آباء في البحرين يرفضون علاج أبنائهم خوفا على سمعتهم.. وأبناء يلجأون إلى العيادات النفسية سرا
بعض وسائل الإعلام حصرت صورة المريض النفسي بالجنون.. الإجرام.. الإدمان.. والشفقة!
«الصحة العالمية»: مليار شخص حول العالم يعانون من اضطرابات نفسية
وسائل الإعلام مطالبة بكسر الصورة النمطية وإعادة صياغة الخطاب في التعامل مع المرض النفسي
تصوير- عبدالأمير السلاطنة
لفتت دراسةٌ تحليليَّةٌ ميدانيَّة نشرتها مجلةُ البحوثِ الإعلاميَّة بعنوان (الصورةُ النمطيةُ للمرض النفسي بالدراما التلفزيونية وعلاقتها بالوصم الدرامي والاجتماعي) إلى أن بعضَ وسائلِ الإعلامِ والأعمال الدرامية أسهمت على مدى سنوات في (تعزيز الوصم الدرامي والاجتماعي) وإعطاء صورة غير واقعية عن الطب النفسي بشكل عام. كما تعدُّ صورة من يعانون من مشاكل الصحة النفسية مادةً ثرية لكتاب الدراما، وتسهم في تقديم صورةٍ سلبيَّة لمصابي المرض النفسي.
من جانب آخر، أكَّد المركزُ الوطني لتعزيز الصحة النفسية في الرياض أن ما يتمُّ تداولُه في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي عن المرضى النفسيين والعقليين يعززُ من الوصمةِ الاجتماعية لهم. وهذا ما يزيدُ من صعوبة تلقيهم الخدمات العلاجية التي يحتاجون إليها، علاوة على إقصائهم من المجتمع ومن ممارسة حياتهم الطبيعية بسبب المرض.
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن الوصمَ يمكن أن يؤدي إلى الرفض والتمييز والإقصاء، ويؤثرا في كرامة الناس وثقتهم بأنفسهم، كما يمكن لآثار الوصم أن تضر بالصحة العقلية للشخص وتؤدي إلى العزلة الاجتماعية، والاكتئاب، والمعاناة والوحدة وانتشار الخوف وانعدام التماسك الاجتماعي.
كل ذلك يثير تساؤلا مهما حول الدور السلبي الذي لعبه الإعلام في تعزيز الوصمة الاجتماعية إزاء المرض النفسي، وخلق فجوة كبيرة بين أفراد المجتمع والعيادات النفسية. وهذا ما بحثه المنتدى الذي نظمه مستشفى سلوان مؤخرا ضمن الحملة التوعوية (ترى عادي)، حيث ناقش «الصورة النمطية للمرض النفسي في التغطيات الإعلامية وتأثيرها في المجتمع»، بمشاركة «أخبار الخليج»، ورئيس تحرير صحيفة البلاد الأستاذ مؤنس المردي، ورئيس قسم المحررين في صحيفة الوطن الصحفية زهراء حبيب، وأدارت الحوار الصحفية منى سليم من صحيفة الأيام.
مشكلة عالمية
نقاشات المنتدين خلصت إلى أن الطب النفسي لا يزال يعاني فعلا من وصمة اجتماعية تخلق حواجز كبيرة وتجعل الأفراد والأسر تتردد كثيرا في اللجوء إلى العيادات النفسية مهما كانت درجة الاحتياج إليها. وهذه الوصمة لعبت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها من مقروءة ومسموعة ومرئية وسينما ومسرح، دورا سلبيا في تعزيزها خلال العقود السابقة. وعلى الرغم من النضج الذي تتميز به هذه الوسائل في السنوات الأخيرة في التعامل مع مثل هذه القضايا، إلا أنها من جانب لا ترقى الى المستوى المطلوب لإعادة تشكيل الصورة الذهنية لدى الجمهور فيما يتعلق بالأمراض النفسية. ومن جانب آخر، تبقى تراكمات وترسبات العقود السابقة في طريقة تعامل الإعلام مع الأمراض النفسية قائمة ومؤثرا حتى الآن.
ففي البحرين مثلا، لا تزال كثير من الأسر وبسبب الوصمة الاجتماعية، تحرم أبناءها من العلاج النفسي حتى لو وصلوا إلى مرحلة متقدمة من الاكتئاب أو حتى الميول الانتحارية، ويبرر الآباء هذا الرفض بأنهم يخشون على مستقبلهم كأن يرفض الزواج من البنت بسبب علاجها السابق في عيادة نفسية، أو يرفض توظيف الابن لذات الحجة، فضلا عن الاعتقاد بأن الأدوية النفسية تسبب الإدمان.
ويؤكد الأطباء النفسيون أنهم عند نقاشاتهم مع أولياء الأمور حول هذه النظرة، يكتشفون أنهم بنوا معتقداتهم هذه نتيجة ما تعرضوا له من رسائل إعلامية أو عبر التلفزيون والسينما.
وبالمقابل، يضطر بعض الأبناء إلى اللجوء للعيادات النفسية سرا ويطلبون من الأطباء عدم إبلاغ أسرهم بذلك، وهو ما يعكس وعيا متزايدا لدى الأفراد إزاء الطب النفسي، ولكنه بنفس الوقت يعكس حجم الإشكالية القائمة المتعلقة بالوصمة الاجتماعية.
ووفقا لأطباء نفسيين بحرينيين، فإن العديد من العائلات المقتدرة تعالج أبناءها في دول أخرى هروبا من الوصمة الاجتماعية، وأحيانا تصل تكلفة العلاج إلى 20 ألف دينار في الشهر على الرغم من توافره مجانا أو بأسعار أقل بكثير في البحرين!.
تعزيز الوصمة
وسائل الإعلام لعبت دورا كبيرا في تعزيز هذه الوصمة والرفض الاجتماعي للطب النفسي من عدة جوانب. فمن جانب، رسخت وسائل الإعلام عبر عقود تصويرا سلبيا من خلال تقديم المريض النفسي بشكل سلبي لا يخرج عن صورتين، إما شخص يعاني من تخلف عقلي ويقوم بحركات غريبة ويسمى مجنونا، أو مجرم خطير لديه سجلات سابقة في العلاج النفسي.
وحتى الطبيب النفسي كان محل سخرية في كثير من منتجات السينما، وبنفس الوقت بقي اسم (مستشفى المجانين) هو ما يطلق على مصحات الطب النفسي. كل ذلك عزز من الوصمة الاجتماعية.
كما أسهم الإعلام في نشر معلومات مغلوطة عن الأمراض النفسية مثل الإدمان على الأدوية أو عدم إمكانية التعافي والعلاج.
من جانب آخر، تنشر وسائل الإعلام في كثير من الأحيان الأحداث والأخبار من دون توعية، كأن يشار إلى أن المجرم الذي قام بجريمة مروعة أو إلى شخص انتحر، بأنه يعاني أمراضا نفسية، من دون تقديم معلومات كافية عن طبيعة المرض ومضاعفاته وطبيعة الحياة التي عاشها هذا المريض.
أضف إلى ذلك، أن وسائل الإعلام أسهمت في التقليل من شأن المريض النفسي، فغالبا ما يبدو المريض النفسي فقيرا ومن طبقة دنيا في المجتمع وغير متعلم، أو أنه مثير للشفقة. وعززت هذه الوسائل من ترويج مصطلحات خاطئة مثل «مجنون»، «مختل»، و«مهووس» بشكل ساخر.
وعلى الصعيد ذاته، تبرز وسائل الإعلام قصص جرائم مرتبطة باضطرابات نفسية، وتركز على الحالات السلبية المتطرفة فقط، مع تجاهل قصص النسبة الأكبر من المرضى النفسيين المسالمين الذين يعيشون حياة طبيعية.
يضاف إلى ما سبق، أن الدراسات، ومنها دراسة أجريت عام 2020، تؤكد أن الأفراد الذين يقضون أكثر من ثلاث ساعات يوميًا على وسائل التواصل الاجتماعي، أو من خلال التعرض للمحتوى السلبي في وسائل الإعلام، أكثر عرضة للإصابة بأعراض القلق والاكتئاب واضطرابات النوم. وبالتالي يكون تأثير الإعلام في الوصمة الاجتماعية مزدوجا.
مسؤولية أخلاقية
كل ما سبق ذكره من أدوار سلبية لعبتها وسائل الإعلام في فترات سابقة، يلقي على الإعلاميين مسؤولية أخلاقية ومهنية للحد من الوصمة وتعزيز الوعي. هذا ما ركز عليه الأستاذ مؤنس المردي، مؤكدا أن الصحة النفسية لم تعد ترفًا أو قضية هامشية في المجتمع الحديث، بل صارت أحد أبرز مكونات الصحة العامة وجودة الحياة. وفي الوقت الذي تتقدم فيه السياسات الصحية بخطوات واضحة، تبقى التغطيات الإعلامية عاملاً حاسمًا في تشكيل وعي الجمهور ومواقفه. هنا تبرز مسؤولية الإعلاميين ليس فقط كناقلين للخبر، بل كصانعي وعي، يمتلكون أدوات التأثير في الرأي العام، سلبًا أو إيجابًا. وبالتالي فإن مفهوم المسؤولية الأخلاقية في التغطية الإعلامية يستند على ركائز ومبادئ وأدوار مهمة أبرزها:
- القيمة الإنسانية، من خلال التعامل مع المصابين بالاضطرابات النفسية باعتبارهم بشرًا كاملي الحقوق، لا موضوعًا مثيرًا أو مادة للتندر.
- حماية الكرامة وتجنب استخدام الألفاظ الجارحة أو الصور المهينة التي قد تؤذي المريض وأسرته.
- عدم الإيذاء. فالإعلامي ملتزم بألا يؤدي عمله إلى تفاقم وصمة اجتماعية أو وصم فرد بعينه.
- الدقة والموضوعية ونشر المعلومات الصحيحة المدعومة بمصادر علمية، لا الانجرار وراء الأساطير الشعبية مثلا.
- التوازن وتقديم الصورة الكاملة للقضية، بحيث تشمل التحديات من جهة وقصص النجاح والتعافي من جهة أخرى.
- التحقق من المصادر عند نشر الأخبار والاعتماد على الخبراء في علم النفس والطب النفسي لتفسير الظواهر.
- تجنّب الإثارة والابتعاد عن العناوين المبالغ فيها التي تستغل معاناة المرضى لجذب القرّاء.
كما يبرز دور الإعلام في الحد من الوصمة من خلال عدة أدوار أهمها:
- كسر الصورة النمطية وإعادة صياغة الخطاب الإعلامي بما يبرز أن المرض النفسي مرض طبي يمكن علاجه وليس عيبًا أو وصمة.
- منح المريض فرصة إبداء صوته من خلال نشر مقابلات وشهادات شخصية لمتعافين تسلط الضوء على تجاربهم الإنسانية.
-إدماج الموضوع في المحتوى العام من خلال الحديث عن الصحة النفسية في برامج اجتماعية أو اقتصادية.
- تحويل القصة الفردية إلى قضية عامة، وإبراز أن الصحة النفسية شأن مجتمعي يتطلب حلولًا جماعية.
ولكن ليس الأمر بالسهولة التي نتمناها، فهناك تحديات تواجه الإعلاميين في النهوض بهذا الدور، ومن أبرز هذه التحديات:
- الضغط التجاري، مثل سعي بعض المؤسسات الإعلامية للإثارة والمشاهدات على حساب المعايير الأخلاقية.
- ضعف التدريب ونقص البرامج المتخصصة التي ترفع وعي الصحفيين حول كيفية التعامل مع قضايا الصحة النفسية.
- التراث الثقافي وصعوبة تغيير الصور النمطية الراسخة في الوعي الجمعي.
لكن تبقى المسؤولية الأخلاقية والمهنية للإعلاميين ليست مجرد التزام أدبي، بل هي شرط أساسي لنجاح أي جهود وطنية أو إقليمية في تعزيز الصحة النفسية. الصحفي هو جزء من المنظومة الصحية والاجتماعية بقدر تأثيره في الرأي العام.
تقليص الفجوة
أمام ذلك، يبقى السؤال قائما، كيف يمكن تقليص الفجوة بين الجهود الصحية التي تُبذل، والمحتوى الإعلامي المطالب بالتعامل الجاد مع إشكالية الوصمة الاجتماعية؟
الإعلامية زهراء حبيب تجيب عن ذلك لافتة، إلى أن بيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2025 تؤكد أن أكثر من مليار شخص حول العالم يعانون من اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب. فيما تشير تقديرات عام 2021 إلى أن الانتحار حصد عام 2021 أرواح 727 ألفَ شخص.
وعلى الرغم من أهمية هذه الأرقام الدولية، إلا أنه كثيرا ما لا يتم إعلان الإحصائيات الرسمية للمصابين بالأمراض النفسية والخطط العلاجية وقصص النجاح في المراكز الصحية والنفسية والاجتماعية على المستوى المحلي. ومن هنا تبدأ الفجوة التي يجب العمل عليها، لأن وجود المعلومات الكافية والرسمية أساس لإعداد التقارير والتحقيقات والدراسات التي تهدف إلى إيجاد الحلول.
وفي حين نجد أن الصورة النمطية في كثير من الأحيان في البرامج والمسلسلات الأجنبية تعرض المعالج النفسي كضرورة في حياة الشخص، ومن المعتاد أن يلجأ الفرد إلى المعالج حتى لمجرد الفضفضة، فإن هذا الأمر مفقود في الإعلام والدراما المحلية في المنطقة بشكل خاص. وهو ما يخلق فجوة تعود أسبابها إلى عدة عوامل أبرزها:
- ضعف التنسيق بين المؤسسات الصحية والإعلامية في التخطيط للحملات التوعوية، بأهمية الموضوع وأنه لا عيب نلجأ إلى معالج أو طبيب نفسي.
- قلة المتخصصين في الإعلام الصحي النفسي، ما يؤدي إلى طرح سطحي أو غير علمي، ويقابله قلة الأطباء ذي الدراية بالظهور الإعلامي.
- التركيز على الإثارة والدراما بدلاً من الطرح التوعوي الهادئ. فمثلا غالبا ما تطرح كأخبار ترد في الحوادث والقضايا أو في مسلسلات تعتمد على الإثارة.
- غياب التدريب الإعلامي في كيفية تناول القضايا النفسية الحساسة (مثل الاكتئاب والانتحار). أو ما يعرف بالإعلام الإنساني.
- الوصمة الاجتماعية التي تجعل تناول الموضوعات النفسية صعبًا أو محدودًا في الخطاب الإعلامي.
ونتيجة لذلك، نجد نوعا من التضارب في الرسائل بين الإعلام والجهات الصحية خاصة مع عدم نشر دراسات وإحصائيات دقيقة.
ونجد كذلك استمرارا للصور النمطية عن المرضى النفسيين لعدم توفر قصص نجاح وحملات توعية. وفي الوقت نفسه هناك ضعف الثقة بالعلاج النفسي والمؤسسات المتخصصة لتصور الناس بأن المرضى مجانين مثلا. وما يزيد الأمر سوءا هو انتشار «التشخيص الذاتي» والمعلومات المضللة عبر وسائل التواصل، مع عدم وجود ثقافة المعالج النفسي، لأن السائد في مجتمعاتنا هو الطبيب النفسي الذي يعتمد في علاجه على الدواء، أكثر من الحديث والتعامل النفسي.
وكل ذلك يتطلب اعتماد آليات فاعلة لتقليص هذه الفجوة بين الإعلام والجهود الصحية، ومن أهم هذه الآليات:
- بناء شراكات رسمية بين وزارات الصحة ووسائل الإعلام لتوحيد الخطاب التوعوي.
- تدريب الإعلاميين على المفاهيم الأساسية في الصحة النفسية وأخلاقيات تناولها إعلاميًا، لاستخدامها في مواضيعهم لما يعرف بالإعلام الإنساني الذي يراعي جميع الأطراف من القصة الخبرية.
- إشراك الأطباء النفسيين في إعداد المحتوى وتدقيق المعلومات قبل نشرها.
- تبني سياسات إعلامية مسؤولة عند تغطية قضايا الانتحار أو الاضطرابات النفسية.
- إطلاق حملات توعوية مشتركة تُستخدم فيها لغة قريبة من الناس وتتناسب مع مختلف الفئات العمرية.
- تشجيع الدراما والبرامج الإيجابية التي تعالج الاضطرابات النفسية بصورة إنسانية واقعية.
- قياس أثر الرسائل الإعلامية بانتظام لتطوير أسلوب الخطاب الإعلامي الصحي.
- اعتماد دليل استرشادي لتغطية الأخبار والقضايا المتعلقة بالصحة النفسية.
وهنا يجب تأكيد ما شدد عليه المدير العام لمنظمة الصحة العالمية «الاستثمار في الصحة النفسية يعني الاستثمار في الناس والمجتمعات المحلية والاقتصادات، وهو استثمار لا يستطيع أي بلد أن يتجاهله»
صنَّاع الوهم
الاختصاصيون والإعلاميون اتفقوا في نقاشاتهم على جوانب مهمة أبرزها أن العالم يمر بأزمة نفسية لا بد من التعامل معها بحذر. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تلعب دورا سلبيا في تعزيز الفجوة والوصمة الاجتماعية خاصة مع ما وصفوه بالروح السلبية التي تغلب على التعليقات والمحتويات في هذه الوسائل، كل ذلك أمام ابتعاد الاختصاصيين ووسائل الإعلام عن القيام بالدور المطلوب منها.
وطالبوا بسن تشريعات تجرم من يتحدث عبر وسائل التواصل الاجتماعي بقضايا تخصصية من دون أن يكونوا متخصصين، خاصة من قِبل ما يمكن اعتبارهم صنَّاع الوهم!.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك