في مساءٍ هادئ من أمسيات الدوحة، جلس أحد المستثمرين الخليجيين في ردهة فندق أنيق، يتصفح أوراقاً تتعلق بمشروع عقاري جديد معروض للبيع على الخارطة. على الطاولة أمامه، وُضعت كتيبات مزينة بصور أبراج شاهقة وحدائق خضراء. رفع رأسه وهو يقول لمرافقه: «الأرقام مغرية، لكن السؤال الحقيقي: من يضمن حقي إذا تعثر المشروع؟»
هذا التساؤل البسيط يعكس جوهر التحدي الذي يواجهه كل من يخطو إلى سوق العقار الخليجي. فالمباني قد تبدو براقة على الورق، لكن الضمانات القانونية هي ما يحدد إن كان المستثمر سيضع أمواله بثقة أم سيظل متردداً.
دبي: منظومة الثقة الكاملة
حين تذكر حماية المستثمر، تقفز دبي إلى الذهن أولاً. فقد نجحت الإمارة في بناء منظومة قانونية تجعل المشتري، سواء كان خليجياً أو أجنبياً، يشعر أن حقوقه محفوظة.
وجود حسابات الضمان كان نقطة التحول الكبرى. الأموال التي يدفعها المستثمر لا تذهب مباشرة للمطور، بل تُودع في حساب خاص لا يُصرف منه إلا عند إنجاز مراحل محددة من البناء. هذا النظام أعاد تعريف العلاقة بين المشتري والمطور، وأزال هاجس «المشاريع الورقية» التي سادت في الماضي.
أحد المستثمرين الأجانب الذين جربوا السوق قال: «في دبي، لست بحاجة لأن تقلق. إما أن يتم تسليم المشروع، أو أنك ستسترد أموالك. هذه الثقة هي ما تجعلني أعود دائماً».
السعودية: «وافي» والرقابة المحكمة
في المملكة، كان الدرس مؤلماً في البداية. مشاريع كثيرة تعثرت قبل سنوات، ما جعل الثقة تهتز. لكن مع إطلاق برنامج وافي، تغيرت القواعد.
اليوم، لا يمكن لأي مطور أن يبيع وحدات على الخارطة دون ترخيص رسمي، ولا يمكنه أن يتصرف في أموال المشترين بحرية. الرقابة مشددة، والتقارير الدورية إلزامية، وهناك عقوبات واضحة على المخالفين.
أحد المستثمرين الخليجيين قال: «وافي ليس مجرد نظام، بل هو مظلة تحمينا. حين أشتري اليوم في الرياض أو جدة، أشعر أنني في سوق منظم ينافس أكبر الأسواق».
البحرين: خطوات جيدة لكن
التحدي في التنفيذ
في المنامة، لعبت هيئة التنظيم العقاري (RERA) دوراً مهماً في بناء الثقة. فرضت الهيئة نظام الحسابات الضامنة، ووضعت قوانين تضمن تسجيل العقود بسرعة، وألزمت المطورين بالشفافية.
لكن بعض المستثمرين يرون أن البحرين ما زالت بحاجة إلى مزيد من الصرامة. أحدهم قال: «الإجراءات جيدة، لكن ما نحتاجه هو سرعة في التنفيذ ومزيد من الرقابة الميدانية على المشاريع».
البحرين تملك القوانين، لكن قوتها ستظهر أكثر حين تُطبق بصرامة، مع حملات توعية دولية تُبرز هذه الضمانات للمستثمر الأجنبي.
قطر: الحماية مرتبطة بالفرص
في قطر، ارتبطت حماية المستثمرين بالقوانين الجديدة التي فتحت المجال للتملك الأجنبي. صحيح أن البيع على الخارطة متاح في بعض المناطق، لكن الدولة شددت على مراقبة المطورين والتأكد من التزامهم بالمواعيد.
أحد المستثمرين الأوروبيين قال: «أعجبتني شفافية التعامل، لكن السوق القطري ما زال يحتاج إلى تاريخ أطول من الالتزام ليكسب ثقتنا الكاملة».
الدوحة في طريقها الصحيح، لكنها تحتاج وقتاً لتبني سجلاً مشرفاً يوازي ما فعلته دبي أو الرياض.
عمان: الأمان قبل الأرباح
السلطنة تعاملت مع حماية المستثمر من زاوية مختلفة. لم تُفتح السوق على مصراعيها، بل اختارت الحذر. البيع على الخارطة محدود، والرقابة صارمة، والهدف الأول هو حماية الثقة لا تحقيق الأرباح السريعة.
هذا جعل السوق العماني بطيئاً، لكنه في المقابل أكثر أماناً. مستثمر خليجي وصف التجربة بقوله: «في مسقط، قد لا تحقق أرباحاً ضخمة بسرعة، لكنك متأكد أن أموالك لن تضيع».
الكويت: السوق المحلي المحمي
في الكويت، غياب الانفتاح على الأجانب جعل حماية المستثمر ترتبط بالمحليين بالدرجة الأولى. السوق يدار بقوانين داخلية، لكن محدودية المشاركة الدولية تجعل التجربة مختلفة عن باقي دول الخليج.
مستثمر خليجي قال: «الكويت قادرة على خلق سوق ضخم، لكن حتى الآن، لم تفتح أبوابها بشكل كامل. الحماية موجودة، لكنها محلية أكثر منها دولية».
قصص من الميدان
في دبي، مستثمر عربي اشترى وحدة سكنية على الخارطة عام 2015، وحين تأخر المشروع سنة كاملة، استعاد أمواله بالكامل بفضل نظام الحسابات الضامنة. يقول بابتسامة: «كانت التجربة مريحة رغم التأخير. لم أشعر أنني ضائع».
في البحرين، مستثمر آخر واجه تأخراً في تسليم مشروع، لكنه اضطر للانتظار طويلاً قبل أن يحصل على تعويض. قال: «القوانين موجودة، لكنها تحتاج إلى سرعة في التطبيق».
أما في الرياض، فقد حكى مستثمر شاب أنه اشترى أول شقة له عبر نظام وافي. يقول: «شعرت أنني محمي بالكامل. كان الأمر جديداً عليّ، لكن الشفافية جعلتني أستثمر بثقة».
البحرين أمام اختبار الثقة
الخليج اليوم في سباق ليس فقط لبناء أبراج شاهقة، بل لبناء ثقة شاهقة. فالمستثمر لا يضع أمواله في الأسمنت فقط، بل في منظومة قانونية تحميه.
دبي أعطت الدرس الأول في كيف تُبنى الثقة عبر قوانين صارمة. السعودية أثبتت أن السوق الكبير يمكن أن يُدار بكفاءة مع برنامج مثل «وافي». قطر تخطو خطوات واثقة لكنها تحتاج للزمن. عمان اختارت الحذر كضمانة. الكويت ما زالت خارج دائرة الانفتاح.
أما البحرين، فهي تمتلك القوانين، لكن عليها أن تُظهر قوتها في التطبيق، وتُسوق لهذه المزايا دولياً. المستثمر الخليجي أو الأجنبي لن يغامر بأمواله إلا حين يعرف أن حقوقه مضمونة بلا تأخير أو تعقيد.
ذلك المستثمر الجالس في ردهة الفندق بالدوحة لخص القصة بكلمات قليلة: «المباني قد تتأخر، لكن الثقة يجب أن تكون حاضرة دائماً. من دونها، لن يقوم أي سوق عقاري، حتى لو امتلأ بالوعود».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك