العدد : ١٧٠٨٨ - السبت ٠٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٨ - السبت ٠٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رجب ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

شكلي الحضري قشرة خارجية (3)

لأننا‭ ‬جماعة‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬عنوانه،‭ ‬وكله‭ ‬عندنا‭ ‬صابون،‭ ‬فنحن‭ ‬نوزع‭ ‬الألقاب‭ ‬بسخاء،‭ ‬ومن‭ ‬يعمل‭ ‬بالتمريض‭ ‬يصبح‭ ‬في‭ ‬نظرنا‭ ‬‮«‬دكتور‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬يرتدي‭ ‬ربطة‭ ‬العنق‭ ‬يصبح‭ ‬‮«‬شخص‭ ‬راقي‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬يطعِّم‭ ‬كلامه‭ ‬بمفردات‭ ‬إنجليزية‭ ‬أو‭ ‬فرنسية‭ ‬يفوز‭ ‬بلقب‭ ‬مثقف،‭ ‬وشخصيا‭ ‬استفدت‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬السخاء‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬الألقاب،‭ ‬وصرت‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬البعض‭ ‬حضريا‭ ‬متمدينا،‭ ‬ولأن‭ ‬معارفي‭ ‬يعرفون‭ ‬عني‭ ‬‮«‬انضباطي‮»‬‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬الوقت‭ ‬والمواعيد،‭ ‬فبعضهم‭ ‬يقول‭ ‬عني‭ ‬إنني‭ ‬خواجة،‭ ‬ويعنون‭ ‬بها‭ ‬إنني‭ ‬‮«‬غربي‮»‬،‭ ‬وبهذا‭ ‬فهم‭ ‬يسيئون‭ ‬لبني‭ ‬قومهم‭ ‬بنسب‭ ‬احترام‭ ‬المواعيد‭ ‬للغربيين‭ ‬وحدهم‭.‬

نعم‭ ‬يحسبني‭ ‬كثيرون‭ ‬حضريا،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬صحيحا‭ ‬بمعنى‭ ‬انني‭ ‬عشت‭ ‬معظم‭ ‬سنوات‭ ‬عمري‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ (‬بينما‭ ‬بعض‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬عشت‭ ‬فيها‭ ‬ترتدي‭ ‬مسوح‭ ‬التمدن‭ ‬الكاذب،‭ ‬لأنها‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬شاعرنا‭ ‬محمد‭ ‬المكي‭ ‬إبراهيم‭ ‬عن‭ ‬الخرطوم‭: ‬ريفية‭ ‬ما‭ ‬نصل‭ ‬الخضاب‭ ‬عن‭ ‬أقدامها‭ ‬المدببة‭/ ‬خائنة‭ ‬وطيبة‭). ‬ولكنني‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسي‭ ‬قروي،‭ ‬خاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالتمسك‭ ‬بتقاليد‭ ‬القرية‭ ‬والريف‭ ‬والبادية‭ ‬في‭ ‬النواحي‭ ‬المتعلقة‭ ‬بصلة‭ ‬الأرحام‭ ‬والتواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭. ‬واحترام‭ ‬الكبير‭. ‬ولي‭ ‬أصدقاء‭ ‬في‭ ‬مرتبة‭ ‬الأقارب‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬رغم‭ ‬انني‭ ‬شحيح‭ ‬في‭ ‬منح‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬صديق‮»‬،‭ ‬فبعد‭ ‬التعرض‭ ‬للسعات‭ ‬وطعنات‭ ‬صرت‭ ‬أكثر‭ ‬تأنيا‭ ‬في‭ ‬اصطفاء‭ ‬الناس‭ ‬ومؤاخاتهم‭.‬

أتى‭ ‬عليّ‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬أصدقائي‭ ‬يعدون‭ ‬بالعشرات،‭ ‬ولكن‭ ‬الدنيا‭ ‬تغيرت‭ ‬وغيرت‭ ‬الناس،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بلاوي‭ ‬العولمة‭ ‬أن‭ ‬العلاقات‭ ‬الانسانية‭ ‬صارت‭ ‬سلعة‭: ‬تشيلني‭ ‬أشيلك‭.. ‬ما‭ ‬تشيلني‭ ‬داهية‭ ‬تاخدك‭. ‬وكلما‭ ‬ارتفع‭ ‬مؤشر‭ ‬الأسهم‭ ‬تدنى‭ ‬مؤشر‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭: ‬هل‭ ‬من‭ ‬جدوى‭ ‬في‭ ‬مصادقة‭ ‬مصطفى‭ ‬أم‭ ‬‮«‬أركِّز‮»‬‭ ‬على‭ ‬عبدالرحيم‭ ‬لأن‭ ‬الأخير‭ ‬‮«‬واصل‮»‬‭. ‬صحيح‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬نذالة‭ ‬ورذالة‭ ‬ولكنني‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أستفيد‭ ‬من‭ ‬علاقاته‭ ‬بذوي‭ ‬الشأن‭. ‬وجاءت‭ ‬العولمة‭ ‬وصرنا‭ ‬أكثر‭ ‬أنانية‭ ‬وفردية‭ ‬وعدوانية‭. ‬صرنا‭ ‬مثل‭ ‬حيوانات‭ ‬الغابة‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬الحيز‭ ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬ويسعى‭ ‬الى‭ ‬تكبير‭ ‬‮«‬كومه‮»‬‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الآخرين‭. ‬حتى‭ ‬اختيار‭ ‬الزوج‭ ‬والزوجة‭ ‬صار‭ ‬يخضع‭ ‬لمقاييس‭ ‬السوق‭: ‬تزوج‭ ‬يا‭ ‬ولدي‭ ‬بنت‭ ‬الحاج‭ ‬شلغم‭ ‬بلغم‭ ‬تستفيد‭ ‬وتفيد‭.. ‬خلك‭ ‬من‭ ‬بنت‭ ‬خالك‭ ‬التعبانة‭ ‬بنت‭ ‬التعبان‭.. ‬يا‭ ‬ولدي‭ ‬الفقر‭ ‬مثل‭ ‬المرض‭ ‬ينتقل‭ ‬بالعدوى‭ ‬والوراثة‭.. ‬وخالك‭ ‬فقير‭ ‬أبا‭ ‬عن‭ ‬جد‭.. ‬وشلغم‭ ‬بلغم‭ ‬ما‭ ‬عنده‭ ‬غيرها‭ ‬البنت‭.. ‬صحيح‭ ‬هي‭ ‬أكبر‭ ‬منك‭ ‬شوي‭ ‬بس‭ ‬الفرق‭ ‬مو‭ ‬كبير‭.. ‬عشر‭ ‬سنين‭ ‬بالكثير‭!‬

أعرف‭ ‬أصدقاء‭ ‬اعطوا‭ ‬توكيلات‭ ‬لأشقائهم‭ ‬لإنجاز‭ ‬بناء‭ ‬بيت‭ ‬او‭ ‬تخليص‭ ‬سيارة‭ ‬من‭ ‬الجمارك‭ ‬واكتشفوا‭ ‬لاحقا‭ ‬ان‭ ‬الأشقاء‭ ‬إما‭ ‬بنوا‭ ‬البيوت‭ ‬وخلصوا‭ ‬السيارات‭ ‬لحساب‭ ‬أنفسهم‭ ‬أو‭ ‬حولوا‭ ‬قيمتها‭ ‬إلى‭ ‬منافعهم‭ ‬الشخصية‭ ‬‮«‬كنت‭ ‬مزنوق‭ ‬في‭ ‬قرشين‭ ‬وان‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬فلوسك‭ ‬ترجع‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬فرصة‮»‬‭.. ‬وكلنا‭ ‬سمع‭ ‬بحكاية‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬عقوق‭ ‬الأبناء‭.. ‬وما‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬أشد‭ ‬مضاضة‭ ‬من‭ ‬ظلم‭ ‬الولد‭ ‬أو‭ ‬البنت‭ ‬للأب‭ ‬والأم‭.. ‬يعيش‭ ‬الأب‭ ‬على‭ ‬الكفاف‭ ‬ليعلم‭ ‬الولد‭ ‬ويستثمر‭ ‬كل‭ ‬علاقاته‭ ‬ليضمن‭ ‬له‭ ‬وظيفة‭ ‬طيبة‭ (‬ومعظمنا‭ ‬يستثمر‭ ‬في‭ ‬عياله‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬يتوقع‭ ‬أن‭ ‬يعينوه‭ ‬لاحقا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أعباء‭ ‬الحياة‭) ‬ويصبح‭ ‬الولد‭ ‬مستقلا‭ ‬ماديا‭ ‬ولكن‭ ‬يبقى‭ ‬كل‭ ‬همه‭ ‬اقتناء‭ ‬سيارة‭ ‬أفضل‭ ‬وتبديل‭ ‬الموبايل‭ ‬كل‭ ‬ستة‭ ‬أشهر،‭ ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬والده‭ ‬لم‭ ‬يبدل‭ ‬ملابسه‭ ‬طوال‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭!! ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬النواحي‭ ‬فإنني‭ ‬قروي‭ ‬وأسأل‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يبقيني‭ ‬وذريتي‭ ‬قرويين‭. ‬نعم،‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬مريحة‭ ‬ماديا‭ ‬وجسمانيا،‭ ‬ولكنها‭ ‬وعلى‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭ ‬مرهقة‭ ‬نفسيا‭ ‬ومعنويا‭. ‬لهاث‭ ‬مستمر،‭ ‬وتصبح‭ ‬القرابة‭ ‬والصداقة‭ ‬مثل‭ ‬الفاست‭ ‬فود‭ (‬الوجبات‭ ‬السريعة‭).. ‬على‭ ‬الماشي‭.. ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الوجبات‭ ‬تتعرض‭ ‬للتزوير‭ ‬بالكتشاب‭ ‬والمايونيز‭ ‬فإن‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬تصبح‭ ‬مزورة‭ ‬بالرسائل‭ ‬النصية‭ ‬عبر‭ ‬الموبايل‭ (‬المسجات‭) ‬والمكالمات‭ ‬الهاتفية‭.. ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأعياد‭ ‬يتبادل‭ ‬الأقارب‭ ‬رسائل‭ ‬الموبايل‭ ‬تفاديا‭ ‬لمشقة‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬بيوت‭ ‬الأقارب‭ ‬والأصدقاء‭ ‬وفي‭ ‬عُرف‭ ‬القرويين‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬‮«‬المشقة‮»‬‭.. ‬‮«‬متعة‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا