زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
شكلي الحضري قشرة خارجية (3)
لأننا جماعة الكتاب من عنوانه، وكله عندنا صابون، فنحن نوزع الألقاب بسخاء، ومن يعمل بالتمريض يصبح في نظرنا «دكتور»، ومن يرتدي ربطة العنق يصبح «شخص راقي»، ومن يطعِّم كلامه بمفردات إنجليزية أو فرنسية يفوز بلقب مثقف، وشخصيا استفدت من هذا السخاء في توزيع الألقاب، وصرت في نظر البعض حضريا متمدينا، ولأن معارفي يعرفون عني «انضباطي» في أمور الوقت والمواعيد، فبعضهم يقول عني إنني خواجة، ويعنون بها إنني «غربي»، وبهذا فهم يسيئون لبني قومهم بنسب احترام المواعيد للغربيين وحدهم.
نعم يحسبني كثيرون حضريا، وقد يكون ذلك صحيحا بمعنى انني عشت معظم سنوات عمري في المدن، (بينما بعض المدن التي عشت فيها ترتدي مسوح التمدن الكاذب، لأنها كما قال شاعرنا محمد المكي إبراهيم عن الخرطوم: ريفية ما نصل الخضاب عن أقدامها المدببة/ خائنة وطيبة). ولكنني في قرارة نفسي قروي، خاصة فيما يتعلق بالتمسك بتقاليد القرية والريف والبادية في النواحي المتعلقة بصلة الأرحام والتواصل مع الآخرين. واحترام الكبير. ولي أصدقاء في مرتبة الأقارب من الدرجة الأولى رغم انني شحيح في منح لقب «صديق»، فبعد التعرض للسعات وطعنات صرت أكثر تأنيا في اصطفاء الناس ومؤاخاتهم.
أتى عليّ حين من الدهر كان فيه أصدقائي يعدون بالعشرات، ولكن الدنيا تغيرت وغيرت الناس، وكان من بلاوي العولمة أن العلاقات الانسانية صارت سلعة: تشيلني أشيلك.. ما تشيلني داهية تاخدك. وكلما ارتفع مؤشر الأسهم تدنى مؤشر العلاقات الاجتماعية: هل من جدوى في مصادقة مصطفى أم «أركِّز» على عبدالرحيم لأن الأخير «واصل». صحيح هو لا يخلو من نذالة ورذالة ولكنني أستطيع أن أستفيد من علاقاته بذوي الشأن. وجاءت العولمة وصرنا أكثر أنانية وفردية وعدوانية. صرنا مثل حيوانات الغابة كل واحد منا يدافع عن الحيز الخاص به ويسعى الى تكبير «كومه» على حساب الآخرين. حتى اختيار الزوج والزوجة صار يخضع لمقاييس السوق: تزوج يا ولدي بنت الحاج شلغم بلغم تستفيد وتفيد.. خلك من بنت خالك التعبانة بنت التعبان.. يا ولدي الفقر مثل المرض ينتقل بالعدوى والوراثة.. وخالك فقير أبا عن جد.. وشلغم بلغم ما عنده غيرها البنت.. صحيح هي أكبر منك شوي بس الفرق مو كبير.. عشر سنين بالكثير!
أعرف أصدقاء اعطوا توكيلات لأشقائهم لإنجاز بناء بيت او تخليص سيارة من الجمارك واكتشفوا لاحقا ان الأشقاء إما بنوا البيوت وخلصوا السيارات لحساب أنفسهم أو حولوا قيمتها إلى منافعهم الشخصية «كنت مزنوق في قرشين وان شاء الله فلوسك ترجع لك في أقرب فرصة».. وكلنا سمع بحكاية أو أكثر عن عقوق الأبناء.. وما من ظلم أشد مضاضة من ظلم الولد أو البنت للأب والأم.. يعيش الأب على الكفاف ليعلم الولد ويستثمر كل علاقاته ليضمن له وظيفة طيبة (ومعظمنا يستثمر في عياله بمعنى أنه يتوقع أن يعينوه لاحقا في مواجهة أعباء الحياة) ويصبح الولد مستقلا ماديا ولكن يبقى كل همه اقتناء سيارة أفضل وتبديل الموبايل كل ستة أشهر، وهو يعرف أن والده لم يبدل ملابسه طوال ثلاث سنوات!! في مثل هذه النواحي فإنني قروي وأسأل الله أن يبقيني وذريتي قرويين. نعم، الحياة في المدن مريحة ماديا وجسمانيا، ولكنها وعلى المدى البعيد مرهقة نفسيا ومعنويا. لهاث مستمر، وتصبح القرابة والصداقة مثل الفاست فود (الوجبات السريعة).. على الماشي.. وكما أن تلك الوجبات تتعرض للتزوير بالكتشاب والمايونيز فإن العلاقات الإنسانية تصبح مزورة بالرسائل النصية عبر الموبايل (المسجات) والمكالمات الهاتفية.. حتى في الأعياد يتبادل الأقارب رسائل الموبايل تفاديا لمشقة الانتقال إلى بيوت الأقارب والأصدقاء وفي عُرف القرويين فإن تلك «المشقة».. «متعة».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك