العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقالات

ثقافة العفو الملكي وفلسفة العقوبات البديلة

بقلم: المحامية د. هنادي عيسى الجودر

الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ - 02:00

القراء‭ ‬الأعزاء‭ ‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يتخيّل‭ ‬فرحة‭ ‬أم‭ ‬أو‭ ‬زوجة‭ ‬أو‭ ‬أبناء‭ ‬بعودة‭ ‬عزيز‭ ‬لديهم‭ ‬غاب‭ ‬عنهم‭ ‬بسبب‭ ‬تنفيذ‭ ‬عقوبة‭ ‬مقيّدة‭ ‬للحرية،‭ ‬لذا‭ ‬عاد‭ ‬أهالي‭ ‬السجناء‭ ‬ليعيشوا‭ ‬فرحة‭ ‬جديدة‭ ‬بصدور‭ ‬المرسوم‭ ‬الملكي‭ ‬السامي‭ ‬الشامل‭ ‬بالعفو‭ ‬عن‭ (‬457‭) ‬محكومًا،‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بمكرمة‭ ‬ملكية‭ ‬سامية‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬حضرة‭ ‬صاحب‭ ‬الجلالة‭ ‬الملك‭ ‬حمد‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬ملك‭ ‬البلاد‭ ‬المعظم‭ ‬القائد‭ ‬الأعلى‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه،‭ ‬بمناسبة‭ ‬اليوبيل‭ ‬الفضي‭ ‬لتولي‭ ‬جلالته‭ ‬مقاليد‭ ‬الحكم،‭ ‬فلله‭ ‬درّها‭ ‬من‭ ‬بادرة‭ ‬أثلجت‭ ‬صدور‭ ‬الأهالي‭ ‬وأسعدتهم‭ ‬بعودة‭ ‬غيّابهم،‭ ‬فشكراً‭ ‬كبيرة‭ ‬لجلالة‭ ‬الملك‭ ‬المعظم‭ ‬على‭ ‬لفتاته‭ ‬الأبوية‭ ‬الرحيمة‭ ‬ومبارك‭ ‬لعظمته‭ ‬ولأهل‭ ‬البحرين‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬الحُبلى‭ ‬بالفرح،‭ ‬وإن‭ ‬المزيد‭ ‬منه‭ ‬لقادم‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬مع‭ ‬الاحتفال‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبة‭ ‬الوطنية‭ ‬التاريخية‭ ‬المباركة‭.‬

ومن‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬الجنائية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬مملكة‭ ‬البحرين‭ ‬قد‭ ‬انتهجت‭ ‬فكرة‭ ‬إصلاح‭ ‬المحكوم‭ ‬عليهم‭ ‬وإعادة‭ ‬إدماجهم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬من‭ ‬الإيمان‭ ‬الحقيقي‭ ‬باحترام‭ ‬وحماية‭ ‬وصون‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وحرياته‭ ‬الأساسية،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬تعزيز‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬الشخصية،‭ ‬لذا‭ ‬يُصدر‭ ‬جلالته‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المراسيم‭ ‬الكريمة‭ ‬ولذا‭ ‬صدر‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬والتدابير‭ ‬البديلة‭ ‬وتم‭ ‬تطبيق‭ ‬برنامج‭ ‬السجون‭ ‬المفتوحة،‭ ‬وجميعها‭ ‬وجدت‭ ‬لفتح‭ ‬أبواب‭ ‬الأمل‭ ‬أمام‭ ‬المحكوم‭ ‬عليهم‭ ‬لبدء‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬حياتهم‭ ‬يكونون‭ ‬فيها‭ ‬مواطنين‭ ‬صالحين‭ ‬ذوي‭ ‬نفع‭ ‬وأدوات‭ ‬بناء‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬ويتجاوزون‭ ‬معها‭ ‬سقطات‭ ‬الماضي‭ ‬وأخطاءه‭. ‬

ولا‭ ‬يكفي‭ ‬وجود‭ ‬القوانين‭ ‬فقط‭ ‬لتحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭ ‬والوصول‭ ‬إليه،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬بجهود‭ ‬السلطات‭ ‬الرسمية‭ ‬المنفردة،‭ ‬بل‭ ‬يستوجب‭ ‬تعاوناً‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬أطياف‭ ‬المجتمع‭ ‬ومؤسساته‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭ ‬ومنظمات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬عمل‭ ‬جماعي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الجهد‭ ‬المجتمعي،‭ ‬ولا‭ ‬يتأتى‭ ‬هذا‭ ‬الجهد‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬وعي‭ ‬تام‭ ‬بفلسفة‭ ‬المكرمات‭ ‬والعفو‭ ‬والتسامح‭ ‬والعقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬وبأهميتها‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬صون‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭. ‬

وهنا‭ ‬سأحكي‭ ‬لكم‭ ‬حادثة‭ ‬وقعت‭ ‬لي‭ ‬شخصياً‭ ‬قبل‭ ‬فترة‭ ‬قريبة،‭ ‬ففي‭ ‬احدى‭ ‬الاجتماعات‭ ‬الدورية‭ ‬لمجلس‭ ‬إدارة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬الثقافية‭ ‬طُرحت‭ ‬مسألة‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬توظيف‭ ‬موظف‭ ‬جديد‭ ‬لمساعدة‭ ‬القديم،‭ ‬فتقدمت‭ ‬بدوري‭ ‬بفكرة‭ ‬الاسهام‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬والاستفادة‭ ‬من‭ ‬المحكوم‭ ‬عليهم‭ ‬المستحقين‭ ‬لتطبيق‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬الخدمة‭ ‬المجتمعية‭ ‬كعقوبة‭ ‬بديلة‭ ‬وفقاً‭ ‬لأحكام‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬رقم‭ ‬17‭ ‬لسنة‭ ‬2018،‭ ‬لعلمي‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الجمعيات‭ ‬الخيرية‭ ‬ومنظمات‭ ‬أهلية‭ ‬أخرى‭ ‬ومؤسسات‭ ‬الخاصة‭ ‬تعاونت‭ ‬للإسهام‭ ‬في‭ ‬استقبال‭ ‬بعض‭ ‬المحكوم‭ ‬عليهم‭ ‬المستفيدين‭ ‬من‭ ‬القانون،‭ ‬وفوجئت‭ ‬بأن‭ ‬فكرتي‭ ‬قد‭ ‬استُقبلت‭ ‬بضحكات‭ ‬استهزائيه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الإدارة‭ ‬ومن‭ ‬الأمين‭ ‬العام‭ ‬ولكأنني‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬ألقيت‭ ‬نكتة‭.‬

الموقف‭ ‬كان‭ ‬ليكون‭ ‬مُحرجاً‭ ‬جداً‭ ‬لسواي،‭ ‬ولكنني‭ ‬أدركت‭ ‬وقدّرت‭ ‬مستوى‭ ‬وعي‭ ‬المُتلقين‭ ‬بفلسفة‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬والسياسة‭ ‬الجنائية‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬ينتهجها‭ ‬فكر‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬المعظم‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬إدماج‭ ‬المحكوم‭ ‬عليهم‭ ‬بقضايا‭ ‬جنائية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وبأن‭ ‬ضحكاتهم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬نموذج‭ ‬للفكر‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يُغادر‭ ‬زمن‭ ‬نبذ‭ ‬مرتكبي‭ ‬الجرائم‭ ‬وإقصائهم‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬وعدم‭ ‬منحهم‭ ‬فرصة‭ ‬أخرى‭ ‬يحظون‭ ‬فيها‭ ‬بالثقة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تعيدهم‭ ‬إلى‭ ‬المواطنة‭ ‬الصالحة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تهيئة‭ ‬ظروف‭ ‬أخرى‭ ‬وواقع‭ ‬جديد‭ ‬قد‭ ‬يُسهم‭ ‬في‭ ‬إصلاح‭ ‬ما‭ ‬أفسده‭ ‬الدهر‭ ‬لهذه‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬المجتمع‭ ‬بيدها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬دولة‭ ‬هيأت‭ ‬جميع‭ ‬السبل‭ ‬لذلك،‭ ‬وبأنهم‭ -‬ربما‭- ‬لا‭ ‬يعلمون‭ ‬أن‭ ‬الوقوع‭ ‬تحت‭ ‬طائلة‭ ‬العقاب‭ ‬هو‭ ‬احتمالية‭ ‬واردة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬ولأي‭ ‬شخص،‭ ‬لأن‭ ‬الجريمة‭ ‬قد‭ ‬تُرتكب‭ ‬عن‭ ‬قصد‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬قصد‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬خطأً‭ ‬أو‭ ‬إهمالاً‭ ‬أو‭.. ‬ولكنها‭ ‬تبقى‭ ‬جريمة‭ ‬ولها‭ ‬عقوبة‭ ‬وُجد‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬ليكون‭ ‬رحمة‭ ‬بها‭.‬

لذا‭ ‬فإن‭ ‬فكر‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬المعظم‭ ‬المتطور‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬ثقافة‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وانتهاج‭ ‬عهده‭ ‬الزاهر‭ ‬للسياسة‭ ‬الجنائية‭ ‬الحديثة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الإصلاح‭ ‬والعفو‭ ‬والتسامح‭ ‬وفتح‭ ‬صفحات‭ ‬جديدة‭ ‬يقتضي‭ ‬أن‭ ‬تقابله‭ ‬ثقافة‭ ‬مجتمعية‭ ‬عامة‭ ‬تواكبه‭ ‬وتصل‭ ‬إلى‭ ‬مستواه،‭ ‬وأن‭ ‬المثال‭ ‬الذي‭ ‬أوردته‭ ‬يعني‭ ‬وجود‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬غير‭ ‬القابل‭ ‬ضمن‭ ‬فئة‭ ‬مجتمعية‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الوعي،‭ ‬وقد‭ ‬يُنبئ‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬نماذج‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قياس‭ ‬حجم‭ ‬وجودها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دراسات‭ ‬وإحصائيات؛‭ ‬لذا‭ ‬أقترح‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬بيده‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬من‭ ‬الجهات‭ ‬المعنية‭ ‬قياس‭ ‬مستوى‭ ‬الوعي‭ ‬بأهمية‭ ‬استيعاب‭ ‬المستفيدين‭ ‬من‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬والعفو‭ ‬العام‭ ‬والخاص،‭ ‬والاشتغال‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والمؤسسات‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬الإنساني‭ ‬المهم‭ ‬الذي‭ ‬يرتكز‭ ‬تقبّل‭ ‬المحكومين‭ ‬وإدماجهم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬على‭ ‬ثقافته‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا