العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقالات

ثقافة اللغة كهوية

بقلم: المحامية د. هنادي عيسى الجودر

الأحد ٠٦ أكتوبر ٢٠٢٤ - 02:00

القراء‭ ‬الأعزاء،

يسوؤني‭ ‬أحيانًا‭ ‬حين‭ ‬أصادف‭ ‬أمّا‭ ‬عربية‭ ‬تُخاطب‭ ‬طفلها‭ ‬ذا‭ ‬الثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬بلغة‭ ‬إنجليزية،‭ ‬وما‭ ‬بالك‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الأم‭ ‬بحرينية‭ ‬ولمست‭ ‬اللهجة‭ ‬البحرينية‭ ‬المائية‭ ‬تختلط‭ ‬مع‭ ‬إنجليزيتها،‭ ‬حينها‭ ‬يتضاعف‭ ‬امتعاضي‭ ‬وأردد‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬نفسي‭: ‬‮«‬اتّقوا‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬لغتكم‭ ‬يا‭ ‬ناس‭!‬‮»‬‭.‬

ورد‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭ ‬عن‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬بأنه‭ ‬قال‭: ‬‮«‬ما‭ ‬من‭ ‬مولود‭ ‬إلا‭ ‬يولد‭ ‬على‭ ‬الفطرة‭ ‬فأبواه‮ ‬يهودانه‭ ‬أو‭ ‬ينصرانه‭ ‬أو‭ ‬يمجسانه‭..‬‮» ‬‭ ‬وباعتبار‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬الاسلامي‭ ‬يتميز‭ ‬بشموليته،‭ ‬ففي‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬لا‭ ‬ينطبق‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬المعتقد‭  ‬الديني‭ ‬الذي‭ ‬ينقله‭ ‬الآباء‭ ‬إلى‭ ‬أبنائهم،‭ ‬بل‭ ‬ينسحب‭ ‬ليشمل‭ ‬جميع‭ ‬مفردات‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬سلوك،‭ ‬لغة،‭ ‬إرث‭ ‬ثقافي‭ ‬وغيرها،‭ ‬لذا‭ ‬يلعب‭ ‬الوالدان‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬والأسرة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬دورا‭ ‬كبيرا‭ ‬ومحوريا‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬وتربية‭ ‬أبنائهم‭ ‬ونقل‭ ‬ثقافتهم‭ ‬إليهم،‭ ‬وهذا‭ ‬الدور‭ ‬يفوق‭ ‬ويتفوق‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬مؤسسات‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬وهي‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إنكارها،‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬السنوات‭ ‬الست‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬يقضيها‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ ‬وهو‭ ‬محيط‭ ‬الأسرة‭ ‬ينهل‭ ‬منها‭ ‬ويتعلم‭ ‬أسسا‭ ‬لن‭ ‬تُغادر‭ ‬ذهنه‭ ‬وذاكرته،‭ ‬حيث‭ ‬نعلم‭ ‬جميعاً‭ ‬أهمية‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬في‭ ‬النقش‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الطفل‭ ‬البيضاء‭ ‬والتي‭ ‬تبقى‭ ‬متأصلة‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬وذاكرة‭ ‬الطفل‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬إن‭: (‬العلم‭ ‬في‭ ‬الصغر‭ ‬كالنقش‭ ‬في‭ ‬الحجر‭). ‬

وقد‭ ‬قرأت‭ ‬مرّة‭ ‬ضمن‭ ‬نظريات‭ ‬التآمر‭ ‬على‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬المسلمة‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬قوة‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬وقوة‭ ‬لُغتها‭ ‬وبلاغتها‭ ‬وحسن‭ ‬تفكيرها،‭ ‬فقيل‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬أطفالها‭ ‬يتعلمون‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬منذ‭ ‬سن‭ ‬مبكرة‭ ‬جداً‭ ‬ولا‭ ‬يكاد‭ ‬الطفل‭ ‬منهم‭ ‬يصل‭ ‬السابعة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬إلا‭ ‬وكان‭ ‬خاتماً‭ ‬لقراءته‭ ‬وحافظاً‭ ‬لسوره،‭ ‬مُتقناً‭ ‬للحروف‭ ‬الأبجدية‭ ‬ومخارج‭ ‬ألفاظها‭ ‬ويمتلك‭ ‬كنزاً‭ ‬من‭ ‬الحصيلة‭ ‬اللغوية،‭ ‬لذا‭ ‬تم‭ ‬استبدال‭ ‬فكرة‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقضيها‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬اللهو‭ ‬واللعب‭ ‬بفكرة‭ ‬تحفيظ‭ ‬القرآن‭ ‬عند‭ (‬المطوّع‭) ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السن‭ ‬الصغيرة‭.‬

لذا‭ ‬يؤرّقني‭ ‬مثل‭ ‬الكثيرين‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬الأطفال‭ ‬والأجيال‭ ‬الحديثة‭ ‬موضوع‭ ‬الهوية‭ ‬والانتماء‭ ‬للثقافة‭ ‬الأصيلة‭ ‬فينا،‭ ‬وهويّتنا‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تتراجع‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭  ‬بشكل‭ ‬ملحوظ‭ ‬‭ ‬ليست‭ ‬عند‭ ‬الكل‭ ‬ولكن‭ ‬بصورة‭ ‬نستطيع‭  ‬للأسف‭ ‬أن‭ ‬نعتبرها‭ ‬ظاهرة،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬انتهاء‭ ‬بالمعرفة‭ ‬بأساليب‭ ‬التعامل‭ ‬والسلوك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الأصيل‭ (‬السنع‭  ‬والرد‭ ‬والبدل‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يكاد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬أن‭ ‬يجهل‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬معرفته‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬للكثير‭ ‬منهم،‭ ‬وسط‭ ‬تشجيع‭ ‬وتفاخر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الوالدين‭ ‬بهذه‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تسمن‭ ‬ولن‭ ‬تُغني‭ ‬من‭ ‬جوع،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬جوهر‭ ‬هويّة‭ ‬الإنسان‭ ‬وأن‭ ‬إلمامه‭ ‬بها‭ ‬وبقواعدها‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يُعزز‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭.‬

ولا‭ ‬أقول‭ ‬هنا‭ ‬بعدم‭ ‬تعلّم‭ ‬لغات‭ ‬أخرى‭ ‬وإتقانها،‭ ‬ليس‭ ‬مع‭ ‬علمي‭ ‬بأن‭ (‬من‭ ‬تعلم‭ ‬لغة‭ ‬قوم‭ ‬أمِن‭ ‬شرّهم‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬أُشجّع‭ ‬على‭ ‬اتقان‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الأم‭ ‬أولاً‭ ‬بجانب‭ ‬ما‭ ‬استطاع‭ ‬الطفل‭ ‬إليه‭ ‬سبيلا‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬أخرى،‭ ‬تعزيزاً‭ ‬لثقافته‭ ‬وعلمه‭ ‬ولفتح‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬ومتنوعة‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلم‭ ‬والعمل،‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الأصل‭ ‬وإتقانه‭ ‬ولاسيما‭ ‬بأن‭ ‬لغتنا‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬يُفتخر‭ ‬بها‭.‬

ونذكر‭ ‬جميعاً‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬كانوا‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬البعض‭ ‬منها‭ ‬يرفض‭ ‬الحديث‭ ‬بغير‭ ‬لغتهم‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬غريب‭ ‬زائر‭ ‬لبلادهم‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬اعتزازهم‭ ‬بهويتهم‭ ‬تستحق‭ ‬الاحترام،‭ ‬وإن‭ ‬كنًا‭ ‬سنتعلم‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬الأخرى‭ ‬أو‭ ‬نحاول‭ ‬تقليدهم‭ ‬فيه،‭ ‬فلنتبع‭ ‬خُطاهم‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يحرصون‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬إظهار‭ ‬الاحترام‭ ‬لهويتهم‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬أجيالنا‭ ‬الحديثة‭ ‬قد‭ ‬وُجدت‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬لا‭ ‬تُحسد‭ ‬عليه‭ ‬أبداً،‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬تواجه‭ ‬تحديات‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬وخارج‭ ‬محيطها،‭ ‬ففي‭ ‬داخل‭ ‬محيطها‭ ‬لم‭ ‬يحظ‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬بالعناية‭ ‬والاهتمام‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحظى‭ ‬بها‭ ‬سابقتها‭ ‬بحكم‭ ‬دور‭ ‬الأم‭ ‬المحوري‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التربية‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬صعوبة‭ ‬الموازنة‭ ‬بين‭ ‬دور‭ ‬الأم‭ ‬كربة‭ ‬أسرة‭ ‬وكامرأة‭ ‬عاملة‭ ‬فبرز‭ ‬دور‭ ‬العاملة‭ ‬أو‭ ‬المربية‭ ‬وهي‭ ‬غالباً‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬مختلفة،‭ ‬يُضاف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬انشغال‭ ‬الأمهات‭ ‬بوسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬تقدّم‭ ‬ليحتل‭ ‬مرتبة‭ ‬متقدمة‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬الأولويات،‭ ‬وبالتأكيد‭ ‬أن‭ ‬للأب‭ ‬نصيبا‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬أما‭ ‬تحديات‭ ‬خارج‭ ‬محيطها‭ ‬فهي‭ ‬تواصل‭ ‬هذه‭ ‬الأجيال‭ ‬عبر‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬دون‭ ‬رقابة‭ -‬غالباً‭- ‬وانخراطهم‭ ‬في‭ ‬القرية‭ ‬العالمية‭ ‬الصغيرة‭ ‬وانفتاحهم‭ ‬على‭ ‬ثقافات‭ ‬مختلفة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬معاكسة‭ ‬تختلف‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬ثقافتنا‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا