في مسار التحولات الإدارية المتسارعة التي تشهدها المؤسسات الحكومية، تزداد أهمية مراجعة الأدوات التنظيمية ومنهجيات العمل بما يواكب متطلبات الكفاءة ويُعزز من موثوقية الأداء. وفي هذا الإطار، يبرز مفهوم «الميزة التنافسية» بوصفه مؤشراً على قدرة الجهة الحكومية على إبراز نقاط قوتها المؤسسية وتفعيل عناصر التميز النوعي ضمن مسؤولياتها واختصاصاتها المحددة. هذا التميز لا يتحقق من خلال الإجراءات التقليدية وحدها، بل يتطلب تكاملاً فعالاً بين هوية مؤسسية راسخة وحوكمة ناضجة توجه السلوك الإداري وتُحقق التوافق بين الرؤية والتنفيذ.
ويُطرح هنا تساؤل جوهري: كيف يمكن لهذا التكامل أن يتحول إلى ركيزة لبناء ميزة تنافسية مستدامة في القطاع الحكومي، قادرة على مواكبة التحولات وتحقيق أثر مؤسسي يتسم بالثبات والموثوقية؟
الهوية المؤسسية، في جوهرها، لا تختزل في الشعارات أو الألوان البصرية، وإنما تنبع من منظومة القيم والسلوكيات والممارسات التي تنتهجها المؤسسة في مختلف تعاملاتها. إنها التعبير العميق عن «من نحن»، و«كيف نعمل»، و«لماذا نوجد». وكلما كانت هذه الهوية واضحة ومفعّلة في التفاصيل الإدارية اليومية، تزداد قدرة المؤسسة على ترسيخ التميز الأصيل.
وتأتي الحوكمة هنا كضمانة جوهرية لتوجيه الهوية المؤسسية نحو أهداف مستدامة. فالعمل المؤسسي الذي يستند إلى مبادئ الشفافية، والمساءلة، والعدالة، يُحول الهوية إلى التزام جماعي وسلوك إداري تتجسد آثاره في جودة الخدمات ومستوى الثقة المجتمعية.
ولا يغيب عن النظر، أن التطورات التنظيمية الأخيرة في الجهاز الحكومي كما تمت الإشارة في مقال سابق حول الثقة المؤسسية تُشكل نقطة اختبار حقيقية لقدرة المؤسسات على الحفاظ على هويتها في ظل التغيير، وتحويل الانتقال الإداري إلى فرصة لترسيخ الاستقرار وتعزيز الموثوقية، من خلال مواءمة القرارات التنظيمية مع خصوصية المؤسسة وخبراتها المتراكمة.
فعلى سبيل المثال، عندما يتم تعيين قيادات جديدة من دون تمكينهم من فهم السياق الثقافي للمؤسسة، قد تنشأ فجوات داخلية تُضعف الانتماء وتربك مسار العمل. وتتجلى هذه الفجوة أحياناً في اختلاف أولويات الإدارة الجديدة، أو تبدل أساليب التواصل، أو إعادة ترتيب فرق العمل من دون مراعاة الخبرات المتراكمة والاستمرارية المؤسسية، ما يؤدي إلى تآكل تدريجي في الانسجام الوظيفي والثقة الداخلية.
ولعل من المهم في الممارسة العملية أن يُقترن نقل القيادات الإدارية «خاصة في المواقع المحورية» ببرامج تأهيل نوعية تُعرّف هذه القيادات على خصوصية المؤسسة، وتُهيئها للاندماج لا الاستبدال، وللتطوير دون الإرباك.
فالهوية المؤسسية هي البوصلة التي تحفظ للمؤسسة وحدتها الداخلية، وتمنح موظفيها شعوراً بالانتماء والاستقرار. ومن هذا المنطلق، تأتي الحوكمة كآلية متكاملة لا تقتصر على ضبط الهياكل والأنظمة، بل تُفعل لحماية روح المؤسسة أثناء التغيير وضمان ألا يتحول التحديث الإداري إلى حالة من الاغتراب الوظيفي أو التناقض بين الماضي والمستقبل.
ولا يخفى أن المؤسسات التي تتبنى نهجاً حوكمياً متكاملاً، تعزز موقعها كمكون استراتيجي في منظومة العمل الحكومي، وتُترجم ثقة القيادة والمجتمع إلى إنجازات ملموسة. ويُعد ما تحققه من ترتيب متقدم في أولويات الخطط والبرامج الوطنية دليلاً على نضج هويتها المؤسسية، وقدرتها على تحويلها إلى قيمة مضافة ومستدامة.
الهوية المؤسسية.. عندما تُفعّل ضمن إطار حوكمي ناضج، لا تمنح المؤسسة ميزة تنافسية في الحاضر فحسب، بل تؤسس أيضاً لمكانتها المستقبلية. كما تُسهم في بناء سمعة مؤسسية راسخة، وتعزيز الثقة المجتمعية، وتحويل التحديات إلى فرص حقيقية للنمو المؤسسي المستدام.
وفي الختام، فإن السعي إلى تحقيق ميزة تنافسية مستدامة في المؤسسات الحكومية لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن وعي عميق بالهوية المؤسسية، وتفعيل فعلي لمبادئ الحوكمة. فعندما تُترجم القيم إلى ممارسات، وتُدار التحولات الإدارية بانسجام مع روح المؤسسة، تنشأ بيئة عمل قادرة على التميّز الحقيقي. تلك هي الميزة التنافسية المنشودة: أن تكون المؤسسة متفردة بجوهرها، ثابتة في قيمها، ومتفوقة بأدائها.. مهما تغيرت الأدوار أو تعاقبت الأسماء.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك