بين تقلبات أسعار الذهب والإعفاءات الضريبية بالمعارض.. لماذا تبقى المصنعية مرتفعة؟
الطمع والغش.. هل يضعان سمعة سوق الذهب البحريني على المحك؟
تحقيق :سيما مرتضى حاجي
في سوق الذهب البحريني، الذي يعد أحد أبرز الوجهات التجارية في المنطقة وأكثرها جذباً للزبائن والمستثمرين على حد سواء، يظل بريق المعدن الأصفر محاطاً بالتساؤلات حول آلية التسعير التي تتحكم في جيوب المتعاملين وثقتهم. فبالرغم من أن أسعار الذهب العالمية تخضع لعوامل اقتصادية معقدة ولا يملك أصحاب المحلات في البحرين القدرة على التحكم فيها، إلا أن ما يثير الجدل ويفتح باب الشك هو عنصر «المصنعية» التي تمثل كلفة التصنيع والجهد الحرفي في صياغة المجوهرات. حيث يلاحظ العديد من الزبائن أن كلفة المصنعية تبقى في اتجاه تصاعدي، فلا تنخفض عند تراجع الأسعار ولا تستقر مع ارتفاعها، بل ترتفع في الحالتين، حتى في مواسم المعارض التي تُعفى فيها المشغولات من الضريبة بشكل كامل.وهذه المعادلة التي باتت شبه ثابتة في أذهان الناس تُترجم بالصيغة التالية: انخفاض أسعار الذهب يعني ارتفاع المصنعية، وارتفاع أسعار الذهب يعني كذلك زيادة المصنعية، وحتى عند غياب ضريبة القيمة المضافة يبقى الارتفاع حاضراً.
وعلى الرغم من وجود الرقابة المطلوبة من الجهات المعنية وحرصها على تنظيم سوق الذهب، فإن ذلك لا ينجح في ردع بعض التجار عن اتباع أساليب ملتوية، مثل المبالغة في رفع سعر المصنعية لتعويض التذبذبات، أو الادعاء بأن المحل سيتحمل الضريبة بينما تُضاف التكاليف بطريقة أخرى على الفاتورة التي سيتحملها المستهلك. ومثل هذه الممارسات لا تمس فقط جيب الزبون، بل تضر أيضاً بسمعة السوق البحريني الذي يشتهر بجودة معروضاته وتنوعها وأسعاره التنافسية على مستوى الخليج.، ما يجعل توضيح الصورة ضرورة ملحّة لحماية سمعة السوق وتنظيم العلاقة بين طرفي المعادلة.
في ظل هذا الواقع المثير للتساؤلات ،بادرت أخبار الخليج إلى فتح هذا الملف وطرحه بشفافية على أصحاب المحلات المعروفة في سوق الذهب البحريني، وقد لمسنا تعاوناً كبيراً منهم في الإجابة على الاستفسارات بالرغم من حساسية الموضوع، وهو ما يعكس حرص العديد من التجار على توضيح الصورة وتعزيز الثقة بينهم وبين الزبائن. ومن هنا، فإن الهدف لا يقتصر على توضيح الجوانب الغامضة في تسعير الذهب، بل يمتد إلى تبديد اللبس وتعزيز الشفافية، بما يضمن استمرار سمعة السوق البحريني كوجهة موثوقة تجمع بين الجودة والتنوع والعدالة في الأسعار، رغم تحديات الضرائب وتكاليف التشغيل وتقلبات السوق العالمية.
بدأنا حديثنا مع السيد أحمد الصايغ، الرئيس التنفيذي لمصنع الصايغ للمجوهرات، وسألناه عن آلية تسعير المصنعية التي يراها بعض الزبائن غير واضحة. وبادر بالقول إن «هذه التساؤلات قد تحمل شيئًا من المبالغة وشيئًا من الصحة فيما يقوم به بعض التجار، وليس الكل، إلا أن الاتهام غير دقيق بنسبة 100%، فسوق الذهب يُعد سوقًا حرّاً تحكمه آليات العرض والطلب». وأوضح أن ما شهدته الأسواق في الآونة الأخيرة من تراجع في المبيعات أثّر بشكل كبير على أسعار المصنعية، خاصة لدى المحلات الصغيرة التي لا تمتلك معايير تسعير واضحة، حيث يضطر بعضها، بسبب المنافسة الشديدة، إلى بيع القطع بأسعار دون التكلفة أو بهامش ربح محدود. وأضاف الصايغ أن انخفاض أسعار الذهب يزيد الطلب بشكل طردي، ما يدفع المحلات إلى إعادة تصحيح الأسعار في ظل تذبذب الأسعار وعدم وجود استراتيجية واضحة للتسعير، وهو ما يثير استغراب العملاء من تفاوت الأسعار بين المحلات. وأشار إلى أن السعر العادل يختلف حسب نوع القطعة، محدداً متوسطات تقريبية كالآتي: القطع الشعبية المكررة من 1,700 إلى 2,500 دينار للغرام، والقطع المميزة التي تتطلب عملاً يدوياً من 4,000 إلى 5,500 دينار للغرام، والقطع الخاصة من 4,000 إلى 8,000 دينار للغرام. أما القطع ذات التصميم الفريد و الخفيفة الوزن، فأوضح أنها غالبًا لا تُحتسب المصنعية فيها لكل غرام، وإنما تُسعَّر كقطعة واحدة حسب التصميم. وختم بالقول بأن «المفتاح يكمن في التثقيف المتبادل بين التاجر والعميل، ووضع سعر عادل يمكّن التاجر من تغطية التكاليف ويضمن للعميل الحصول على قطعة بجودة عالية وسعر مناسب، بما يحفظ استمرارية وتطور هذا القطاع العريق في البحرين”.
ويشير السيد حسين حيدر الموسوي، مالك مجوهرات الهناء، إلى أن ما يلاحظه الزبائن من تفاوت في المصنعية بين بعض المحلات يحمل شيئًا من الصحة، مؤكّدًا أن هناك بالفعل بعض التلاعب بالمصنعية من قبل بعض التجار، لكنه يؤكد أن هذا لا ينطبق على الجميع. ويضيف أن هذه الممارسات، التي غالبًا تنبع من الطمع والرغبة في تحقيق أكبر ربح ممكن، تنفر الزبائن وتجعلهم يشكّون في مصداقية المحل نفسه. ويشير الموسوي إلى أن حديثه موجّه أولًا لنفسه كصاحب محل، ثم لإخوانه التجار، مؤكدًا ضرورة تثبيت سعر المصنعية والفائدة سواء ارتفعت أو انخفضت أسعار الذهب، مع التأكيد أن المسؤولية لا تقع على عاتق التجار فقط، بل تشمل الزبائن أيضًا لقلة الوعي في مجال المجوهرات وسوق الذهب بشكل عام، وبالأخص سوق الذهب المطعم باللؤلؤ والأحجار الكريمة.
ويضيف أن الطمع والغش من خلال رفع الأسعار يضعف السوق ومصداقيته، لذلك من الضروري مراقبة السوق وتوحيد الجهود لوضع حدود للتلاعب، بما يضمن للزبائن القدرة على الشراء بثقة وطمأنينة، ويجعلهم دائمًا واثقين من تعاملهم مع التجار. فسواء ارتفع سعر الذهب في البورصة العالمية أو انخفض، يجب تثبيت سعر المصنعية لضمان استفادة التاجر وعدم خسارته، وللحفاظ على استمرارية السوق ورضا العملاء.ويختم الموسوي مداخلته بحديث شريف عن رسول الله (ص): “من غشنا فليس منا”، مؤكدًا أن الغش لا يورث الثراء ولا يحقق الطموحات، داعيًا التجار إلى الصدق والأمانة مع أنفسهم أولًا، ثم مع الناس، والثقة بأن الله سيمنحهم الخير الوفير والبركة في الرزق.
أما بالنسبة للسيد علي حسن ربيع، المدير العام لمجوهرات الهدى، فلديه وجهة نظر مختلفة و قوية مدعمة بحقائق حول المصنعية وأسعار الذهب. حيث يشير إلى أن المصنعية ليست مرتبطة بسعر الذهب نفسه، وإنما بتكلفة الإنتاج الفعلية. ويوضح بأن التاجر يظل ملتزمًا بتكاليف ثابتة تشمل الأجور و الإيجارات و الكهرباء و الرسوم التشغيلية، والتصاميم اليدوية الدقيقة، سواء ارتفع سعر الذهب أو انخفض. ويؤكد بأنه على عكس ما هو شائع، فإن كثير من التجار يخففون من هامش ربحهم عند ارتفاع الذهب حتى لا يتحمل المستهلك كامل العبء، ويستمر السوق في جذب الشريحة العازفة عن الشراء خلال فترات الارتفاع.ويضيف ربيع أن المعارض لا تغير هذه المعادلة، فإلغاء الضريبة لا يلغي التكاليف التشغيلية أو تكلفة التصنيع الفني، ولا رسوم المشاركة في المعرض، وبالتالي تبقى المصنعية مستقلة عن الضريبة أو السعر العالمي للذهب. ويصف هذه المعادلة بأنها اقتصادية ثابتة: سعر الذهب متغير يوميًا، لكن تكلفة العمل والإبداع ثابتة، وهذا ما يفسر الفرق.
ويشير إلى أن أي ارتفاع تدريجي في المصنعية خلال السنوات يرجع عادة لزيادة التكاليف التشغيلية نتيجة التضخم، وليس لأي سبب آخر، مؤكّدًا أن فكرة زيادة المصنعية عند هبوط الذهب هي لغط شائع، خاصة في سوق البحرين، إذ يلتزم التاجر عادة بهامش ربح ثابت وسط المنافسة الشديدة.ويستند ربيع إلى مقارنة تاريخية ترجع لعام 2002، حين كانت المصنعية بالمتوسط 3 دنانير، وسعر الذهب يترنح حول 3 دنانير للغرام، أي أن هامش الربح قد يصل إلى 100% من رأس المال. أما اليوم، فعند سعر الذهب الذي يصل الى 39 دينارا والضريبة الى 4 دنانيرتقريبا للغرام، تبلغ المصنعية كمتوسط حوالي 3 دنانير، أي ما يعادل 7% من قيمة البيع، وإذا أُضيفت التكاليف التشغيلية لا تتجاوز النسبة 5% تقريبًا. وهذه المعادلة والمقارنة الزمنية توضح أن أسعار المصنعية إما انخفضت أو على الأقل ظلت ثابتة على مدار 23 سنة، رغم كل تقلبات الذهب العالمية.
ويأتي حسن العريبي مدير المبيعات بمجوهرات العريبي ليركز على تساؤل عدم انخفاض المصنعية مع هبوط أسعار الذهب ويدعم ما ذكره السيد علي حسن ربيع حول استقرار المصنعية على مر السنوات على الرغم من ارتفاع أسعار الذهب العالمية. ويشرح العريبي أن المصنعية ليست مجرد رقم إضافي، بل هي مهنة وفن قائم بذاته، ويقارنها ببقية المهن الحرفية مثل النجارة و الخياطة، أو الحدادة، حيث تعكس أجورها التعب والخبرة والمهارة، تمامًا كما هو الحال في صياغة الذهب.ويؤكد العريبي أن المصنعية لم ترتفع بنفس النسبة التي ارتفع بها سعر الذهب، بل زادت فقط بفارق بسيط جدًا، مشددًا على أن أغلب التجار يحافظون على سعر عادل يخدم الزبون ويضمن استمرارية المهنة. ويضيف أن نفس الفترة شهدت تضاعف أجور العاملين في كل المهن، وارتفاع أسعار المواد الخام والشحن والإيجارات والكهرباء، وحتى أجور الحرفيين في معظم المهن زادت أضعافًا مضاعفة، بينما مصنعية الصياغة لم تتغير بنفس النسبة.ويشير العريبي أيضًا إلى أن الإعفاء من الضريبة في المعارض لا يعني انخفاض السعر الكامل، إذ تبقى التكاليف التشغيلية قائمة، بما في ذلك المشاركة الدولية، إيجارات ومساحات العرض، التجهيزات الخاصة، وتكاليف التسويق، ما يجعل المصنعية جزءًا من منظومة معقدة ومتوازنة بين التاجر والزبون.
يوضح السيد عبدالحميد حاجي، من مجوهرات حاجي، إلى أن طريقتهم في تسعير المصنعية تختلف قليلاً عن المعادلات التقليدية المتداولة في السوق. ويوضح أن سعر أي قطعة يعتمد على عدة عوامل رئيسية، أولها التصميم ذاته، الذي يحدد الشكل النهائي ويعكس مدى ابتكار القطعة ورونقها الجمالي. ثانيًا، مدى تعقيد وصعوبة التنفيذ في عملية الإنتاج، فكلما كانت القطعة أكثر دقة وتفصيلًا، ارتفعت تكلفة تصنيعها. ثالثًا، عدد أيام العمل المطلوبة لإنجاز القطعة، فكل يوم إضافي يعكس جهد الصائغ ويضاف إلى السعر النهائي. رابعًا، كمية الأحجار الكريمة مثل الألماس واللؤلؤ المستخدمة في القطعة، والتي تلعب دورًا كبيرًا في تحديد القيمة. وأخيرًا، عدم تكرار القطعة، حيث أن الفريدة منها تضيف قيمة إضافية نظرًا لندرتها وتميزها عن القطع الأخرى.ويؤكد حاجي أن هذه العوامل مجتمعة تؤثر بشكل مباشر على سعر المنتج، لذا فإن السعر يكون تقريبًا ثابتًا في السوق وحتى في المعارض، على الرغم من التغيرات التي قد يشهدها الذهب عالميًا. ويضيف أن هذه الطريقة تضمن للزبائن شراء قطع ذات جودة وتصميم فريد، وتعكس الجهد الحقيقي المبذول في كل قطعة، بعيدًا عن أي تلاعب أو تقديرات سطحية للأسعار.
يؤكد السيد محمد يوسف محمد، مدير المبيعات في مجوهرات استبرق، بأن تحديد سعر المصنعية لديهم يعتمد على نوع القطعة وتكاليف تصنيعها، وليس على ارتفاع أو انخفاض سعر الذهب في السوق العالمي. ويضيف أن طبيعة العمل نفسه تلعب دوراً أساسياً، سواء كان الإنتاج يدوياً بالكامل أو باستخدام الماكينة أو تقنيات الليزر، ما يعكس الجهد المبذول والدقة المطلوبة لكل قطعة.ويضيف محمد بأن الذهب كباقي المعادن الثمينة يخضع لتقلبات عالمية في السعر، وبالتالي تتغير أسعار السلع النهائية وفقاً لحجم القطعة المطلوب صياغتها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة. أما فيما يتعلق بأسعار الذهب في المعارض، فيوضح أن الأمر متنوع ويختلف حسب العلامة التجارية، حيث توجد قطع مرتفعة التكلفة وتحمل أسماء تجارية تباع بأسعار أعلى، وأخرى بأسعار متوسطة تتناسب مع مختلف الشرائح. ويشير أيضاً إلى أن هناك تجاراً محليين وآخرين من الخارج، وكل منهم يبيع وفق سياسات وآليات احتساب الكلفة الخاصة به، ما يفسر التفاوت الملحوظ في الأسعار. وتشارك أمل علي بودهيش، صاحبة مجوهرات هند، رأيها في قضية المصنعية والضريبة المفروضة على الذهب، موضحة أن ما يراه المستهلك في الفاتورة النهائية يوحي بأن المصنعية هي السبب الأكبر، بينما في الواقع تعود النسبة الأكبر من الضريبة إلى قيمة الذهب نفسه وسعره في يوم الشراء. وتشير بأسف إلى أن بعض التجار يستغلون تذبذب الأسعار للتلاعب في المصنعية، ما ساهم في تكوين صورة سلبية عن السوق وتعميم صفة الجشع على جميع التجار، في حين أن القناعة بما هو قليل تجلب الخير والبركة.أما عن المعارض، فتوضح بودهيش أن ارتفاع المصنعية فيها يرتبط غالبًا بالرسوم الباهظة المفروضة على المشاركة، ما يضع التاجر البحريني أمام أعباء مالية كبيرة يضطر لتحملها، ولذا يقوم بتعويضها جزئيا ً في المصنعية.
في الختام، يبقى موضوع المصنعية في سوق الذهب البحريني أحد أبرز الملفات التي تستحق التوضيح والمتابعة، فهي تمثل الجهد الحرفي والتكلفة الحقيقية لإنتاج المجوهرات، وليست مجرد رقم يُضاف على سعر المعدن لتحقيق ربح سريع. ورغم أن الغالبية العظمى من التجار يحافظون على أسعار عادلة تراعي مصالح الزبون وتضمن استمرارية السوق، إلا أن هناك بعض الممارسات غير النزيهة من قِبل قلة من التجار الذين يستهينون بالإجراءات الرسمية ويتلاعبون بالأسعار، ما يضعف الثقة ويثير التساؤلات حول مصداقية القطاع.لهذا، تأتي الحاجة الملحّة إلى تكثيف الرقابة من الجهات المعنية، ووضع آلية واضحة وثابتة لحساب المصنعية، بحيث يتمكن الزبون من فهم مكونات السعر، ويضمن التاجر حقه في ربح عادل يغطي التكاليف. وفي المقابل، يجب على الزبائن احترام التجار وعدم التشكيك المستمر في نواياهم، واللجوء للجهات المختصة بحقوق المستهلك عند وجود أي شكوك، بدلًا من اتهام التجار جزافًا.
وفي ظل وجود قوانين واضحة، وفهم مشترك بين البائع والمشتري، وآليات متابعة فعّالة، تتعزز الثقة في السوق ويضمن استمراريته، وتتحول المصنعية إلى عنصر يعكس المهنية والإبداع والفن الحقيقي في صناعة المجوهرات، ما يحفظ لقطاع الذهب البحريني بريقه ومصداقيته على المدى الطويل، ويؤكد للزبون أنه في قلب سوق يحترم متطلباته ويقدر ثقته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك