في ظلّ تدفّق المعلومات الماليّة والاقتصاديّة عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة الخوف من فوات الفرصة، التي تسمّى اختصارًا (FOMO). ويقصد بها شعور القلق والتوتّر الذي يدفع الأفراد إلى اتخاذ قرارات ماليّة سريعة خشية تفويت فرص يرونها مربحة لمجرّد أنّ الآخرين قد اغتنموها.
وتنظر الشريعة الإسلاميّة إلى هذا السلوك الشّائع في عالم الاستثمار والمال نظرة سلوكيّة أخلاقيّة تتطلّب وقفة تأمل عميقة؛ حيث يتجلّى مفهوم الخوف من فوات الفرصة في سلوكيّات استثماريّة غير مدروسة، يتّخذها الأفراد بناءً على الحماسة أو الهلع الجماعيّ، وليس على تحليل موضوعيّ أو تقييم ماليّ متّزن، ما يُؤدّي إلى خسائر فادحة، وخاصّة عندما يتّضح لاحقًا أنّ ما ظنّه الناس فرصة ذهبيّة لم يكن سوى وهم عابر أو دعاية مضلِّلة.
ولا شكّ أنّ هذا السلوك يتعارض مع عدد من المبادئ الأساسية للشريعة الإسلاميّة، أهمّها التوكّل على الله، الذي يقتضي الجمع بين بذل الأسباب والثقة في تدبير الله.
ويدخل كثيرٌ من التعاملات الناتجة عن (FOMO) في نطاق الغرر، وهو منهيٌّ عنه في الشريعة الإسلاميّة؛ لما فيه من جهالة ومخاطرة عالية تؤدّي إلى تضييع الحقوق. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الاستثمارُ في منتجات ماليّة غير مفهومة أو أصول رقميّة متقلّبة، لأنّ السوق يشهد إقبالًا عليها فقط، من دون إدراك حقيقيّ لقيمتها أو مشروعيتها. وهذا النوع من السلوك يُعرّض الفرد لخسائرَ غيرِ مبرّرةٍ شرعًا.
كما أنّ كثيرًا من موجات (FOMO) يتمّ تضخيمها عبر حملات دعائيّة أو توصيات من مؤثّرين يفتقرون إلى التأهيل العلميّ أو الأخلاقيّ. وهذا يدخل في باب الغبن أو التدليس، وهما محرّمان شرعًا لما فيهما من خداع وتضليل للناس، ما يُضعف ثقة الأفراد في الأسواق ويؤدّي إلى فقدان الشفافية والعدالة، وهما من مقاصد الشريعة في المعاملات الماليّة.
وأمّا من الناحية الاقتصاديّة فيتسبّب (FOMO) في خلق فقاعات ماليّة وهميّة، ويؤدّي إلى تقلّبات حادّة في الأسعار، وخسائر جسيمة للمستثمرين غير المحترفين، فضلًا عن زعزعة استقرار السوق والإخلال بمبدأي التوازن والإنصاف اللذين تحرص الشريعة على ترسيخهما. ولذلك؛ فإنّ السوق الماليّة الإسلاميّة تقوم على أسس من المعرفة والتخطيط والوعي، لا على القلق أو التقليد الأعمى.
ولتحقيق مقاصد الشريعة الإسلاميّة؛ يجب أن تُستبدَل ردود أفعال واعية بالسلوكيّات العاطفيّة، فينبغي التريّث بدلًا من الاندفاع مع السوق، ولا بدّ من استشارة أهل الخبرة والتحقّق من المعلومات قبل اتّخاذ أيّ قرار ماليّ. كما يجب تجاوز التقليد الأعمى بالبحث والتوثّق، والتمسّك بتحقيق الربح الحلال. وأمّا السعي خلف الأرباح السريعة فيُقابل بالاستثمار في القطاعات الاقتصاديّة والماليّة القائمة على النشاط الاقتصاديّ الحقيقيّ.
وهكذا؛ فإنّ الخوف من فوات الفرصة ليس مجرّد حالة نفسيّة بل هو سلوك يحمل أبعادًا أخلاقيّة واقتصاديّة حسّاسة. إنّ الإسلام لا يرفض السعي إلى الرزق، وإنّما يحثّ عليه في إطار من العقل والاتّزان والتثبّت. وأمّا الانسياق وراء العاطفة والشائعات فيُعكّر صفو التعاملات ويُهدّد استقرار السوق ويُعرّض الحقوق للضياع. ولذلك فإن الشريعة الإسلاميّة تدعو إلى بناء الأسواق على أسس متينة من الوعي والسلوك القويم، لا على مشاعر الخوف والهوس الجماعيّ.
{ محاضر رئيس في معهد الـبحريـن للدراسات المالية والمصرفية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك