع أو خيلاء، فالمطبات كثيرة، ولكل شيء ضده! وما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك