العدد : ١٦٨٤٤ - الأحد ٠٥ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٤ - الأحد ٠٥ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ شوّال ١٤٤٥هـ

شرق و غرب

هل يعني صعود الصين تراجع أمريكا في العالم؟

الخميس ٢٢ يونيو ٢٠٢٣ - 02:00

بقلم‭: ‬ألفريد‭ ‬ماكوي‭ ‬{

 

بعد‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬بدأت‭ ‬الصين‭ ‬تتوسع‭ ‬اقتصاديا‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭ ‬عبر‭ ‬منطقة‭ ‬أوراسيا‭ ‬المهمة‭ ‬والاستراتيجية،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬التطورات‭ ‬والعلاقات‭ ‬والتحالفات‭ ‬الدبلوماسية،‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬يمحو‭ ‬جانبًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬نفوذ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬الحيوية‭.‬

من‭ ‬رماد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬التي‭ ‬خلفت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬80‭ ‬مليون‭ ‬قتيلا‭ ‬وأحدثت‭ ‬دمارا‭ ‬عارما‭ ‬وحولت‭ ‬المدن‭ ‬الكبرى‭ ‬إلى‭ ‬أنقاض‭ ‬تتصاعد‭ ‬منها‭ ‬أعمدة‭ ‬الدخان،‭ ‬نهضت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬تيتان‮»‬‭ ‬الأسطورة‭ ‬اليونانية،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تصاب‭ ‬بأذى‭ ‬ومسلحة‭ ‬بقوة‭ ‬عسكرية‭ ‬واقتصادية‭ ‬غير‭ ‬عادية،‭ ‬لتحكم‭ ‬العالم‭ ‬وتفرض‭ ‬نفوذها‭ ‬وهيمنتها‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عقود‭. ‬

خلال‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬القتال‭ ‬ضد‭ ‬قادة‭ ‬المحور‭ ‬في‭ ‬برلين‭ ‬وطوكيو‭ ‬التي‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬أدرك‭ ‬القادة‭ ‬الأمريكيون‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحرب‭ - ‬جورج‭ ‬مارشال‭ ‬في‭ ‬واشنطن،‭ ‬ودوايت‭ ‬دي‭ ‬أيزنهاور‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬وتشيستر‭ ‬نيميتز‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ‭ - ‬أن‭ ‬هدفهم‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬الرئيسي‭ ‬كان‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬اليابسة‭ ‬الشاسعة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬أوراسيا‭.‬

سواء‭ ‬كنت‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬حرب‭ ‬الصحراء‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬أو‭ ‬إنزال‭ ‬D‭-‬Day‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬النورماندي‭ ‬بفرنسا،‭ ‬أو‭ ‬المعارك‭ ‬الدموية‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬البورمية‭ ‬الهندية،‭ ‬أو‭ ‬حملة‭ ‬التنقل‭ ‬بين‭ ‬الجزر‭ ‬عبر‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ،‭ ‬فإن‭ ‬استراتيجية‭ ‬الحلفاء‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬تضمنت‭ ‬تقييد‭ ‬الوصول‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬المحور‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬انتزاع‭ ‬تلك‭ ‬القارة‭ ‬من‭ ‬قبضتها‭.‬

لايزال‭ ‬هذا‭ ‬الماضي‭ -‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬يبدو‭ ‬بعيدًا‭- ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه‭ ‬اليوم‭. ‬هؤلاء‭ ‬الجنرالات‭ ‬والأدميرالات‭ ‬التاريخيون،‭ ‬بالطبع،‭ ‬قد‭ ‬ولوا‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة،‭ ‬لكن‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬كرسوها‭ ‬بمثل‭ ‬تلك‭ ‬الكلفة‭ ‬البشرية‭ ‬والمادية‭ ‬والإنسانية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬لها‭ ‬آثار‭ ‬عميقة‭.‬

ومثلما‭ ‬طوقت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬منطقة‭ ‬أوراسيا‭ ‬لكسب‭ ‬حرب‭ ‬واسعة‭ ‬النطاق‭ ‬وفرض‭ ‬هيمنة‭ ‬عالمية،‭ ‬كذلك‭ ‬فإن‭ ‬بكين‭ ‬تشارك‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬توسع‭ ‬عسكرية،‭ ‬لكن‭ ‬أقل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الامتداد‭ ‬للقوة‭ ‬والهيمنة‭ ‬الأمريكية‭.‬

ولكي‭ ‬أكون‭ ‬صريحًا،‭ ‬فإن‭ ‬أي‭ ‬مكسب‭ ‬تحققه‭ ‬الصين‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬يعد‭ ‬خسارة‭ ‬تتكبدها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وكل‭ ‬خطوة‭ ‬تتخذها‭ ‬سلطات‭ ‬بكين‭ ‬لتعزيز‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬أوراسيا‭ ‬تؤدي‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬إضعاف‭ ‬وجود‭ ‬واشنطن‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القارة‭ ‬الآسيوية‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تآكل‭ ‬القوة‭ ‬الأمريكية‭ ‬الهائلة‭.‬

بعد‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬حافلة‭ ‬بالدروس‭ ‬حول‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬أدرك‭ ‬جيل‭ ‬أمريكي‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬الجنرالات‭ ‬والأدميرالات‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحرب،‭ ‬بشكل‭ ‬بديهي،‭ ‬كيفية‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬التحالف‭ ‬المستقبلي‭ ‬للقوتين‭ ‬الشيوعيتين‭ ‬العظيمتين‭ -‬الصين‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفييتي‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1948،‭ ‬بعد‭ ‬انتقاله‭ ‬من‭ ‬البنتاغون‭ ‬إلى‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬أطلق‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬جورج‭ ‬مارشال‭ ‬خطة‭ ‬مارشال‭ ‬بقيمة‭ ‬13‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬لإعادة‭ ‬بناء‭ ‬أوروبا‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬مزقتها‭ ‬الحرب،‭ ‬ووضع‭ ‬الأسس‭ ‬الاقتصادية‭ ‬لتشكيل‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬واحد‭ ‬فقط‭ - ‬أي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1949‭.‬

بعد‭ ‬انتقال‭ ‬مماثل‭ ‬من‭ ‬مقر‭ ‬قيادة‭ ‬الحلفاء‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1953،‭ ‬ساعد‭ ‬الرئيس‭ ‬دوايت‭ ‬أيزنهاور‭ ‬في‭ ‬إكمال‭ ‬إنشاء‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المعاقل‭ ‬العسكرية‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬ساحل‭ ‬أوراسيا‭ ‬على‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توقيع‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬اتفاقيات‭ ‬الأمن‭ ‬المتبادل‭ - ‬مع‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1953،‭ ‬تايوان‭ ‬عام‭ ‬1954،‭ ‬واليابان‭ ‬عام‭ ‬1960‭.‬

وعلى‭ ‬مدى‭ ‬السبعين‭ ‬عامًا‭ ‬القادمة،‭ ‬ستلعب‭ ‬سلسلة‭ ‬الجزر‭ ‬هذه‭ ‬دورا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬مهما‭ ‬لتكريس‭ ‬قوة‭ ‬واشنطن‭ ‬العالمية‭ ‬وتعزيز‭ ‬نفوذها،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬حاسم‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬والهيمنة‭ ‬على‭ ‬أوراسيا‭.‬

بعد‭ ‬القتال‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القارة‭ ‬الشاسعة‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬عرف‭ ‬قادة‭ ‬أمريكا‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬بالتأكيد‭ ‬كيفية‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬مكاسبهم‭. ‬ولأكثر‭ ‬من‭ ‬40‭ ‬عامًا،‭ ‬أكدت‭ ‬جهودهم‭ ‬الحثيثة‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬أوراسيا‭ ‬لواشنطن‭ ‬أن‭ ‬لها‭ ‬اليد‭ ‬العليا،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية،‭ ‬ليتحقق‭ ‬لها‭ ‬الانتصار‭ ‬على‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭.‬

وسعيا‭ ‬لتقييد‭ ‬واحتواء‭ ‬القوى‭ ‬الشيوعية‭ ‬داخل‭ ‬تلك‭ ‬القارة‭ ‬الآسيوية،‭ ‬طوقت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬منطقة‭ ‬تمتد‭ ‬6000‭ ‬ميل‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬800‭ ‬قاعدة‭ ‬عسكرية،‭ ‬ونشرت‭ ‬آلافا‭ ‬من‭ ‬المقاتلات‭ ‬النفاثة،‭ ‬وثلاثة‭ ‬أساطيل‭ ‬بحرية‭ ‬ضخمة‭ - ‬من‭ ‬بينها‭ ‬الأسطول‭ ‬السادس‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسي،‭ ‬والأسطول‭ ‬السابع‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الهندي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭.‬

وبفضل‭ ‬دهاء‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬جورج‭ ‬كينان،‭ ‬اكتسبت‭ ‬تلك‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الاحتواء‮»‬،‭ ‬ومعها‭ ‬يمكن‭ ‬لواشنطن،‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬أن‭ ‬تجلس‭ ‬وتنتظر،‭ ‬بينما‭ ‬تنهار‭ ‬الكتلة‭ ‬الصينية‭ ‬السوفيتية‭ ‬إما‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خطأ‭ ‬دبلوماسي‭ ‬أو‭ ‬مغامرة‭ ‬عسكرية‭.‬

بعد‭ ‬الانقسام‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬بين‭ ‬بكين‭ ‬وموسكو‭ ‬عام‭ ‬1962‭ ‬والأزمة‭ ‬التي‭ ‬عاشتها‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬فوضى‭ ‬ثورة‭ ‬ماو‭ ‬تسي‭ ‬تونغ‭ ‬الثقافية،‭ ‬حاول‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬مرارًا‭ ‬وتكرارًا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭ ‬كسر‭ ‬عزلته‭ ‬الجيوسياسية‭ -‬في‭ ‬الكونغو،‭ ‬وكوبا،‭ ‬ولاوس،‭ ‬ومصر،‭ ‬وإثيوبيا،‭ ‬وأنغولا‭ ‬وأفغانستان‭.‬

في‭ ‬آخر‭ ‬تلك‭ ‬التدخلات‭ ‬وأكثرها‭ ‬كارثية،‭ ‬والتي‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬الزعيم‭ ‬السوفيتي‭ ‬ميخائيل‭ ‬جورباتشوف‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الجرح‭ ‬النازف‮»‬،‭ ‬نشر‭ ‬الجيش‭ ‬الأحمر‭ ‬110‭ ‬آلاف‭ ‬جندي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬القتال‭ ‬الضاري‭ ‬في‭ ‬أفغانستان،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬نزيف‭ ‬الأموال‭ ‬والقوى‭ ‬العاملة‭ ‬بطرق‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1991‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬الحاسمة‭ ‬من‭ ‬الانتصار‭ ‬الظاهري‭ ‬مع‭ ‬بقاء‭ ‬القوة‭ ‬العظمى‭ ‬الوحيدة‭ ‬على‭ ‬كوكب‭ ‬الأرض،‭ ‬استغرق‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬من‭ ‬قادة‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬لواشنطن،‭ ‬المدربين‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬القتال،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬مراكز‭ ‬الأبحاث،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬للسماح‭ ‬لتلك‭ ‬القوة‭ ‬العالمية‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة‭ ‬بالتراجع‭ ‬والتقهقر‭.‬

مع‭ ‬قرب‭ ‬نهاية‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1989،‭ ‬حصد‭ ‬فرانسيس‭ ‬فوكوياما،‭ ‬الأكاديمي‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬تخطيط‭ ‬السياسات‭ ‬بوزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬شهرة‭ ‬فورية‭ ‬بين‭ ‬المطلعين‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬بعبارته‭ ‬المغرية‭ ‬‮«‬نهاية‭ ‬التاريخ‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬جادل‭ ‬فوكوياما‭ ‬بأن‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الليبرالي‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬سيكتسح‭ ‬قريباً‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء‭ ‬في‭ ‬مد‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الرأسمالية‭. ‬كما‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬يُستشهد‭ ‬به‭ ‬كثيرًا‭: ‬‮«‬إن‭ ‬انتصار‭ ‬الغرب‭ ‬للفكرة‭ ‬الغربية‭ ‬واضح‭... ‬في‭ ‬الاستنفاد‭ ‬التام‭ ‬للبدائل‭ ‬المنهجية‭ ‬القابلة‭ ‬للتطبيق‭ ‬لليبرالية‭ ‬الغربية‭... ‬ونرى‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬الانتشار‭ ‬الحتمي‭ ‬للثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬الاستهلاكية‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬الانتصاري،‭ ‬فكر‭ ‬زبيغنيو‭ ‬بريجنسكي،‭ ‬وهو‭ ‬أكاديمي‭ ‬متمرس‭ ‬وذو‭ ‬تجربة‭ ‬عملية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬تعلمه‭ ‬عن‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬كمستشار‭ ‬لرئيسين‭ ‬أمريكيين‭ ‬هما‭ ‬جيمي‭ ‬كارتر‭ ‬ورونالد‭ ‬ريغان‭.‬

 

في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬رقعة‭ ‬الشطرنج‮»‬‭ ‬The‭ ‬Grand‭ ‬Chessboard‭ ‬لعام‭ ‬1997،‭ ‬قدم‭ ‬بريجنسكي‭ ‬أول‭ ‬دراسة‭ ‬أمريكية‭ ‬جادة‭ ‬للجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬حذر‭ ‬بريجنسكي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬عمق‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية‭ ‬العالمية،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ذروة‭ ‬القوة‭ ‬أحادية‭ ‬القطب‭ ‬هذه،‭ ‬كانت‭ ‬بطبيعتها‭ ‬‮«‬ضحلة‮»‬‭.‬

أضاف‭ ‬بريجنسكي‭ ‬أنه‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وكل‭ ‬قوة‭ ‬عظمى‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭ ‬الخمسمائة‭ ‬الماضية،‭ ‬كانت‭ ‬أوراسيا،‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬75‭%‬‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬والإنتاجية،‭ ‬‮«‬الجائزة‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬الرئيسية‮»‬‭.‬

حذر‭ ‬بريجنسكي‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إدامة‭ ‬‮«‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬القارة‭ ‬الأوراسية‮»‬‭ ‬وبالتالي‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬قوتها‭ ‬العالمية،‭ ‬فإنه‭ ‬يتعين‭ ‬على‭ ‬واشنطن‭ ‬مواجهة‭ ‬ثلاثة‭ ‬تهديدات‭: ‬‮«‬طرد‭ ‬أمريكا‭ ‬من‭ ‬قواعدها‭ ‬البحرية‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬ساحل‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ،‭ ‬طردها‭ ‬من‭ ‬موقعها‭ ‬على‭ ‬الأطراف‭ ‬الغربية‭ ‬للقارة‭ ‬الآسيوية‭ ‬وأخيراً،‭ ‬تشكيل‭ ‬‮«‬كيان‭ ‬واحد‭ ‬قوي‮»‬‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬أوراسيا‭ ‬المترامي‭ ‬الأطراف‭.‬

في‭ ‬خضم‭ ‬الجدل‭ ‬حول‭ ‬مركزية‭ ‬أوراسيا‭ ‬المستمرة‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬اعتمد‭ ‬بريجنسكي‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬الأكاديمي‭ ‬البريطاني‭ ‬المنسي‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل،‭ ‬السير‭ ‬هالفورد‭ ‬ماكيندر‭. ‬في‭ ‬مقال‭ ‬نشر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1904‭ ‬أثار‭ ‬الدراسة‭ ‬الحديثة‭ ‬للجغرافيا‭ ‬السياسية،‭ ‬لاحظ‭ ‬ماكيندر‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الـ500‭ ‬عام‭ ‬الماضية،‭ ‬هيمنت‭ ‬القوى‭ ‬الإمبريالية‭ ‬الأوروبية‭ ‬على‭ ‬أوراسيا‭ ‬من‭ ‬البحر،‭ ‬لكن‭ ‬بناء‭ ‬خطوط‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭ ‬العابرة‭ ‬للقارات‭ ‬كان‭ ‬يحول‭ ‬مركز‭ ‬السيطرة‭ ‬إلى‭ ‬داخلها‭ ‬الشاسع‭. ‬

في‭ ‬عام‭ ‬1919،‭ ‬وفي‭ ‬أعقاب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬جادل‭ ‬هالفورد‭ ‬ماكيندر‭ ‬أيضًا‭ ‬بأن‭ ‬أوراسيا،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬شكلتا‭ ‬‮«‬جزيرة‭ ‬عالمية‮»‬‭ ‬ضخمة‭ ‬وقدم‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬الجريئة‭: ‬‮«‬من‭ ‬يحكم‭ ‬منطقة‭ ‬المركز‭ ‬يحكم‭ ‬العالم‮»‬‭. ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬ماكيندر‭ ‬كان‭ ‬سابقًا‭ ‬لأوانه‭ ‬بحوالي‭ ‬100‭ ‬عام‭ ‬في‭ ‬تنبؤاته‭.‬

لكن‭ ‬اليوم،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬النظرية‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬لماكيندر‭ ‬مع‭ ‬لمعان‭ ‬بريجنسكي‭ ‬للسياسة‭ ‬العالمية،‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬تمييز‭ ‬بعض‭ ‬الاتجاهات‭ ‬المحتملة‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬الطويل‭ ‬في‭ ‬ارتباك‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭. ‬

تخيل‭ ‬ماكيندر‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬كركيزة‭ ‬عميقة‭ ‬تشكل‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬السياسية‭ ‬سريعة‭ ‬الزوال‭ ‬وتحرك‭ ‬الصفائح‭ ‬التكتونية‭ ‬للكوكب‭. ‬دعونا‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نتخيل‭ ‬ما‭ ‬يعنيه‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬الدولية‭ ‬اليوم‭.‬

في‭ ‬العقود‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬جدار‭ ‬برلين‭ ‬وسقوطه،‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬سيطرة‭ ‬الصين‭ ‬المتزايدة‭ ‬على‭ ‬أوراسيا‭ ‬تمثل‭ ‬تغييرًا‭ ‬جوهريًا‭ ‬في‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬لتلك‭ ‬القارة‭. ‬واقتناعاً‭ ‬منها‭ ‬بأن‭ ‬بكين‭ ‬ستلعب‭ ‬اللعبة‭ ‬العالمية‭ ‬وفقاً‭ ‬لقواعد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ارتكبت‭ ‬مؤسسة‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬لواشنطن‭ ‬خطأ‭ ‬جسيما‭ ‬في‭ ‬حساباتها‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬عام‭ ‬2001‭ ‬بقبول‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭.‬

اعترف‭ ‬عضوان‭ ‬سابقان‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬أوباما‭ ‬حيث‭ ‬قالا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭: ‬‮«‬عبر‭ ‬الطيف‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية‭ ‬نشارك‭ ‬في‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الأساسي‭ ‬بأن‭ ‬قوة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وهيمنتها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تصوغ‭ ‬الصين‭ ‬وتشكلها‭ ‬بسهولة‭ ‬بحسب‭ ‬رغبة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭.. ‬لقد‭ ‬أخطأنا‭ ‬في‭ ‬الجدل‭ ‬حول‭ ‬مناقشة‭ ‬جميع‭ ‬جوانب‭ ‬السياسة‮»‬‭.‬

في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬بقليل‭ ‬بعد‭ ‬انضمام‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية،‭ ‬نمت‭ ‬صادراتها‭ ‬السنوية‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬أضعاف‭ ‬وارتفعت‭ ‬احتياطياتها‭ ‬من‭ ‬العملات‭ ‬الأجنبية‭ ‬من‭ ‬200‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬4‭ ‬تريليونات‭ ‬دولار‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬بحلول‭ ‬عام‭ ‬2013‭. ‬

في‭ ‬عام‭ ‬2013،‭ ‬وبالاعتماد‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الاحتياطيات‭ ‬النقدية‭ ‬الهائلة،‭ ‬أطلق‭ ‬الرئيس‭ ‬الصيني‭ ‬الجديد‭ ‬شي‭ ‬جين‭ ‬بينغ‭ ‬مبادرة‭ ‬جديدة‭ ‬لتطوير‭ ‬البنى‭ ‬التحتية‭ ‬بقيمة‭ ‬تريليون‭ ‬دولار‭ ‬لتحويل‭ ‬أوراسيا‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬موحدة‭ ‬وضخمة‭.‬

عندما‭ ‬بدأت‭ ‬شبكة‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭ ‬وخطوط‭ ‬أنابيب‭ ‬البترول‭ ‬في‭ ‬عبور‭ ‬القارة‭ ‬الاسيوية،‭ ‬قامت‭ ‬الصين‭ ‬بتطويق‭ ‬جزيرة‭ ‬العالم‭ ‬القارية‭ ‬بسلسلة‭ ‬من‭ ‬40‭ ‬ميناءً‭ ‬تجاريًا‭ - ‬من‭ ‬سريلانكا‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الهندي،‭ ‬ومن‭ ‬الساحل‭ ‬الإفريقي،‭ ‬ومن‭ ‬بيرايوس‭ ‬في‭ ‬اليونان‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬هامبورغ‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭.‬

وبإطلاق‭ ‬ما‭ ‬أصبح‭ ‬قريبًا‭ ‬أكبر‭ ‬مشروع‭ ‬تطوير‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬بحجم‭ ‬10‭ ‬أضعاف‭ ‬قيمة‭ ‬مشروع‭ ‬مارشال‭ ‬الأمريكي،‭ ‬راح‭ ‬الرئيس‭ ‬شي‭ ‬جينبنج‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬هيمنة‭ ‬بكين‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬على‭ ‬أوراسيا،‭ ‬ليؤكد‭ ‬بالتالي‭ ‬مخاوف‭ ‬بريجنسكي‭ ‬الذي‭ ‬حذر‭ ‬من‭ ‬صعود‭ ‬‮«‬كيان‭ ‬واحد‭ ‬حازم‮»‬‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطى‭.‬

على‭ ‬عكس‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬لم‭ ‬تبذل‭ ‬الصين‭ ‬جهودًا‭ ‬كبيرة‭ ‬أو‭ ‬تنفق‭ ‬أموالا‭ ‬طائلة‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬قواعد‭ ‬عسكرية‭. ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬واشنطن‭ ‬تحتفظ‭ ‬بنحو‭ ‬750‭ ‬قاعدة‭ ‬بالتمام‭ ‬والكمال‭ ‬في‭ ‬80‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مناطق‭ ‬العالم،‭ ‬فإن‭ ‬بكين‭ ‬لديها‭ ‬قاعدة‭ ‬عسكرية‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬جيبوتي‭ ‬على‭ ‬ساحل‭ ‬شرق‭ ‬إفريقيا،‭ ‬ونقطة‭ ‬اعتراض‭ ‬في‭ ‬جزر‭ ‬كوكو‭ ‬في‭ ‬ميانمار‭ ‬في‭ ‬خليج‭ ‬البنغال،‭ ‬ومنشأة‭ ‬مدمجة‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬طاجيكستان،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ستة‭ ‬مواقع‭ ‬بحرية‭ ‬أخرى‭ ‬صغيرة‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الصين‭ ‬الجنوبي‭.‬

علاوة‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬وبينما‭ ‬كانت‭ ‬سلطات‭ ‬بكين‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬الأوروبية‭ ‬الآسيوية،‭ ‬كانت‭ ‬واشنطن‭ ‬تخوض‭ ‬حربين‭ ‬كارثيتين‭ ‬في‭ ‬أفغانستان‭ ‬والعراق‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬واحتياطياته‭ ‬النفطية‭ (‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬بدأ‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬النفط‭ ‬إلى‭ ‬الطاقة‭ ‬المتجددة‭).‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬ركزت‭ ‬بكين‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬بالتدريج‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬استثماراتها‭ ‬وتوسيع‭ ‬نفوذها‭ ‬بذلك‭ ‬عبر‭ ‬أوراسيا‭ - ‬من‭ ‬بحر‭ ‬الصين‭ ‬الجنوبي‭ ‬إلى‭ ‬بحر‭ ‬الشمال‭. ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تغيير‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬الأساسية‭ ‬للقارة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬التكامل‭ ‬التجاري،‭ ‬فإن‭ ‬الصين‭ ‬تحقق‭ ‬مستوى‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬مثيل‭ ‬في‭ ‬الألف‭ ‬سنة‭ ‬الماضية،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬صعود‭ ‬الصين‭ ‬قد‭ ‬أطلق‭ ‬العنان‭ ‬لأطراف‭ ‬قوية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التغيير‭ ‬السياسي‭.‬

بعد‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬التوسع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬هوادة‭ ‬فيه‭ ‬لبكين‭ ‬عبر‭ ‬أوراسيا،‭ ‬بدأت‭ ‬التحولات‭ ‬التكتونية‭ ‬في‭ ‬الركيزة‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬لتلك‭ ‬القارة‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الاختراقات‭ ‬الدبلوماسية،‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬يمحو‭ ‬جانبًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬نفوذ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭.‬

قد‭ ‬تبدو‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬أحدثها،‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى،‭ ‬غير‭ ‬ذات‭ ‬صلة‭ ‬ولكنها‭ ‬مدفوعة‭ ‬بقوة‭ ‬للتغيير‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬هوادة‭ ‬فيه،‭ ‬وهي‭ ‬كالآتي‭:‬

أولاً‭: ‬جاء‭ ‬الانهيار‭ ‬المفاجئ‭ ‬وغير‭ ‬المتوقع‭ ‬للموقف‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬أفغانستان،‭ ‬ما‭ ‬أجبر‭ ‬واشنطن‭ ‬على‭ ‬إنهاء‭ ‬احتلالها‭ ‬الذي‭ ‬دام‭ ‬20‭ ‬عامًا‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬2021‭ ‬بانسحاب‭ ‬مذل‭ ‬ألحق‭ ‬الضرر‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬

في‭ ‬إطار‭ ‬لعبة‭ ‬الضغوط‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬البطيئة‭ ‬والخفية،‭ ‬وقعت‭ ‬سلطات‭ ‬بكين‭ ‬اتفاقيات‭ ‬تطوير‭ ‬ضخمة‭ ‬مع‭ ‬جميع‭ ‬دول‭ ‬آسيا‭ ‬الوسطى‭ ‬المحيطة،‭ ‬تاركة‭ ‬القوات‭ ‬الأمريكية‭ ‬معزولة‭ ‬هناك‭.‬

لتوفير‭ ‬دعم‭ ‬جوي‭ ‬حاسم‭ ‬لمشاة‭ ‬الطائرات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬أُجبرت‭ ‬المقاتلات‭ ‬النفاثة‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬الطيران‭ ‬لمسافة‭ ‬2000‭ ‬ميل‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬قاعدة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ - ‬وهو‭ ‬وضع‭ ‬غير‭ ‬مستدام‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬الطويل‭ ‬وغير‭ ‬آمن‭ ‬للقوات‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

مع‭ ‬انهيار‭ ‬الجيش‭ ‬الأفغاني‭ ‬الذي‭ ‬دربته‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وتوغل‭ ‬مقاتلو‭ ‬طالبان‭ ‬في‭ ‬كابول‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬عربات‭ ‬همفي‭ ‬تم‭ ‬الاستيلاء‭ ‬عليها،‭ ‬أصبح‭ ‬التراجع‭ ‬الفوضوي‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬الهزيمة‭ ‬أمرًا‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه‭.‬

بعد‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬فقط‭ ‬وفي‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬2022،‭ ‬حشد‭ ‬الرئيس‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين‭ ‬أسطولًا‭ ‬من‭ ‬المركبات‭ ‬المدرعة‭ ‬المحملة‭ ‬بـ200000‭ ‬جندي‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬روسيا‭ ‬الاتحادية‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬المجاورة‭. ‬

أوضح‭ ‬بوتين‭ ‬أن‭ ‬‮«‬عمليته‭ ‬العسكرية‭ ‬الخاصة‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬محاولة‭ ‬لتقويض‭ ‬نفوذ‭ ‬الناتو‭ ‬وإضعاف‭ ‬التحالف‭ ‬الغربي‭ - ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬الشروط‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬عنها‭ ‬بريجنسكي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬لطرد‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬من‭ ‬أوراسيا‭. ‬

في‭ ‬البداية‭ ‬زار‭ ‬بوتين‭ ‬بكين‭ ‬للحصول‭ ‬دعم‭ ‬الرئيس‭ ‬شي‭ ‬جينبغ،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يبدو‭ ‬صعبًا‭ ‬نظرًا‭ ‬لعقود‭ ‬من‭ ‬التجارة‭ ‬المربحة‭ ‬للصين‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬والتي‭ ‬بلغت‭ ‬قيمتها‭ ‬500‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2021‭. ‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬أصدر‭ ‬الرئيس‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين‭ ‬إعلانًا‭ ‬مشتركًا‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬متفوقة‭ ‬على‭ ‬التحالفات‭ ‬السياسية‭ ‬والعسكرية‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‮»‬‭ ‬مع‭ ‬استنكار‭ ‬‮«‬التوسع‭ ‬الإضافي‭ ‬لحلف‭ ‬شمال‭ ‬الأطلسي‮»‬‭.‬

سعيا‭ ‬للتصدي‭ ‬للعزلة‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬والحظر‭ ‬التجاري‭ ‬الأوروبي‭ ‬نجحت‭ ‬سلطات‭ ‬موسكو‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬صادراتها‭ ‬إلى‭ ‬الصين،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬رفع‭ ‬التجارة‭ ‬الثنائية‭ ‬بنسبة‭ ‬30‭%‬‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬مستوى‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬فيما‭ ‬أصبحت‭ ‬روسيا‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬رقعة‭ ‬الشطرنج‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬في‭ ‬بكين‭. ‬

نجاح‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬اختراقات‭ ‬سياسية‭ ‬ودبلوماسية‭ ‬واقتصادية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬ودول‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬أربك‭ ‬صناع‭ ‬القرارات‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬والذين‭ ‬استشعروا‭ ‬الخطر‭ ‬الداهم‭. ‬

‭ ‬أخيرا،‭ ‬صُدمت‭ ‬إدارة‭ ‬بايدن‭ ‬مؤخراً‭ ‬عندما‭ ‬زار‭ ‬زعيم‭ ‬أوروبي‭ ‬بارز‭ ‬وهو‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬إيمانويل‭ ‬ماكرون‭ ‬العاصمة‭ ‬بيكين‭ ‬لإجراء‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬المحادثات‭ ‬المباشرة‭ ‬مع‭ ‬الرئيس‭ ‬الصيني‭ ‬شي‭ ‬جينبنج‭. ‬

في‭ ‬ختام‭ ‬تلك‭ ‬الرحلة‭ ‬الاستثنائية،‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬خلالها‭ ‬ماكرون‭ ‬على‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العقود‭ ‬المربحة‭ ‬للشركات‭ ‬الفرنسية،‭ ‬أعلن‭ ‬ماكرون‭ ‬‮«‬شراكة‭ ‬استراتيجية‭ ‬عالمية‭ ‬مع‭ ‬الصين‮»‬‭ ‬ووعد‭ ‬بأنه‭ ‬لن‭ ‬‮«‬يأخذ‭ ‬إشارة‭ ‬من‭ ‬الأجندة‭ ‬الأمريكية‮»‬‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتايوان‭. ‬

سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصدر‭ ‬المتحدث‭ ‬باسم‭ ‬قصر‭ ‬الإليزيه‭ ‬توضيحًا‭ ‬مبدئيًا‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬هي‭ ‬حليفنا،‭ ‬مع‭ ‬القيم‭ ‬المشتركة‮»‬‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬عكس‭ ‬إعلان‭ ‬ماكرون‭ ‬في‭ ‬بكين‭ ‬رؤيته‭ ‬الطويلة‭ ‬المدى‭ ‬للاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬كلاعب‭ ‬استراتيجي‭ ‬مستقل‭ ‬والعلاقات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الوثيقة‭ ‬لتلك‭ ‬الكتلة‭ ‬مع‭ ‬الصين‭.‬

 

{  ألفريد‭ ‬ماكوي‭ ‬–‭ ‬أستاذ‭ ‬التاريخ‭ ‬بجامعة‭ ‬وسكونسين‭ ‬الأمريكية‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬مؤلفاته‭ ‬‮«‬في‭ ‬ظلال‭ ‬القرن‭ ‬الأمريكي‭: ‬صعود‭ ‬وانحدار‭ ‬القوة‭ ‬الأمريكية‮»‬‭.  ‬

 

كومونز

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا