تسكن الأوطان في الوجدان قبل أن يسكن الإنسان أرضها وتصنع جزءاً من رؤيته للعالم وتجعله يشعر بأن المسافات أقرب مما تبدو. ولهذا تبدو الرياض قريبة من المنامة وتبدو الكويت امتداداً للمحرق وتتقارب معها الدوحة وأبوظبي ومسقط في الإحساس نفسه لأن الروابط الاجتماعية والموروث المشترك أعمق من الحدود المرسومة على الخرائط. وبرز هذا المعنى في نجاح القمة الخليجية السادسة والأربعين التي جسدت ما يشعر به الناس من وحدة المصير وترابط الطريق.
وقد أعادت القمة هذا الشعور إلى الواجهة إذ لمس المواطن أن رسائلها تنسجم مع واقع يعيشه يومياً وأن البيت الخليجي يستند إلى علاقة تتقدم كلما اتسعت مسارات التعاون. وازداد الاهتمام بمخرجاتها لأنها عبّرت عن توجه خليجي نحو نهج أكثر تكاملاً، وهو ما جعلها محطة مؤثرة على مستوى الشارع الخليجي.
ويتضح هذا القرب في الطريقة التي يستقبل بها الناس نجاحات الدول الخليجية. فحين تحقق دولة تقدماً في الاقتصاد أو التقنية أو جودة الحياة يشعر أبناء الدول الأخرى بأن هذا التقدم يعنيهم أيضاً لأن الإنجاز في أي عاصمة يترك أثره في المنطقة كلها ويعزز الإحساس بأن الفخر مشترك وأن الطريق واحد. وهذا الشعور يقوي جسر الانتماء الذي يجمع الشعوب ويقرب بين المؤسسات ويمنح القرارات الجaماعية دفعة إضافية.
وأظهرت القمة أن الهوية الخليجية عنصر يساعد على جعل السياسات المشتركة أكثر قابلية للتنفيذ لأن المواطن حين يرى تقاطع المصالح يتعامل مع القرارات بروح إيجابية ومرونة. وهذه النظرة تدعم خطوات التقارب وتمنح برامج التكامل فرصة حقيقية للنجاح.
ومن الأفكار التي يمكن أن توسع هذا الاتجاه مبادرة يوم الهوية الخليجية. فهذا اليوم يمنح أبناء الجيل الجديد فرصة للتعرف على تاريخ دول الخليج ورموزها وإنجازاتها في عرض موحد يبرز عمق الروابط بينهم. ويمكن للسفارات إقامة معارض في العواصم الخليجية ودعوة الطلبة لزيارة أجنحة تقدم ملامح حضارية لكل دولة في إطار واحد، ويعزز القطاع الخاص هذه المبادرة من خلال الرعاية والدعم وتوفير الإمكانات التي تحولها إلى منصة تعليمية وثقافية تبني جيلاً يعرف جذوره ويتحرك بثقة نحو المستقبل.
ويظهر أن هذا النوع من المبادرات يلقى اهتماماً متنامياً في المجتمعات الخليجية إذ يجتمع الناس حول ملامح واحدة للثقافة واللغة والعادات. ومع أن هذه الجهود تمنح الهوية حضوراً واضحاً في كل دولة إلا أن الحاجة قائمة إلى مظلة تجمع هذه المبادرات في إطار واسع يعزز قيم الانتماء ويقرب التجارب من بعضها. فوجود مساحة مشتركة تعبر عن روح الخليج يساعد على تحويل النشاط التراثي من مبادرات متناثرة إلى مشروع متكامل يربط الماضي بالحاضر ويقود الأجيال الجديدة نحو فهم أعمق لهويتهم. ومن خلال هذا النهج يمكن ليوم الهوية الخليجية أن يكون منصة تجمع الأعمال الثقافية والفنية والتعليمية تحت رؤية واحدة تبرز قوة الترابط بين دول المجلس وتمنح الانتماء معنى أوسع في الحياة العامة. كما يمكن للأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي دراسة هذا المقترح وتقييم أثره ضمن جهودها لترسيخ الهوية المشتركة وتوسيع مجالات التعاون الخليجي.
وتكشف تجربة القمة أن الهوية الخليجية لم تعد إطاراً ثقافياً فقط لأنها اليوم عنصر يساعد المجتمعات على مواجهة التحولات ويمنح دول المجلس مساحة أوسع لتنسيق رؤاها المستقبلية. فحين يتشكل انتماء مشترك بهذا العمق تتولد طاقة جماعية قادرة على حماية المكتسبات وتعزيز الاستقرار وفتح أبواب جديدة للتعاون. ومع هذا الاتجاه تصبح الهوية رافداً يدعم الاستعداد للمستقبل ويمنح العمل الخليجي أرضية صلبة تتحرك عليها المبادرات القادمة بثقة أكبر.
وفي النهاية يبقى الخليج أكثر من جغرافيا فهو شعور ينشأ في القلب ويترجم في السلوك ويجعل المدن تبدو كأنها بيت واحد ومصير واحد. وهذا الشعور هو مصدر قوة المنطقة اليوم وهو الذي يجعل المستقبل أكثر وضوحاً حين تتقدم دول الخليج بخطوات متقاربة نحو غد يحمل فرصاً أوسع واستقراراً أكبر وهوية لا تنفصل عن أبنائها.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك