العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقالات

صناعة الذكريات

بقلم: المحامية د. هنادي عيسى الجودر

الأحد ٠٤ فبراير ٢٠٢٤ - 02:00

منذ‭ ‬أيام‭ ‬دار‭ ‬حوار‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬بعض‭ ‬الأصدقاء‭ ‬حول‭ ‬ذكريات‭ ‬الطفولة،‭ ‬فبدأ‭ ‬كلّ‭ ‬منا‭ ‬يتذكر‭ ‬تفاصيل‭ ‬صغيرة‭ ‬تعود‭ ‬لماضي‭ ‬طفولته،‭ ‬ذكريات‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالأشخاص‭ ‬كالوالدين‭ ‬والجدّين‭ ‬والإخوة،‭ ‬وبالأماكن‭ ‬والأكلات‭ ‬والروائح،‭ ‬فتذكرنا‭ ‬رائحة‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬ورائحة‭ ‬المأكولات‭ ‬الشعبية‭ ‬الشتوية،‭ ‬أحاديث‭ ‬وذكريات‭ ‬لا‭ ‬تنضب‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬منها‭.‬‮ ‬

وقد‭ ‬أخذني‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬محطات‭ ‬عدّة،‭ ‬أهمهما‭ ‬فكرة‭ ‬لطالما‭ ‬ناقشتها‭ ‬حول‭ ‬أثر‭ ‬العولمة‭ ‬على‭ ‬خصوصية‭ ‬الدول‭ ‬المختلفة،‭ ‬وأثر‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬احدى‭ ‬فوائد‭ ‬السفر‭ ‬السبع،‭ ‬إذ‭ ‬قبل‭ ‬العولمة‭ ‬والقرية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬كان‭ ‬السفر‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تزور‭ ‬مناطق‭ ‬مختلفة‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬وطنك،‭ ‬وتذهب‭ ‬إلى‭ ‬أسواق‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬أسواقك‭ ‬وبضاعة‭ ‬غير‭ ‬بضاعة‭ ‬بلدك،‭ ‬وتأكل‭ ‬طعاما‭ ‬محلّيا‭ ‬فلا‭ ‬خيار‭ ‬لك‭ ‬سواه‭ ‬ولا‭ ‬تنوّع‭ ‬غذائي،‭ ‬فلكل‭ ‬دولة‭ ‬رائحتها‭ ‬وأماكنها‭ ‬الخاصة‭ ‬وخصوصيتها،‭ ‬أما‭ ‬الآن‭ ‬فالأماكن‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬متشابهة،‭ ‬والمطاعم‭ ‬مكررة،‭ ‬وتراجعت‭ ‬خصوصية‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬العولمة‭.‬‮ ‬

وأما‭ ‬المحطة‭ ‬الأخرى‭ ‬فهي‭ ‬ذاكرة‭ ‬الأبناء‭ ‬التي‭ ‬تُسهم‭ ‬الأسرة‭ ‬إسهاماً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬صناعتها،‭ ‬فالتربية‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬الأولى‭ ‬وجميع‭ ‬اللقاءات‭ ‬حول‭ ‬مائدة‭ ‬الأكل‭ ‬في‭ ‬الوجبات‭ ‬اليومية‭ ‬الثلاث‭ ‬وجلسات‭ ‬الشاي‭ ‬والقهوة‭ ‬واجتماعات‭ ‬العائلة‭ ‬الكبيرة‭ ‬والرحلات‭ ‬العائلية‭ ‬جميعها‭ ‬وغيرها‭ ‬تصنع‭ ‬ذكريات‭ ‬الأطفال‭ ‬وتبقى‭ ‬منقوشة‭ ‬فيها‭ ‬حتى‭ ‬يُقال‭ ‬إن‭ ‬أقرب‭ ‬لحظات‭ ‬الانسان‭ ‬لذاكرته‭ ‬قبل‭ ‬رحيله‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الذكريات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بطفولته‭ ‬وشبابه،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الذكريات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الانسان‭ ‬بالأماكن‭ ‬والاشخاص‭ ‬وتشدّه‭ ‬للعودة‭ ‬إليها‭. ‬

لذا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬والإلكتروني‭ ‬الذي‭ ‬طالت‭ ‬موجته‭ ‬الاطفال،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬الطفل‭ ‬الرضيع‭ ‬يُحرّك‭ ‬أنامله‭ ‬الصغيرة‭ ‬حتى‭ ‬يبادر‭ ‬والداه‭ ‬إلى‭ ‬تسليمه‭ ‬هاتفا‭ ‬أو‭ ‬لوحا‭ ‬ذكيا‭ ‬لإلهائه‭ ‬والتخلص‭ ‬من‭ ‬مشاغبته،‭ ‬ثم‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬هو‭ ‬مُعلّمه‭ ‬ومُربّيه،‭ ‬ورفيقة‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يفارقه‭ ‬طوال‭ ‬اليوم‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬يُصاحبه‭ ‬وقت‭ ‬الأكل،‭ ‬فيكون‭ ‬المشهد‭ ‬كالاتي‭: (‬طفل،‭ ‬صحن‭ ‬الأكل‭ ‬واللوح‭ ‬الذكيّ‭)‬،‭ ‬فيأكل‭ ‬الطفل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬في‭ ‬طبق‭ ‬الأكل‭ ‬وملعقة‭ ‬الأكل‭ ‬تدخل‭ ‬تارة‭ ‬في‭ ‬فمه‭ ‬وتخطئه‭ ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬وتانك‭ ‬العينان‭ ‬الصغيرتان‭ ‬مسمّرتان‭ ‬في‭ ‬الشاشة،‭ ‬فتسقط‭ ‬هنا‭ ‬فضيلة‭ ‬احترام‭ ‬الطعام‭ ‬وتقدير‭ ‬هذا‭ ‬الرزق‭ ‬وبركته،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تنحصر‭ ‬ذكريات‭ ‬الطفل‭ ‬فيما‭ ‬يشاهده‭ ‬على‭ ‬شاشته‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إحساس‭ ‬بما‭ ‬يحيط‭ ‬به،‭ ‬فيُحرم‭ ‬الطفل‭ ‬صناعة‭ ‬ذكريات‭ ‬مع‭ ‬العائلة‭ ‬والمكان‭ ‬والطعام‭ ‬وربما‭ ‬الزمان‭ ‬أيضاً‭.‬‮ ‬

وفي‭ ‬رأيي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الشائع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضوابط‭ ‬ورقابة‭ ‬يعتبر‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الإساءة‭ ‬إلى‭ ‬الأطفال‭ ‬والإضرار‭ ‬بمصلحتهم‭ ‬الفضلى‭ ‬التي‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬تعزيزها‭ ‬وكفالتها‭ ‬قانون‭ ‬الطفل‭ ‬البحريني‭ ‬وقانون‭ ‬العدالة‭ ‬الإصلاحية‭ ‬للأطفال،‭ ‬الذي‭ ‬وضع‭ ‬ضمن‭ ‬أهدافه‭ ‬رعاية‭ ‬الأطفال‭ ‬وحمايتهم‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬المعاملة‭.‬

وكفل‭ ‬لمصالح‭ ‬الطفل‭ ‬الفضلى‭ ‬الأولوية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأحكام‭ ‬والقرارات‭ ‬والإجراءات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بإنفاذ‭ ‬القانون،‭ ‬أياً‭ ‬كانت‭ ‬الجهة‭ ‬التي‭ ‬تصدرها‭ ‬أو‭ ‬تباشرها‭.‬‮ ‬

وأقترح‭ ‬أن‭ ‬تتبنى‭ ‬الوزارات‭ ‬المعنية‭ ‬بإنفاذ‭ ‬هذه‭ ‬القوانين‭ ‬وضع‭ ‬قرارات‭ ‬وآليات‭ ‬رقابية‭ ‬تكفل‭ ‬حماية‭ ‬أطفال‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬من‭ ‬الأضرار‭ ‬النفسية‭ ‬والجسدية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بعدم‭ ‬تقنين‭ ‬ووضع‭ ‬ضوابط‭ ‬تتعلق‭ ‬باستخدام‭ ‬الأطفال‭ ‬دون‭ ‬سن‭ ‬السابعة‭ ‬للأجهزة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬والألواح‭ ‬الذكية‭ ‬لحمايتهم‭ ‬من‭ ‬التعرض‭ ‬للإصابة‭ ‬بأمراض‭ ‬البصر‭ ‬أو‭ ‬بمرض‭ ‬التوحد،‭ ‬وحمايتهم‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬والاستغلال‭ ‬الجنسي‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المخاطر‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬الطفل‭ ‬إذا‭ ‬ترك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رقابة‭ ‬وتقنين‭ ‬ورعاية‭ ‬من‭ ‬الأولياء‭ ‬عليه‭ ‬لمدد‭ ‬غير‭ ‬محددة،‭ ‬وقد‭ ‬تنامى‭ ‬إلى‭ ‬علمي‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬الغيورات‭ ‬على‭ ‬براءة‭ ‬الطفولة‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬الأطفال‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬السنوات‭ ‬الأربع‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬ينام‭ ‬ويبقى‭ ‬ساهراً‭ ‬بصحبة‭ (‬آيباده‭) ‬لوحه‭ ‬الإلكتروني‭ ‬ويعلم‭ ‬الله‭ ‬كم‭ ‬طفل‭ ‬هناك‭ ‬مثله‭! ‬

فاتقوا‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أطفالكم‭ ‬ولا‭ ‬تحرموهم‭ ‬طفولتهم‭ ‬وحصيلتها‭ ‬من‭ ‬المخزون‭ ‬الإنساني‭.‬

layalialshoug@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا