العدد : ١٦٨٤٢ - الجمعة ٠٣ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٢ - الجمعة ٠٣ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ شوّال ١٤٤٥هـ

مقالات

مـــن جحيـم غـــزة.. كيف تودِّع جيرانك وسط القصف ؟

بقلم: هيا فريج *

الجمعة ١٧ نوفمبر ٢٠٢٣ - 02:00

لا‭ ‬أبالغُ‭ ‬حين‭ ‬أقولُ‭ ‬إن‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬طائرةً‭ ‬حربيَّة‭ ‬إسرائيليَّة‭ ‬تحومُ‭ ‬فوق‭ ‬شمال‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬نراها‭ ‬رأيَ‭ ‬العين‭ ‬على‭ ‬ارتفاعٍ‭ ‬منخفضٍ‭ ‬جدًّا،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تتخيلَ‭ ‬حجم‭ ‬الضجيج‭ ‬والتلوث‭ ‬السمعي،‭ ‬والصداع‭ ‬الذي‭ ‬نشعر‭ ‬به،‭ ‬والدوار‭ ‬الذي‭ ‬نصاب‭ ‬به،‭ ‬وآلام‭ ‬الأذن‭ ‬بفعل‭ ‬خرق‭ ‬طبلة‭ ‬الأذن‭ ‬من‭ ‬ضجيج‭ ‬اختراق‭ ‬الطائرات‭ ‬لحاجز‭ ‬الصوت،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬قنابل‭ ‬الغاز‭ ‬الفسفورية‭ ‬والدخانية‭ ‬التي‭ ‬تأكل‭ ‬أنوفنا،‭ ‬وتكاد‭ ‬تحرق‭ ‬أجسادنا‭.‬‮ ‬

والأمَرُّ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬مئات‭ ‬الغارات‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬الواحدة،‭ ‬ومئات‭ ‬الشهداء‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬ذاتها‭. ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬يبدو،‭ ‬فإن‭ ‬الذاكرة‭ ‬تطرد‭ ‬المآسي‭ ‬وتظنها‭ ‬لا‭ ‬تتكرر،‭ ‬إذ‭ ‬كنا‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬أصعب‭ ‬ليلة‭ ‬مرت‭ ‬علينا‭ ‬هي‭ ‬ليلة‭ ‬الحزام‭ ‬الناري‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أقربها‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬بير‭ ‬النعجة‭ ‬في‭ ‬جباليا‭ ‬ليلة‭ ‬العيد‭ ‬عام‭ ‬2021‭.‬

لكن‭ ‬المصائب‭ ‬التي‭ ‬نكرهها‭ ‬تُعاد‭ ‬بشكلٍ‭ ‬أعنف‭ ‬وأضخم،‭ ‬وأكثر‭ ‬ضراوة،‭ ‬وكأنهم‭ ‬يستحدثون‭ ‬طرقًا‭ ‬جديدة‭ ‬لقتلنا‭ ‬نفسيًّا،‭ ‬وجسديًّا،‭ ‬فمشهد‭ ‬الحزام‭ ‬الناري‭ ‬ذاته‭ ‬يتكرر‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬والنهار،‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬موضعٍ‭ ‬ومكان،‭ ‬والقصف‭ ‬المجنون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬فاق‭ ‬الوصف،‭ ‬وجاوز‭ ‬حد‭ ‬الخيال‭.‬

لا‭ ‬تقتصر‭ ‬أساليب‭ ‬القتل‭ ‬الجماعية‭ ‬على‭ ‬صواريخ‭ ‬الطائرات‭ ‬المزعجة‭ ‬تلك،‭ ‬وإنما‭ ‬تتعدد‭ ‬صنوف‭ ‬الإبادة،‭ ‬وتتنوع‭ ‬أشكالها،‭ ‬منها‭: ‬المدفعية‭ ‬العمياء‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬التخوم،‭ ‬والبوارج‭ ‬البحرية‭ ‬التي‭ ‬تطلق‭ ‬قذائفها‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬أو‭ ‬هدف،‭ ‬ومع‭ ‬الاجتياح‭ ‬البري،‭ ‬دخل‭ ‬الرصاص‭ ‬المعركة؛‭ ‬إذ‭ ‬صار‭ ‬رصاص‭ ‬الاشتباكات‭ ‬القريبة‭ ‬يصلنا‭ ‬في‭ ‬البيوت‭.‬

نحن‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬الذي‭ ‬يأبى‭ ‬أن‭ ‬تتكرر‭ ‬مأساة‭ ‬تهجيره،‭ ‬وتعود‭ ‬أحداث‭ ‬هجرته،‮ ‬نرى‭ ‬الموت‭ ‬كل‭ ‬يومٍ‭ ‬ألف‭ ‬مرةٍ،‭ ‬هذا‭ ‬الضيف‭ ‬الثقيل‭ ‬السمجُ‭ ‬الذي‭ ‬حلّ‭ ‬علينا‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شهر؛‭ ‬لينتقيَ‭ ‬أفضلنا،‭ ‬وأنقانا،‭ ‬وأجملنا،‭ ‬وأطهرنا‭.‬

وأكذب‭ ‬لو‭ ‬قلت‭ ‬إنّ‭ ‬وجودي‭ ‬لا‭ ‬يتآكل‭ ‬كل‭ ‬ليلة،‭ ‬فمقوّمات‭ ‬صمودي‭ ‬بدأت‭ ‬تتلاشى،‭ ‬مع‭ ‬قصف‭ ‬بيوت‭ ‬جيراننا‭ ‬الآمنين،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬ممن‭ ‬رفضوا‭ ‬تغريبتهم‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حاول‭ ‬الاحتلال‭ ‬التعميم‭ ‬على‭ ‬سكان‭ ‬الشمال‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬جنوب‭ ‬وادي‭ ‬غزة‭.‬‮ ‬

أذكر‭ ‬يومها‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬واقفين‭ ‬جميعًا‭ ‬على شبابيكنا‭ ‬واضعين‭ ‬أيدينا‭ ‬على‭ ‬خدودنا‭ ‬نشاهد‭ ‬مشهد‭ ‬التغريبة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬الجديدة،‭ ‬في‭ ‬وجوهنا‭ ‬كثيرٌ‭ ‬من‭ ‬الحسرة،‭ ‬وقليلٌ‭ ‬من‭ ‬الكلام،‭ ‬اكتفينا‭ ‬بالإيماء؛‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الحيرة‭ ‬واضحةً،‭ ‬والسؤال‭ ‬واحدٌ‭: ‬أي‭ ‬مصيبة‭ ‬حلت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشعب؟‭! ‬وأي‭ ‬كارثة‭ ‬ستنزل‭ ‬به؟‭! ‬وماذا‭ ‬ينتظرنا‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬القادمة؟‭!‬‮ ‬

 

عسى‭ ‬ألا‭ ‬يصبح‭ ‬جيراني‭ ‬أرقامًا‭ ‬

كانت‭ ‬العائلات‭ ‬تمشي‭ ‬في‭ ‬جماعات،‭ ‬الرجال‭ ‬يجرّون‭ ‬أبناءهم،‭ ‬والنساء‭ ‬تهيم‭ ‬بلا‭ ‬وعي،‭ ‬حاملةً‭ ‬حقائب‭ ‬صغيرة‭ ‬فيها‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة،‭ ‬والأطفال‭ ‬يحملون‭ ‬حقائب‭ ‬مدارسهم‭ ‬مستعيضين‭ ‬عن‭ ‬الكتب‭ ‬ببضعة‭ ‬ملابس،‭ ‬أما‭ ‬الشباب‭ ‬فيحملون‭ ‬حقائب‭ ‬اللابتوبات،‭ ‬وأوراقًا‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النكسة‭.‬

‮ ‬الكل‭ ‬يسير‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬رجليه،‭ ‬محاولين‭ ‬التقاط‭ ‬شيءٍ‭ ‬من‭ ‬الأمان‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ (‬لا‭ ‬ألوم‭ ‬باحثًا‭ ‬عن‭ ‬النجاة‭) ‬لكنه‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نرويه‭ ‬للعالم‭.‬‮ ‬

كنتُ‭ ‬يومها‭ ‬آنسُ‭ ‬بوجود‭ ‬جيراني‭ ‬الباقين‭ ‬معي،‭ ‬المتفرجين‭ ‬في‭ ‬ذهول‭ ‬للمشهد‭ ‬ذاته،‭ ‬وأترك‭ ‬شبَّاكي‭ ‬مفتوحًا؛‭ ‬لأؤكد‭ ‬لهم‭ ‬أني‭ ‬باقيةٌ‭ ‬معهم،‭ ‬وألوّح‭ ‬لهم‭ ‬كل‭ ‬صباحٍ‭ ‬بأني‭ ‬مثلهم،‭ ‬لن‭ ‬أرحل‭.‬

لكنهم‭ ‬رحلوا‭ ‬قبلي،‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬رحل‭ ‬أصحاب‭ ‬المخبز،‭ ‬بعد‭ ‬قصف‭ ‬منزلهم،‭ ‬ومخبزهم،‭ ‬وخروجهم‭ ‬جرحى‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الركام‭. ‬ثمّ‭ ‬رحل‭ ‬أصحاب‭ ‬المحلات‭ ‬التجارية،‭ ‬بعد‭ ‬استشهاد‭ ‬خمسة‭ ‬منهم،‭ ‬وانتشال‭ ‬جرحى‭ ‬وناجين‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الحفرة‭ ‬العميقة،‭ ‬في‭ ‬قصف‭ ‬المحالّ‭ ‬بالسوق‭ ‬المقابل‭ ‬لمنزلنا‭.‬

ثمّ‭ ‬كانت‭ ‬القاضية‭ ‬الليلة‭ ‬الماضية‭ ‬حين‭ ‬قصف‭ ‬الاحتلال‭ ‬منزل‭ ‬جارنا‭ ‬المقابل‭ ‬لنا،‭ ‬واستشهد‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬ونساء‭ ‬وأطفال‭ ‬ورجال‭.. ‬وقد‭ ‬رحلوا‭ ‬قبلي‭ ‬شهداءً‭ ‬عند‭ ‬ربهم‭.‬‮ ‬أما‭ ‬المصابون‭ ‬فلن‭ ‬يعودوا،‭ ‬فما‭ ‬عاد‭ ‬هناك‭ ‬مأوىً‭ ‬يؤويهم‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬فمن‭ ‬لي‭ ‬بأنيسٍ‭ ‬بعدكم؟ ومن‭ ‬لي‭ ‬بجارٍ‭ ‬بعدكم‭ ‬يحفظ‭ ‬سرّي،‭ ‬ولا‭ ‬يكشف‭ ‬ستري؟‭ ‬‮ ‬

لا‭ ‬أدري‭ ‬كيف‭ ‬تغمض‭ ‬لي‭ ‬عينٌ‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬سمعت‭ ‬أصواتكم‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وكيف‭ ‬سيطلعُ‭ ‬عليّ‭ ‬صباحٌ،‭ ‬لأستقبل‭ ‬شمسه‭ ‬في‭ ‬غرفتي‭ ‬المطلّة‭ ‬عليكم،‭ ‬وقد‭ ‬رأيتكم مضرجين‭ ‬بدمائكم،‭ ‬ملفوفين‭ ‬بستائر‭ ‬الشبابيك‭ ‬البيضاء‭ ‬الناصعة؟‮ ‬

هذه‭ ‬قصتكم‭ ‬أيها‭ ‬الأبطال،‭ ‬سطرتم‭ ‬مجدكم‭ ‬بالدم،‭ ‬واخترتُ‭ ‬أن‭ ‬أنقلها‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬بكثيرٍ‭ ‬من‭ ‬الحزن،‭ ‬وبشيء‭ ‬من‭ ‬المَهابة‭ ‬في‭ ‬الموقف‭ ‬الجَلل؛‭ ‬علّني‭ ‬لا‭ ‬أكون‭ ‬عبدًا‭ ‬للصمت‭ ‬والانبطاح،‭ ‬وعلّكم‭ ‬لا‭ ‬تكونون‭ ‬أرقامًا‭ ‬في‭ ‬الإحصاءات‭ ‬الرسمية‭ ‬وخبرًا‭ ‬في‭ ‬البيانات‭ ‬الصحفية‭.‬‮ ‬

في‭ ‬الصباح،‭ ‬كانت‭ ‬النجاة‭ ‬من‭ ‬حظّنا،‭ ‬واستمرت‭ ‬الحياة‭ ‬بدورتها‭ ‬العادية‭ ‬نفسها،‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬القصف،‭ ‬وكان‭ ‬المخيم‭ ‬مثل‭ ‬حلقة‭ ‬النار،‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬داخلها‭ ‬مستهدفٌ،‭ ‬والخروج‭ ‬منها‭ ‬مغامرة‭ ‬لا‭ ‬تُحمد‭ ‬عقباها،‭ ‬وقد‭ ‬آثرنا‭ ‬البقاء،‭ ‬مع‭ ‬الدعاء‭ ‬بالسلامة‭.‬‮ ‬

‮«‬إنكِ‭ ‬لن‭ ‬تجدي‭ ‬الشمسَ‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مغلقة‮»‬‭ ‬مقولة‭ ‬لغسان‭ ‬كنفاني‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬للأطفال،‭ ‬كتبتها‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬حكمة‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬سبورة‭ ‬المدرسة،‭ ‬وحكيتها‭ ‬مرارًا‭ ‬لطالباتي،‭ ‬مع‭ ‬نصيحة‭ ‬دائمة‭ ‬لهنّ‭:‬‮ «‬افتحنَ‭ ‬شبابيككنّ‭ ‬أيتها‭ ‬الفتيات،‭ ‬واستقبلن‭ ‬الحياة،‭ ‬وعشن‭ ‬الحرية‮»‬‭.‬

فتحت‭ ‬شباكي،‭ ‬لأستقبل‭ ‬شمس‭ ‬الصباح‭ ‬التي‭ ‬تطلع‭ ‬وسط‭ ‬الغبار‭ ‬في‭ ‬وطنٍ‭ ‬مقيّد،‭ ‬ندفع‭ ‬فواتيره‭ ‬بالدم،‭ ‬ألقيت‭ ‬تحية‭ ‬الصباح‭ ‬على‭ ‬البيت‭ ‬المقصوف‭ ‬أمامي،‭ ‬وجدت‭ ‬سيدة‭ ‬من‭ ‬الناجيات‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬بقايا‭ ‬تنفعها‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الركام،‭ ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬لأي‭ ‬شيء‭. ‬أستغرب‭ ‬كيف‭ ‬تُذيب‭ ‬هذه‭ ‬الأسلحة‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لخزانات‭ ‬الأطفال،‭ ‬ولا‭ ‬لغرف‭ ‬الأولاد،‭ ‬ولا‭ ‬لأدوات‭ ‬مطبخ،‭ ‬ولا‭ ‬لملابس‭ ‬نساء،‭ ‬لا‭ ‬معلمَ‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬الحياة‭ ‬سوى‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحجارة‭ ‬المتراكمة‭ ‬التي‭ ‬سيضطر‭ ‬أهلها‭ ‬لهدمها‭ ‬بأيديهم‭ ‬مرة‭ ‬أخرى؛‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬مفقودين،‭ ‬أو‭ ‬لبنائها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬‮ ‬

مولود‭ ‬جديد‭ ‬تحت‭ ‬القصف

كنا‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬جديد‭ ‬مع‭ ‬فرد‭ ‬جديد‭ ‬ينضم‭ ‬إلى‭ ‬العائلة،‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬هي‭ ‬الأصعب‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي‭ ‬والأقسى‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الوطني‭.‬

وشاءت‭ ‬الأقدار‭ ‬أن‭ ‬تنقطع الاتصالات‭ ‬والإنترنت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬أيضًا،‭ ‬لم‭ ‬نستطع‭ ‬الاتصال‭ ‬بأحد‭ ‬وسط‭ ‬الحصار‭ ‬المطبق‭ ‬على‭ ‬شمال‭ ‬غزة‭.‬

خرج‭ ‬أخي‭ ‬وسط‭ ‬النار‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬سيارة‭ ‬إسعاف‭ ‬تمر‭ ‬بالصدفة‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬علها‭ ‬زوجته‭ ‬التي‭ ‬جاءها‭ ‬المخاض‭ ‬وحان‭ ‬موعد‭ ‬ولادتها‭ ‬تجد‭ ‬طريقاً‭ ‬لمشفى‭ ‬أو‭ ‬عيادة‭. ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لركوب‭ ‬سيارة‭ ‬مدنية‭ ‬فقد‭ ‬تكسرت‭ ‬شبابيك‭ ‬سيارة‭ ‬عمي‭ ‬بعد‭ ‬قصف‭ ‬البيت‭ ‬المقابل‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬الفائتة،‭ ‬كما‭ ‬إن‭ ‬مستشفى‭ ‬العودة‭ ‬والمستشفى‭ ‬الإندونيسي‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬جباليا‭ ‬يتعرضان‭ ‬للقصف‭ ‬بشكل‭ ‬مكثف‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬للضغط‭ ‬على‭ ‬المستشفى‭ ‬للإخلاء‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬الحظ‭ ‬أن‭ ‬لدينا‭ ‬طبيبة‭ ‬نساء‭ ‬وولادة‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬من‭ ‬النازحين‭ ‬استطاعت‭ ‬توليدها‭ ‬في‭ ‬البيت‭. ‬

استقبلنا‭ ‬مولودة‭ ‬جميلة،‭ ‬لكنهم‭ ‬حرمونا‭ ‬المسرّات،‭ ‬فما‭ ‬عدنا‭ ‬نعرف‭ ‬كيف‭ ‬نفرح‭ ‬بطفلة‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬الألم؟‭ ‬وماذا‭ ‬عسانا‭ ‬نفعل‭ ‬مع‭ ‬طفلة‭ ‬تضجّ‭ ‬بالحياة‭ ‬في‭ ‬بلدٍ‭ ‬تصرخ‭ ‬أطفاله‭ ‬فزعًا‭ ‬من‭ ‬أغوال‭ ‬الموت،‭ ‬وتبكي‭ ‬من‭ ‬وحوش‭ ‬تحمل‭ ‬المتفجرات‭.  ‬استبشرنا‭ ‬خيرًا‭ ‬بإنجاب‭ ‬الفتاة،‭ ‬ودعونا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬سنة‭ ‬نبات‭ ‬وبنات؛‭ ‬ففي‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬الفلسطيني‭ ‬مثلٌ‭ ‬شهير‭: ‬‮«‬سنة‭ ‬البنات‭ ‬نبات،‭ ‬وسنة‭ ‬الفحول‭ ‬محول‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬السنة‭ ‬المنصرمة‭ ‬سنة‭ ‬غلب‭ ‬فيها‭ ‬إنجاب‭ ‬الذكور،‭ ‬أما‭ ‬سنة‭ ‬البنات‭ ‬فهي‭ ‬سنة‭ ‬الخير‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭. ‬ودعوتُ‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬سري‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬أيامًا‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬أيامنا،‭ ‬وألّا‭ ‬تفتح‭ ‬عينها‭ ‬على‭ ‬بلدٍ‭ ‬محتل‭ ‬تُسلب‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬حقوق‭ ‬الطفولة،‭ ‬وأن‭ ‬يكتب‭ ‬لنا‭ ‬الله‭ ‬النجاة‭ ‬ببركة‭ ‬وجودها،‭ ‬وأن‭ ‬تحمينا‭ ‬الملائكة‭ ‬بحمايتها‭.‬

وعلى‭ ‬استحياء‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬الشهداء‭ ‬النازف‭ ‬كل‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬فتحت‭ ‬علبة‭ ‬شوكولاتة‭ ‬تأخرتُ‭ ‬في‭ ‬توزيعها‭ ‬على‭ ‬طالباتي،‭ ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬الأطفال‭ ‬الصغار‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬بهم‭ ‬أعداء‭ ‬الإنسانية‭. ‬ولأنّ‭ ‬الحزن‭ ‬قد‭ ‬تملك‭ ‬قلوبنا،‭ ‬لم‭ ‬نتحلقْ‭ ‬بدهشة‭ ‬حول‭ ‬الطفلة،‭ ‬ولم‭ ‬نطلق‭ ‬زغاريد‭ ‬الفرح‭ ‬في‭ ‬استقبالها،‭ ‬ولم‭ ‬تذبح‭ ‬لها‭ ‬العقيقة،‭ ‬ولم‭ ‬تطبخ‭ ‬لها‭ ‬الولائم،‭ ‬وحده‭ ‬الألم‭ ‬وليدَ‭ ‬اللحظات‭. ‬

مع‭ ‬عودة‭ ‬الاتصال‭ ‬والإنترنت،‭ ‬أخبرتُ‭ ‬صديقي‭ ‬البحريني‭ ‬الذي‭ ‬يطمئن‭ ‬على‭ ‬حالي‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الميلاد‭ ‬الجديد،‭ ‬فحدثني‭ ‬عن‭ ‬صديق‭ ‬سوداني‭ ‬له،‭ ‬شعرت‭ ‬زوجته‭ ‬بآلام‭ ‬الولادة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حظر‭ ‬التجول‭ ‬الذي‭ ‬فرضه‭ ‬الجيش‭ ‬السوداني‭ ‬إثر‭ ‬انتفاضة‭ ‬أكتوبر‭ ‬1964،‭ ‬فخاطب‭ ‬الجنود‭ ‬المتمركزين‭ ‬قرب‭ ‬منزله‭ ‬فوافقوا‭ ‬ببقية‭ ‬من‭ ‬مروءة‭ ‬على‭ ‬نقله‭ ‬وزوجته‭ ‬بالدبابة‭ ‬إلى‭ ‬المشفى‭. ‬فقلت‭: ‬يا‭ ‬ليت‭ ‬شعوبنا‭ ‬العربية‭ ‬تحمل‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬شهامة‭ ‬العرب،‭ ‬أو‭ ‬بقية‭ ‬من‭ ‬حميّة‭ ‬الجاهلية،‭ ‬أو‭ ‬قليلًا‭ ‬من‭ ‬مروءة‭ ‬الإسلام،‭ ‬تشعل‭ ‬فيهم‭ ‬ثورة؛‭ ‬علّها‭ ‬تطفئ‭ ‬لهيب‭ ‬النار‭ ‬المستعرة‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬وليتهم‭ ‬ينهضون؛‭ ‬لينهوا‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬لأهلهم‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬ويقفون‭ ‬وقفة‭ ‬رجل‭ ‬واحد؛‭ ‬ليرفعوا‭ ‬هذه‭ ‬الغمّة‭ ‬عن‭ ‬أهلهم‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬التي‭ ‬اشتدت،‭ ‬وضاقت،‭ ‬واستحكمت‭ ‬حلقاتها‭. ‬وهذه‭ ‬الحكاية‭ ‬لن‭ ‬تنتهي،‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬بقية،‭ ‬وفي‭ ‬الروح‭ ‬نَفَس‭.‬

 

‭ ‬الدكتورة‭ ‬هيا‭ ‬فريج‭ ‬باحثة‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬غزة‭ ‬*

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا