القراء الأعزاء
لا يمكن لأحد أن يتخيّل فرحة أم أو زوجة أو أبناء بعودة عزيز لديهم غاب عنهم بسبب تنفيذ عقوبة مقيّدة للحرية، لذا عاد أهالي السجناء ليعيشوا فرحة جديدة بصدور المرسوم الملكي السامي الشامل بالعفو عن (457) محكومًا، الذي جاء بمكرمة ملكية سامية من لدن حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم القائد الأعلى للقوات المسلحة حفظه الله ورعاه، بمناسبة اليوبيل الفضي لتولي جلالته مقاليد الحكم، فلله درّها من بادرة أثلجت صدور الأهالي وأسعدتهم بعودة غيّابهم، فشكراً كبيرة لجلالة الملك المعظم على لفتاته الأبوية الرحيمة ومبارك لعظمته ولأهل البحرين هذه الأيام الحُبلى بالفرح، وإن المزيد منه لقادم بإذن الله تعالى مع الاحتفال بهذه المناسبة الوطنية التاريخية المباركة.
ومن المعلوم أن السياسة الجنائية الحديثة في مملكة البحرين قد انتهجت فكرة إصلاح المحكوم عليهم وإعادة إدماجهم في المجتمع على أسس من الإيمان الحقيقي باحترام وحماية وصون حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولا سيما تعزيز الحق في الحرية الشخصية، لذا يُصدر جلالته مثل هذه المراسيم الكريمة ولذا صدر قانون العقوبات والتدابير البديلة وتم تطبيق برنامج السجون المفتوحة، وجميعها وجدت لفتح أبواب الأمل أمام المحكوم عليهم لبدء مرحلة جديدة من حياتهم يكونون فيها مواطنين صالحين ذوي نفع وأدوات بناء في المجتمع ويتجاوزون معها سقطات الماضي وأخطاءه.
ولا يكفي وجود القوانين فقط لتحقيق هذا الهدف والوصول إليه، كما لا يتحقق بجهود السلطات الرسمية المنفردة، بل يستوجب تعاوناً بين جميع أطياف المجتمع ومؤسساته العامة والخاصة ومنظمات المجتمع المدني، لأن ذلك عمل جماعي يقوم على الجهد المجتمعي، ولا يتأتى هذا الجهد إلا من واقع وعي تام بفلسفة المكرمات والعفو والتسامح والعقوبات البديلة وبأهميتها على صعيد صون حقوق الإنسان.
وهنا سأحكي لكم حادثة وقعت لي شخصياً قبل فترة قريبة، ففي احدى الاجتماعات الدورية لمجلس إدارة واحدة من المؤسسات الثقافية طُرحت مسألة الحاجة إلى توظيف موظف جديد لمساعدة القديم، فتقدمت بدوري بفكرة الاسهام في تطبيق العقوبات البديلة والاستفادة من المحكوم عليهم المستحقين لتطبيق العمل في الخدمة المجتمعية كعقوبة بديلة وفقاً لأحكام قانون العقوبات البديلة رقم 17 لسنة 2018، لعلمي أن بعض الجمعيات الخيرية ومنظمات أهلية أخرى ومؤسسات الخاصة تعاونت للإسهام في استقبال بعض المحكوم عليهم المستفيدين من القانون، وفوجئت بأن فكرتي قد استُقبلت بضحكات استهزائيه من قبل رئيس مجلس الإدارة ومن الأمين العام ولكأنني كنت قد ألقيت نكتة.
الموقف كان ليكون مُحرجاً جداً لسواي، ولكنني أدركت وقدّرت مستوى وعي المُتلقين بفلسفة العقوبات البديلة والسياسة الجنائية الإنسانية التي ينتهجها فكر جلالة الملك المعظم في سبيل إدماج المحكوم عليهم بقضايا جنائية في المجتمع، وبأن ضحكاتهم لم تكن إلا تعبيراً عن نموذج للفكر الذي لم يُغادر زمن نبذ مرتكبي الجرائم وإقصائهم عن المجتمع وعدم منحهم فرصة أخرى يحظون فيها بالثقة التي قد تعيدهم إلى المواطنة الصالحة من خلال تهيئة ظروف أخرى وواقع جديد قد يُسهم في إصلاح ما أفسده الدهر لهذه الفئة التي تستحق أن يأخذ المجتمع بيدها في ظل دولة هيأت جميع السبل لذلك، وبأنهم -ربما- لا يعلمون أن الوقوع تحت طائلة العقاب هو احتمالية واردة في أي وقت ولأي شخص، لأن الجريمة قد تُرتكب عن قصد أو عن غير قصد سواء كانت خطأً أو إهمالاً أو.. ولكنها تبقى جريمة ولها عقوبة وُجد قانون العقوبات البديلة ليكون رحمة بها.
لذا فإن فكر جلالة الملك المعظم المتطور على صعيد ثقافة حقوق الإنسان وانتهاج عهده الزاهر للسياسة الجنائية الحديثة القائمة على الإصلاح والعفو والتسامح وفتح صفحات جديدة يقتضي أن تقابله ثقافة مجتمعية عامة تواكبه وتصل إلى مستواه، وأن المثال الذي أوردته يعني وجود هذا النموذج غير القابل ضمن فئة مجتمعية من المفترض أن تكون على درجة عالية من الوعي، وقد يُنبئ عن وجود نماذج أخرى لا يمكن قياس حجم وجودها إلا من خلال دراسات وإحصائيات؛ لذا أقترح على من بيده اتخاذ القرار من الجهات المعنية قياس مستوى الوعي بأهمية استيعاب المستفيدين من العقوبات البديلة والعفو العام والخاص، والاشتغال على نشر الوعي المجتمعي بين الأفراد والمؤسسات حول هذا الموضوع الإنساني المهم الذي يرتكز تقبّل المحكومين وإدماجهم في المجتمع على ثقافته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك