زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
شكلي الحضري قشرة خارجية (1)
بي عشق للأمثال العربية و«الشعبية»، وحرصت منذ سنوات على الإلمام بالأمثال السائدة في منطقة الخليج دون غيرها، ونجحت في تسريب بعضها إلى قرائي من المناطق الأخرى في العالم العربي. خذ مثلا: كثر الدق يفك اللحام، هذا قول فيه كثير من الحكمة لأنه يدعو إلى المثابرة على الشيء المراد إنجازه، وهناك «اللي ما يعرف الصقر يشويه»: منتهى البلاغة ففي إيجاز يقول المثل إن من لا يعرف قيمة الشيء الثمين يسيء استخدامه، ومن الأمثال التي أعلقها قلادة في عنقي: «من نسي قديمه تاه».
لو سألت عني أي شخص يعرفني جيدا فسيقول لك إن أبا الجعافر حضري أي ابن مدن، ذلك أنني عشت معظم سنوات حياتي في المدن، ولكنني وفي مواقف كثيرة أكتشف أنني وفي دواخلي قروي بدوي رعوي فلاحي، ويتضح لي ذلك بجلاء عند زيارة مدن غربية، فرغم أنني أعرف كل ما ينبغي أن يُعرف عن الحضارة الغربية (أو أحسب ذلك)، ورغم أن المدارس على أيامنا كانت تعلمنا عن الحياة في بريطانيا عشرة أضعاف ما تعلمنا عن الحياة في وطننا ومحيطه، ورغم أنني زرت بريطانيا مرارا وعشت فيها حينا من الدهر، فإنني أجد نفسي غريبا عنها كلما أتيتها، بل أزداد استعصاما وتمسكا بجذوري وثقافتي، بل والأدهى من ذلك إنني أقع في «أخطاء» كتلك التي يرتكبها القروي في احتكاكه الأول بالمدينة. مثل حكايتي مع الكوكا كولا عندما أتيت إلى الخرطوم أول مرة وكان حلم حياتي أن أتذوق الكولا، وأمسكت بالزجاجة الباردة كمن يمسك بجائزة نوبل، أو كأس العالم لكرة القدم، ووضعت الزجاجة في فمي وشفطت منها شفطة كبيرة، ثم قررت إبعاد الزجاجة عن فمي قليلا كما رأيت الآخرين يفعلون، ولكن الزجاجة أبت أن تفارق فمي بعد أن انحشر لساني في فوهتها ثم أحسست بفلفل حار يسري عبر أنفي حتى سالت دموعي، ونجحت في تخليص فمي ولكن نصف محتويات الزجاجة انسكبت على قميصي ورميت الزجاجة بما بقي فيها من مشروب، ومنذ يومها وأنا سيء الظن بأمريكا وكل منتجات أمريكا.
ركبت القطار الداخلي في العاصمة الماليزية كولالمبور لأول مرة وأعجبت بنظافته. وكنت قد كتبت على ورقة اسم المحطة التي ينبغي أن أغادر فيها القطار، وهكذا ظلت عيناي ترصدان اسم كل محطة يقف فيها القطار ولكنني فوجئت بأنها جميعا تحمل اسم «كيلوار». كانت ماليزيا قد بهرتني بإنجازاتها وحسن هندسة طرقها وجسورها وتخطيط مدنها ورقي شعبها، ومن ثم كان بدهيا أن أحتار في أمر غبائهم بإطلاق اسم واحد على كل محطات القطار. وهكذا قررت النزول من القطار والتوجه إلى حيث أريد بسيارة أجرة. وفي المحطة قلت: لماذا لا تكن فاعل خير يا أبا الجعافر وتنبه العاملين في تلك القطارات إلى الخطأ المزري والمضحك المتمثل في إطلاق اسم واحد على كل المحطات، وهكذا توجهت إلى مسؤول في المحطة وأبديت له «ملاحظتي» فما كان من الرجل إلا أن ضحك وقال إن كيلوار تعني بلغة أهل البلاد «خروج». وأضاف: طبعا لابد من إرشاد الركاب إلى منافذ الخروج في كل محطة، وشرح لي كيف أن كل محطة تحمل اسما مميزا. وأنه ربما فات عليّ الانتباه إلى لوحات الأسماء.
المهم أنني بعد عديد من الهفوات التي ارتكبتها في بلاد برة لم أعد أضحك على العربي الذي يدخل محلات سيلفريدج في لندن ويسأل رجل الأمن: عندكم سندويتشات شاورما. أو ذاك الذي قيل له إن عليه أن يسافر إلى دوفر على الشاطئ الشرقي لإنجلترا ليسافر منها إلى فرنسا فسافر إلى ديفون التي على الشاطئ الغربي وتطل على المحيط الاطلنطي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك