قاسم دراني - لندن:
نزل تجار بازار طهران إلى الشوارع أمس لليوم الثالث على التوالي احتجاجا على أزمة اقتصادية غير مسبوقة وارتفاع سعر العملة وتصاعد معدلات التضخم. هذا المشهد يعيد إلى الذاكرة دور البازار كفاعل يتجاوز التجارة ليصبح مرآة للاختناق الاقتصادي ومؤشرا سياسيا حساسا في إيران.
منذ نشأته لم يكن البازار مجرد مكان للبيع والشراء بل مؤسسة اجتماعية متجذرة في قلب المدن الايرانية ومرتبطة بنسيج من العلاقات العائلية والدينية والمالية. هذا الامتداد جعل منه قناة لنقل المزاج الشعبي وأداة ضغط صامتة قادرة على إرباك السلطة حين تتراكم الأزمات. في عهد الشاه كان البازار في مواجهة مشروع تحديث فوقي سعى إلى تهميشه لصالح اقتصاد مركزي مرتبط بالدولة ورأس المال الحديث. الضرائب والرقابة وتغيير أنماط الاستهلاك أضعفت مصالح التجار ودفعتهم إلى التحالف مع المؤسسة الدينية. عند اشتداد الاحتجاجات لعب إغلاق الأسواق وتعطيل شبكات التوزيع دورا حاسما في شل الحركة الاقتصادية وتسريع سقوط النظام. لم يرفع البازار شعارات سياسية بقدر ما استخدم قوته الاقتصادية الجماعية.
بعد الثورة أصبح البازار جزءا من النظام الجديد وحصل على حماية ومكانة خاصة. غير أن هذه الشراكة لم تخل من توتر. مع توسع الاقتصاد الريعي وظهور شركات شبه حكومية وازدياد نفوذ مؤسسات أمنية واقتصادية كبيرة تراجع دور البازار التقليدي. التضخم والعقوبات وتقلب سعر العملة أعادت الضغط على التجار وقلصت هوامشهم. اليوم لا يزال بازار طهران عقدة توزيع ومؤشرا مبكرا على حركة الاسعار. أي اضطراب فيه ينعكس مباشرة على حياة الناس ويقرأ سياسيا في أوساط النخبة. حين يغلق البازار أبوابه أو يحتج علنا، فإن الرسالة تكون أن الأزمة لم تعد محتملة وأن الخلل بلغ قلب الاقتصاد الحضري.
قدرة البازار على التضييق على السلطة تاريخيا جاءت من سلوكه الاقتصادي لا من العمل الحزبي. الامتناع عن البيع وتعطيل التدفق التجاري ورفع كلفة الاستقرار كانت أدوات فعالة، لكن الظروف الحالية أكثر تعقيدا. القبضة الامنية وتغير بنية السوق وتعدد مراكز القوة تجعل تكرار دور الماضي أمرا صعبا، إن لم يكن مستحيلا.
مع ذلك يظل البازار قادرا على تمثيل شريحة واسعة من الطبقة الوسطى ونقل ضيقها الاقتصادي. حين يتقاطع غضب التجار مع غضب الشارع تتشكل لحظة فارقة. أما التحول السياسي الشامل فيتطلب تحالفات أوسع وظروفا اقتصادية خانقة تتجاوز قدرة السوق وحده. لكن رغم كل ذلك مازال بازار طهران ليس ظاهرة اقتصادية فحسب بل فاعلا سياسيا غير مكتوب. فهم دوره يعني فهم العلاقة المعقدة بين السوق والسلطة في إيران. ما يجري اليوم في شوارعه يذكر بأن الاقتصاد حين يختنق يتكلم بلسان السياسة.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك