بقلم: فيليس بيمس
إن للعقوبات الاقتصادية تاريخا طويلا ووحشي اتقريباً بطول تاريخ الحرب نفسها - تاريخ فاقم معاناة الشعوب وأزهق ملايين الأرواح من دون أن يحقق هذا السلاح أهدافه التي رسمتها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. لا يوجد في الذاكرة الحديثة ما يدل على أن سلاح العقوبات قد حقق هدفه الظاهري الأول - ألا وهو تغيير سلوك الحكومات والسياسات التي تنتهجها بعض الأنظمة الحاكمة.
على مدار الثلاثين عامًا الماضية، والتي بدأت تقريبًا بأزمة الخليج 1990-1991 والحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق، اتسع نطاق فرض واشنطن للعقوبات الاقتصادية القاسية بشكل كبير.
وسواء فُرضت العقوبات بشكل مباشر أو فرضتها منظمة الأمم المتحدة عنوة وهي صاغرة تحت ضغط الولايات المتحدة الأمريكية، فغالبًا ما توصف هذه العقوبات بأنها «بديل» للحرب - أخف وأقل فتكًا وأكثر إنسانية. في الواقع، غالبًا ما تقتل العقوبات مدنيين أكثر من الحروب التي تصاحبها وتستهدف أحيانًا الفئات الأكثر ضعفًا بشكل متعمد.
تحت الضغوط التي مارستها الولايات الأمريكية فرضت منظمة الأمم المتحدة جملة من العقوبات على العراق في غضون أربعة أيام من غزو العراق للكويت في أغسطس 1990. بعد الحرب القصيرة في يناير وفبراير 1991، أجبرت القوات العراقية على الانسحاب من الكويت (حيث دمرت الولايات المتحدة أنظمة المياه والصرف الصحي والطاقة في العراق).
ظلت تلك العقوبات سارية بعد ذلك على مدى أعوام، ما أدى إلى القضاء على أي أمل في إعادة بناء البلد الممزق. لقد حظروا إلى حد كبير بيع النفط، وهو المصدر الوحيد للعراق تقريبًا، ما أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للبلد الذي دمرته الحرب. تم رفع هذه العقوبات فقط بعد أن أطاحت الولايات المتحدة بالنظام العراقي في عام 2003 في ظل إدارة جورج بوش الابن.
في عام 1996، بعد ست سنوات من العقوبات، سئلت السفيرة الأمريكية آنذاك لدى منظمة الأمم المتحدة مادلين أولبرايت عن التقارير التي تتحدث عن وفاة 500 ألف طفل نتيجة لذلك. أجابت من دون أن يفوتها شيء، «نعتقد أن الثمن يستحق ذلك». لسنوات بعد ذلك، أعربت عن أسفها لقول ذلك الكلام، لكنها لم تعتذر أبدًا عن دعم الإجراءات التي أزهقت أرواح نصف مليون طفل في ست سنوات.
في عام 1998، ترأست وفداً من أعضاء الكونغرس إلى العراق. ما سمعناه آنذاك من الأطباء والعاملين الصحيين والأمهات العراقيين كان مأساويا ومؤلما. كان الأطفال والرضع يعانون من سوء التغذية ويموتون من أمراض يمكن علاجها وتنقلها المياه، مثل الكوليرا والإسهال.
أما الأدوية المطلوبة والمتوافرة عالمياً فإنها لم تكن متوافرة في العراق. سمح برنامج النفط مقابل الغذاء التابع للأمم المتحدة ببعض المواد الغذائية والأدوية، ولكن ذلك كان غير كاف لإصلاح البنية التحتية الصحية التي لحقت بها أضرار جسيمة.
في كثير من الأحيان، بعد أن أعلنت المنظمات الإنسانية والحركات الاجتماعية والصحفيون الاستقصائيون عن الآثار المدمرة للعقوبات، ينكر مؤيدو العقوبات الحقائق ويشددون على: «أنهم يستهدفون الحكومة فقط». «لا يزال بإمكان الغذاء والدواء الدخول». «ربما لم يعملوا في ذلك البلد، لكنهم يعملون في بلدان أخرى». وبطبيعة الحال، فإن أيا من هذه الادعاءات لم يكن دقيقا.
أسهم تقرير جديد صادر عن مركز البحوث الاقتصادية والسياسية (CEPR) مساهمة كبيرة ولعب دورًا رئيسيًا في وضع حد لتلك الادعاءات الكاذبة، حيث سلط ذلك التقرير الذي جاء بعنوان «العواقب البشرية الوخيمة للعقوبات الاقتصادية» وكشف عن الحقائق الفظيعة للجوع والمرض والموت وهي التداعيات الوخيمة التي غالبًا ما تكون عواقب بعقوبات اقتصادية واسعة النطاق.
في أفغانستان، كانت العقوبات «تدفع السكان إلى المجاعة»، وفقًا لتقارير المركز نفسه. في فنزويلا تعتبر العقوبات «محركًا رئيسيًا للأزمة الصحية في البلاد، بما في ذلك زيادة معدل وفيات الأطفال والبالغين».
بشكل عام، يوثق التقرير -استنادًا إلى فحص دقيق لـ32 دراسة خاصة شاملة بكل بلد- «مستوى كبيرا من الإجماع من خلال هذه الدراسات على أن العقوبات لها آثار سلبية قوية وغالبًا ما تكون طويلة الأمد على الظروف المعيشية لمعظم الناس في البلدان المستهدفة».
لم يكن ذلك التقرير الوحيد الذي رسم تلك الصور المرعبة. فقد أعرب مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2014 عن قلقه من «التكاليف البشرية غير المتناسبة والعشوائية للعقوبات الأحادية الجانب وآثارها السلبية على السكان المدنيين».
أدى ذلك التقرير إلى اتخاذ قرار باستحداث منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة «بشأن الأثر السلبي للتدابير القسرية الانفرادية على التمتع بحقوق الإنسان». لكن ذلك التقرير CEPR كان ضروريا بعد ما يقرب من عقد من الزمان لأنه أسهم في تعرية الحقائق وكشف حجم المأساة بكل أبعادها.
في العقد الأول من القرن الحالي على وجه الخصوص، بدأ الأكاديميون ومراكز الفكر ووسائل الإعلام الرئيسية في الحديث عن أعداد القتلى الذين أزهقت أرواحهم جراء العقوبات، لا سيما في العراق. في سنة 2017، راحت صحيفة واشنطن بوست تسهب في الحديث عن تقرير نشرته المجلة الطبية البريطانية (BMJ) يطعن في تقديرات اليونيسف التي تم الإبلاغ عنها على نطاق واسع بنحو 500000 طفل.
في سبتمبر 1998 استقال مساعد الأمين العام للأمم المتحدة دينيس هاليداي، المعين لإدارة برنامج النفط مقابل الغذاء في عام1997، احتجاجًا على ما أسماه «تأثير الإبادة الجماعية» للعقوبات على السكان المدنيين.
استقال هانز فون سبونيك، الذي خلف هاليداي في عام 2000 لنفس السبب بعد أن وقف على حجم الكارثة. بعد ذلك بيوم واحد، استقال مدير برنامج الغذاء العالمي للعراق التابع لمنظمة الأمم المتحدة جوتا بورغاردت أيضًا. ليس من المستغرب أنه لم يتم ذكر مواقف وأقوال هؤلاء المسؤولين الذين استقالوا الواحد تلو الآخر في تقرير المجلة الطبية البريطانية.
هؤلاء المحققون المجتهدون المتحمسون للغاية لتشويه سمعة التقارير عن الأعداد المروعة للأطفال الذين يموتون من العقوبات كان من الأفضل لهم التحقيق في سبب حرص أولبرايت على تبرير مقتل مئات الآلاف من الأطفال - سواء كان الرقم الحقيقي للقتلى هو في حدود 250.000 أو 350.000 أو 500.000.
ربما سيقنع هذا التقرير الجديد أخيرًا أولئك المصممين على تبرير العقوبات الاقتصادية الوحشية بالعمل على إنهائها بدلاً من ذلك. لقد مضى وقت طويل على الاعتراف بأن العقوبات ليست بديلاً للحرب، ولكنها طريقة لشن الحرب. لقد حان الوقت طويلا لإنهاء العمل بسلاح العقوبات.
نبذة عن أبرز العقوبات الأمريكية
- قررت الإدارة الأمريكية فرض حظر اقتصادي على كوبا المجاورة منذ سنة 1959 بعد الإطاحة بالنظام الموالي لواشنطن ووصول فيدال كاسترو إلى السلطة. في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، بدأت واشنطن تعيد النظر جزئيا في علاقاتها مع هافانا، حتى أن أوباما زار كوبا وتصافح مع زعيمها. أعلنت الإدارة الأمريكية وقتها عن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على كوبا في المجالين المالي والسياحي، كما فتحت الباب امام المواطنين الأمريكيين لزيارة كوبا غير أنه تم التراجع بعد ذلك في عهد إدارة دونالد ترامب عن الكثير من تلك الإجراءات حيث أعيد فرض جزء من العقوبات.
- قادت الولايات المتحدة الأمريكية بقية الدول الغربية الحليفة لها في فرض حزم متتالية من العقوبات على روسيا الاتحادية استهدفت عدة قطاعات اقتصادية بما في ذلك الصادرات الحيوية للغرب والأصول الروسية في المصارف الغربية، وذلك على أر الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد ظلت سلطات موسكو تؤكد أن اقتصادها لم يتكبد أضرارا وخسائر كبيرة بسبب العقوبات، بل إنها تقول إن العقوبات قد عززت التنافسية على المشاريع الداخلية.
فرضت سلطات واشنطن أولى العقوبات على موسكو في عهد الاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الباردة، وكانت تلك العقوبات إما فردية اتخذتها الولايات الأمريكية وإما جماعية بالتنسيق مع الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، والتي هي أساسا الدول الغربية.
ذكرت عديد التقارير التي ظلت تصدر تباعا ان هذه حزم العقوبات المفروضة على روسيا على خلفية غزوها العسكري لأوكرانيا قد ولدت تداعيات سلبية أيضا على الدول الأوروبية على وجه الخصوص نظرا لارتباطها بالاقتصاد الروسي إلى حد كبير، حيث يصل حجم التبادل التجاري بين الطرفين قبل الحرب في أوكرانيا إلى مئات المليارات من الدولارات.
- للولايات المتحدة الأمريكية تاريخ من العقوبات الصارمة التي فرضتها الإدارات المتعاقبة، الديمقراطية منها والجمهورية على حد السواء. فقد بادرت سلطات واشطن بفرض حزمة من العقوبات المتنوعة على إيران إثر اقتحام السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز عدد من الرهائن عقب الثورة التي قادها الخميني، والتي أطاحت سنة 1979 بنظام الشاه الموالي للغرب، كما قررت سلطات واشنطن آنذاك أيضا تجميد الأصول الإيرانية وفرض حظر على السفر.
في سنة 2010 صدر قانون جديد في الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة باراك أوباما بفرض حظر على إمدادات الوقود الإيرانية وفرض عقوبات على الشركات الغربية التي تستثمر في قطاع النفط الإيراني، ما اضطر هذه الشركات إلى سحب استثماراتها من القطاع النفطي في إيران. كما تبنى الكونجرس الأمريكي بعد ذلك قانونا بفرض عقوبات جديدة ضد إيران، أما الرئيس السابق دونالد ترامب فقد اتخذ بدوره قرارا بتشديد العقوبات ضد إيران لاستمرارها في تطوير برنامجها الصاروخي، كما فرضت إدارة ترامب عقوبات على المؤسسات المالية، التي تتعامل مع البنك المركزي الإيراني الذي يعتبر الشريان الحيوي الأساسي لعوائد النفط.
-كما فرضت الولايات المتحدة الأمريكية أيضا عقوبات على كوريا الشمالية منذ فترة الحرب التي شهدتها شبه الجزيرة الكورية في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، وقد ركزت واشنطن في عهد إدارة باراك أوباما على تشديد العقوبات لتضييق الخناق اقتصاديا على نظام بيونج يانج، الذي رد على ذلك بتكثيف التجارب الصاروخية والمضي قدما في تطوير البرنامج النووي، كما فرض مجلس الأمن الدولي بدوره حظرا على بيع السلاح لكوريا الشمالية واستيراد المعدات التكنولوجية أو تصديرها، وقد اتسع نطاق هذه العقوبات لتشمل أيضا المعاملات المالية.
وقد اتسع نطاق العقولات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على مدى الأعوام والعقود الماضية ليشمل عشرات الدول من بينها سوريا وليبيا والعراق وميانمار، وهو ما يجعل من سلاح العقوبات أحد أدوات السياسة الخارجية الأمريكية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك