يلامسُ «مشروعُ الشرقِ الأوسطِ الجديد» أحدَ أكثر المفاهيمِ الجيوسياسيَّة إثارةً للجدلِ في القرنِ الحادي والعشرين، حيث تتعددُ طبقات الحقيقة حول هذا المشروع، بين:
أولاً: ما تمَّ إعلانُه حقا، في خطابِ كولن باول العلنيِّ أمامَ الأممِ المتحدةِ في مارس 2003، حولَ «تحرير العراق»، و«مكافحةِ أسلحةِ الدمارِ الشامل»، و«نشرِ الديمقراطيَّة»، والذي لم يعلن فيه صراحةً عن خطةٍ إقليميَّة باسم «الشرقِ الأوسطِ الجديد»، ولكن هذه الذرائعَ كانت تُفهمُ في ذلك الإطارِ الاستراتيجيِّ الأوسع؛ وما جاء في تصريحاتِ كونداليزا رايس حول «الفوضى الخلاقة» (Creative Chaos) بعد حرب لبنان عام 2006، وفي سياق الحرب على العراق، وسياق استخدام المصطلح في وصف الفترةِ الانتقاليَّةِ التي تمرُّ بها المنطقةُ كولادةٍ صعبة، وآلامِ مخاضٍ «لشرق أوسط جديد»، والذي قدمته كقراءةٍ تحليليَّةٍ للتحولاتِ الجارية، وليس كـ«خطةٍ» معلنة.
وثانياً: الجدلُ الحقيقيُّ بين التوثيقِ والإنكارِ وما يشكِّلُه ذلك من لب الإشكاليَّة، حيث الادعاءِ بأنه لا توجدُ وثيقةٌ رسميَّة باسم «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، ولا يوجد في أرشيفِ البيتِ الأبيض أو البنتاغون وثيقةُ سريَّةٌ أو علنيَّةٌ عنوانها The New Middle East Project، وما يشكِّله هذا الأمرُ من أساسٍ للإنكارِ الرسمي الذي يجعل المسؤولين الأمريكيين يؤكدون أنه لا يوجدُ مشروعٌ بهذا الاسم، فإن هذا الإنكارَ يواجه حقيقةً إنه كان «إستراتيجية شاملة» وليس بمسمى «مشروع»، وإن الفكرةَ كانت إستراتيجية عليا تم ترجمتُها، ومازالت، إلى سياساتٍ متعددة، منها إسقاطُ الأنظمةِ المعادية، وإعادةُ هندسة التحالفات، واحتواء وإضعاف القوى المناوئة، إضافة إلى ما يُدَّعى بنشر قيم الديمقراطيَّة الليبرالية بقوةِ السلاحِ أحياناً.
ثالثاً: وهو ما يمكن الاستنادُ إليه كأقوى دليلٍ على وجودِ إستراتيجيَّة متكاملة من خلال مصادر غير رسمية لكنها موثوقة جداً، أهمها خريطةُ «الشرق الأوسط الجديد» التي أعلنها العميدُ، والمُخَطِطُ الاستراتيجيُّ الأمريكيُّ المتقاعد رالف بيترز عام 2006، في مجلة Armed Forces Journal... وهي الخريطةُ التي أظهرت فكرةَ إعادة رسم حدود الشرق الأوسط بشكلٍ كامل (تقسيم السعودية، العراق، سوريا، إيران، وخلق دويلاتٍ طائفيَّةٍ وإثنية «كردستان، شيعستان»... وغيرها). ورغم الادعاء بأن ما نُشر لا يمثلُ الموقفَ الرسمي، إلا أنه يعكسُ التفكيرَ السائدَ في أروقةِ التخطيطِ الاستراتيجي الأمريكي ونبوءة مبكرة لما حصل حتى يومنا هذا من تمزُّق في المنطقة.
تعدُّ طبقاتُ الحقيقةِ المذكورة توثيقا غير مباشر لـ«مشروع الشرق الأوسط الكبير» ومكوناته (غزو العراق، خطاب الفوضى الخلاقة، مشروع الشرق الأوسط الكبير، خرائط المفكرين الاستراتيجيين)، رغم عدم وجود وثيقة واحدة جامعة؛ كما يمكن اعتمادُ الاعترافِ العلني، بوجود «إستراتيجية» لإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمصالح واشنطن ورؤيتها، كوثيقة رغم الإنكار الرسمي لمسمى «المشروع» ولفكرة وجود «مؤامرة» مبيَّتة.
إن الفجوةَ بين الخطابِ الأمريكي الرسمي (الديمقراطية والتحرير) والممارسةِ على الأرض (التفكيك وإعادة الهندسة) هي ما خلقت نظريةَ «المشروع»؛ وإن النتائجَ على الأرض، من تقسيم السودان إلى الحرب في سوريا واليمن وتمزق العراق، تشير إلى أن التطبيقَ العمليَّ كان أقربَ إلى «خريطة بيترز» منه إلى «خطاب الديمقراطية» الذي روَّج له كولن باول.
المنطقة التي تم تحديدها
بالشرق الأوسط
تعدُّ الشرقُ الأوسط أهم منطقة جيواستراتيجيَّة في العالم، من حيث كونها خزانَ الطاقةِ العالمي، ومركزَ طرق التجارة، وبؤرةَ الصراعات الدينية والإثنية، إضافة إلى أنها ساحةُ حربٍ باردة دائمة... هذا المزيجُ الجيواستراتيجي الفريد يجعلها مركزَ اهتمامِ العالم، حيث لا يمكنُ لبعض القوى الكبرى أن تتجاهلَها أو تسمحَ لقوةٍ منافسة بالسيطرةِ عليها. هذا الاهتمامُ ليس حديثاً، بل هو استمراريةٌ لتاريخٍ طويل من الصراعِ على ما تم وصفه بـ«قلب العالم»؛ صراعات ذات أوجهٍ متشابهة في الأهدافِ والآليات، ومختلفة في الأدوات والزمن والسياق، حيث التطورات تأخذ منحى أكثر تعقيداً مع تحولات العصر.
انطلاقاً من هذه الحقائقِ يمكنُ النظرُ إلى «مشروع الشرق الأوسط الجديد» (2003) كمرحلةٍ ثانية، أو تطور تاريخي لـ«إتفاقية سايكس بيكو» (1916)؛ حيث التشابه في المنطق والهندسة الجيوسياسية، ولكن مع أدوات وأهداف متقدمة، تتناسبُ مع متطلبات القرن الحادي والعشرين، الأكثر تعقيداً ووحشية.
المشروعان يتشابهان من حيث الجوهر، إذ كلاهما ينظران إلى المنطقة كخريطةٍ يمكنُ إعادةُ رسمها لخدمة مصالح خارجيَّة، دون اعتبار حقيقي لإرادة شعوبها أو هوياتها التاريخية؛ ويختلفان من حيث الشكل، إذ المشروع الجديد هو نسخةٌ من «سايكس بيكو» ولكن عبر الحروبِ الأهلية والطائفيَّة؛ أي بدلاً من تقسيم المنطقة بحدودٍ جديدة عبر اتفاقيات، يتمُّ دفعُها إلى التقسيمِ الذاتي عبر صراعاتٍ داخلية مدعومة خارجياً.
والمقارنة الأكثر دقة هي أن «سايكس بيكو» رسم الحدودَ الخارجية للدول، بينما «مشروع الشرق الأوسط الجديد» يعملُ على تدمير تلك الدول من الداخل وإعادة تركيبها كدويلاتٍ متناحرة يسهلُ التحكم فيها.
هذا التحليلُ لا يعني أن كلَّ ما يحدثُ في المنطقة هو مؤامرةٌ خارجيَّة بحتة، بل غالباً ما يتمُّ استغلالُ العوامل الداخلية للضعف والانقسام (الطائفي، العرقي، الاقتصادي) بشكلٍ منهجي ومنظم لتحقيق أهداف جيوسياسية كبرى.
هل حقق مشروعُ الشرق
الأوسط نجاحًا؟
هناك وجهتا نظر في الإجابة عن هذا السؤال الاستراتيجي؛ لذلك تعدُّ الإجابةُ، معقدة، من حيث زاوية الرؤية، فهل نجح في تحقيق أهداف مُخَطّطِيه؟ أم هل حقق نتائجَ مستقرة؟ أم فشل؟ والرؤية هنا تختلف لدى أصحاب الرأي، وربما تتفق.
من وجهة نظر مُخطِّطي المشروع (القوى الخارجية والفواعل الإقليمية الداعمة): نعم، حقق نجاحاً جزئيَّاً ومقلقاً، إذ نجح في تفتيتِ الدول القوية، ونجح في إضعاف سيادة معظم دول المنطقة التي فقدت سيطرتها الكاملة على أراضيها وباتت تعتمدُ على قوى خارجية في أمنها، ونجح في تحويل الصراع من المواجهة ضد إسرائيل أو الغرب إلى حروبٍ أهلية، وداخلية طائفيَّة وإثنية، وحرب على الإرهاب، والأهم من كل ذلك نجح في ضمان تدفق النفط والأسلحة، حيث بقيت منابعُ وأنابيبُ النفط تحت السيطرة، أو عادت للعمل لصالح الأطراف المتحالفة مع الغرب، وازدهرت تجارةُ الأسلحةِ بشكلٍ غير مسبوق.
مقابل ذلك، هناك رأي آخر يعتمدُ على مدى ما حققه المشروعُ من معدلات استقرار المنطقة والشعوب، حيث النتائج تؤكِّدُ أن المشروعَ فشل تماماً في ذلك، بل كان السببَ في وقوعِ كارثةٍ إنسانيَّة، حيث الفوضى غير قابلة للاحتواء، والخسائر البشرية هائلة، إضافة إلى ما خلق من قوة في النفوذ المتنافس في المنطقة، بل ومدَّ دولَ الجوارِ الإقليمي بمزيدٍ من القوة والقدرة على الصمود؛ والأهم من كل ذلك هو ما حققه المشروعُ من صحوة في وعي شعوب المنطقة، ومقاومة شعبية وسياسية في بعض الأماكن.
في التقييمِ النهائي للمشروع المستمر منذ أكثر من عقدين، إنه حقق نجاحاً تكتيكيًّا قصير المدى، وفشلاً استراتيجياً طويل المدى؛ إذ تمَّ إسقاطُ أنظمة، وتفكيكُ جيوش، وإثارةُ فتن داخلية، ولكنه فشل استراتيجياً في بناء بدائل مستقرة مما يمكن أن يجعلَ المنطقةَ عبئاً أكبر حتى على القوى التي أرادت السيطرةَ عليها، من خلال أزمة اللاجئين، وصعود الإرهاب، والحروب المفتوحة التي تستنزف الجميع، إضافة إلى تحدي شرعية القوى الغربية بعد كشف كوارث مثل غزو العراق.
التدمير والفوضى غير الخلاقة هدفاً
إذًا المشروع حقّق أهدافَه التدميريَّة (تفكيك الدول) لكنه فشل فشلاً ذريعاً في أهدافه البنائية (خلق نظام جديد مستقر ومُنتِج يخدم مصالح من صمّمَه). النتيجة هي شرق أوسط أكثر تفككاً، وأكثر فقراً، وأكثر كراهية للغرب، وأكثر عرضة للانفجار، وهذا من المفترض أنه لا يصبُّ في مصلحةِ أي طرف على المدى الطويل، حتى مصممي المشروع أنفسهم.
المنطقة الآن في حالة «فوضى غير خلاقة»، دمرَّت القديمَ ولم تبنِ الجديد. وهذا هو الإرثُ الحقيقيُّ لما يسمى بـ«مشروع الشرق الأوسط الجديد».
إذًا ما هو وجه الاتفاق بين
وجهتي نظر الطرفين؟
والإجابة هنا تنطلقُ من احتمال أن يكون ما يُدعى بالفشل الذريع (أو الفوضى غير الخلّاقة) أحدَ أهداف المشروع؛ ومن باب الاهتمام بمعالجة هذا الاحتمال بجديَّة وموضوعيَّة مع إفساح المجال للتفكير النقدي، يجب التأكيدُ أن بعضَ النتائج التي تبدو سلبيَّة قد تكون مقصودة من قِبَل بعض الجهات الفاعلة، والتأكيد أن تقييمَ «النجاح» أو «الفشل» يعتمدُ على المنظور والأطر الزمنية المختلفة.
إن فرضيةَ الفشلِ الذريع في المخططات المعلنة قد يكون هدفاً مقصوداً، ويعد تحليلا استراتيجيا معتَمَدا في أدبيات العلاقات الدولية والأمن القومي لدول محددة، ويمكنُ مناقشتُها عبر فرضيةِ «الدولة الفاشلة» كهدف وسيط، حيث بعض القوى الخارجية لا تريد بالضرورة دولاً قوية ومستقرة في المنطقة، لأن الدولةَ القويةَ يمكنُ أن تكونَ منافساً إقليمياً، وتتحكم في مواردها بسيادةٍ كاملة، وتقاوم الأجنداتِ الخارجية؛ بينما الدولة الضعيفة أو الفاشلة تعدُّ أسهلَ في النفاذ إلى مواردِها (النفط، المعادن)، وأسهل في استخدامها كساحةٍ لحروب بالوكالة دون تدخل مباشر، وأسهل في تحويلها إلى «منطقة عازلة» تمنع قوى منافسة من الاستقرار فيها، والأمثلة التي تحققت بهذا المستوى في المنطقة منذ 2003 عديدة، بدءا بالحالة العراقية والسورية... إذ لو كان الهدفُ الحقيقيُّ هو «بناء ديمقراطية مستقرة» في العراق، لكانت الاستثماراتُ والجهودُ مختلفةً جذرياً بعد 2003، ولكن النتيجة الفعلية هي عراق منهك، مقسم طائفياً، تحت سطوة الجوار، ويحتاج إلى حماية أمريكية دائمة، وهذا يخدم أهداف إبقاء العراق ضعيفاً، وتحويله إلى ساحة احتواء.
في الجانب الآخر ليست كلُّ فوضى مرفوضة من القوى الخارجية، حيث الفوضى التي يمكن توجيهها وتوظيفها هي أداة سياسية في الحروب الأهلية والنزاعات التي تبرر وجود قواعد عسكرية دائمة، وفرض اتفاقيات اقتصاديَّة وسياسيًّة في لحظات مفصليَّة.
إن ما يُعدُّ «فشلاً» لمشروع قد يكون «نجاحاً» لجهاتٍ أخرى؛ لذلك، قد يتمُّ إفشالُ مشروع علني لإنجاح مشروعٍ خفي.
إذًا هل ما اُعتبر فشلاً في مشروع الشرق الأوسط الجديد يعد هدفاً مقصوداً؟ الجواب نعم؛ لكن بشكلٍ جزئي ومحدد، إذ لا يُرجّح أن القوى الخارجيَّةَ تريدُ فوضى شاملة وغير قابلة للسيطرة، لأن ذلك يهددُ مصالحَها أيضاً، لكنها قد تريدُ درجةً مُحسوبة من الانهيار تكفي لـشل قدرة الدولة على أن تكون لاعباً إقليمياً مستقلاً، وتحويلها إلى فضاء مفتوح للتدخلات الاقتصادية والعسكرية، وتحقيق أقصى استنزاف للخصوم الإقليميين.
إذًا المشروعُ لم يفشل في تحقيق أجندة التفكيك والإضعاف، لكنه فشل في تقديم بديل بناء مستقر؛ وهذا قد لا يكون «فشلاً» في عيون من يريدون المنطقةَ ضعيفة إلى الأبد، لأنه يضمن بقاءها تحت الهيمنة.
الدرسُ الأهم في الجيوسياسة، هو أن «النجاحَ» و«الفشلَ» يُقاسان ليس بمقدارِ الاستقرارِ أو الازدهار في المنطقةِ المستهدفة، بل بمقدار تحقيق الأهداف الاستراتيجية للقوة الخارجية؛ والمنطقةُ العربيَّةُ بعد قرن من سايكس بيكو، وعقدين من «الفوضى غير الخلاقة»، هي أكثرُ ضعفاً وتشتتاً مما كانت عليه في أي وقت مضى، وهذا بحد ذاته قد يكون «نجاحًا» في الأهدافِ الاستراتيجيَّة لمن يريدُها كذلك.
sr@sameerarajab.net

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك