القراء الأعزاء،
يسوؤني أحيانًا حين أصادف أمّا عربية تُخاطب طفلها ذا الثلاث سنوات بلغة إنجليزية، وما بالك إذا كانت هذه الأم بحرينية ولمست اللهجة البحرينية المائية تختلط مع إنجليزيتها، حينها يتضاعف امتعاضي وأردد بيني وبين نفسي: «اتّقوا الله في لغتكم يا ناس!».
ورد في الحديث النبوي الشريف عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه..» وباعتبار أن الدين الاسلامي يتميز بشموليته، ففي رأيي أن هذا الحديث لا ينطبق فقط على المعتقد الديني الذي ينقله الآباء إلى أبنائهم، بل ينسحب ليشمل جميع مفردات الثقافة من سلوك، لغة، إرث ثقافي وغيرها، لذا يلعب الوالدان بشكل خاص والأسرة بشكل عام دورا كبيرا ومحوريا في تعليم وتربية أبنائهم ونقل ثقافتهم إليهم، وهذا الدور يفوق ويتفوق بلا شك على دور مؤسسات التعليم في الدولة وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، بالنظر إلى فترة السنوات الست الأولى التي يقضيها الطفل في محيط واحد فقط وهو محيط الأسرة ينهل منها ويتعلم أسسا لن تُغادر ذهنه وذاكرته، حيث نعلم جميعاً أهمية هذه المرحلة في النقش على صفحات الطفل البيضاء والتي تبقى متأصلة في ذهن وذاكرة الطفل حتى قيل إن: (العلم في الصغر كالنقش في الحجر).
وقد قرأت مرّة ضمن نظريات التآمر على الشعوب العربية المسلمة بأنه كان هناك من يبحث عن أسباب قوة هذه الشعوب وقوة لُغتها وبلاغتها وحسن تفكيرها، فقيل له إن أطفالها يتعلمون القرآن الكريم منذ سن مبكرة جداً ولا يكاد الطفل منهم يصل السابعة من عمره إلا وكان خاتماً لقراءته وحافظاً لسوره، مُتقناً للحروف الأبجدية ومخارج ألفاظها ويمتلك كنزاً من الحصيلة اللغوية، لذا تم استبدال فكرة مرحلة الطفولة التي يجب أن يقضيها الطفل في اللهو واللعب بفكرة تحفيظ القرآن عند (المطوّع) في هذه السن الصغيرة.
لذا يؤرّقني مثل الكثيرين فيما يتعلق بالحديث عن الأطفال والأجيال الحديثة موضوع الهوية والانتماء للثقافة الأصيلة فينا، وهويّتنا التي بدأت تتراجع في ثقافة الأجيال الجديدة بشكل ملحوظ – ليست عند الكل ولكن بصورة نستطيع للأسف أن نعتبرها ظاهرة–، بدءاً من اللغة انتهاء بالمعرفة بأساليب التعامل والسلوك الاجتماعي الأصيل (السنع والرد والبدل)، حيث يكاد الكثير من الأطفال أن يجهل اللغة العربية في مواجهة معرفته باللغة الإنجليزية التي أصبحت هي اللغة الأم للكثير منهم، وسط تشجيع وتفاخر من قبل الوالدين بهذه المعرفة التي لن تسمن ولن تُغني من جوع، على اعتبار أن اللغة هي جوهر هويّة الإنسان وأن إلمامه بها وبقواعدها هو ما يُعزز هذه الهوية.
ولا أقول هنا بعدم تعلّم لغات أخرى وإتقانها، ليس مع علمي بأن (من تعلم لغة قوم أمِن شرّهم)، بل أُشجّع على اتقان اللغة العربية الأم أولاً بجانب ما استطاع الطفل إليه سبيلا من لغات أخرى، تعزيزاً لثقافته وعلمه ولفتح آفاق جديدة ومتنوعة من مجالات المعرفة والعلم والعمل، ولكن مع الحفاظ على الأصل وإتقانه ولاسيما بأن لغتنا العربية هي اللغة التي تستحق أن يُفتخر بها.
ونذكر جميعاً أن بعض الشعوب في الدول الغربية كانوا وما زال البعض منها يرفض الحديث بغير لغتهم مع أي غريب زائر لبلادهم في صورة من صور اعتزازهم بهويتهم تستحق الاحترام، وإن كنًا سنتعلم شيئاً من الشعوب الأخرى أو نحاول تقليدهم فيه، فلنتبع خُطاهم في ما يحرصون عليه من إظهار الاحترام لهويتهم.
ولا شك أن أجيالنا الحديثة قد وُجدت في وضع لا تُحسد عليه أبداً، إذ إنها تواجه تحديات من داخل وخارج محيطها، ففي داخل محيطها لم يحظ الكثير منها بالعناية والاهتمام التي كانت تحظى بها سابقتها بحكم دور الأم المحوري في عملية التربية وفي ظل صعوبة الموازنة بين دور الأم كربة أسرة وكامرأة عاملة فبرز دور العاملة أو المربية وهي غالباً تأتي من ثقافة مختلفة، يُضاف إلى ذلك انشغال الأمهات بوسائل التواصل الاجتماعي الذي تقدّم ليحتل مرتبة متقدمة ضمن قائمة الأولويات، وبالتأكيد أن للأب نصيبا من ذلك، أما تحديات خارج محيطها فهي تواصل هذه الأجيال عبر الأجهزة الإلكترونية دون رقابة -غالباً- وانخراطهم في القرية العالمية الصغيرة وانفتاحهم على ثقافات مختلفة قد تكون معاكسة تختلف كثيرا من ثقافتنا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك