العدد : ١٦٨٤٥ - الاثنين ٠٦ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٥ - الاثنين ٠٦ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ شوّال ١٤٤٥هـ

شرق و غرب

هل لا تزال الولايات المتحدة في حاجة إلى أوروبا؟

الثلاثاء ١٣ يونيو ٢٠٢٣ - 02:00

بقلم: إيما آشفورد - جوشوا شيفرينسن - ستيفن ويرهايم

عندما عاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من بكين في شهر أبريل 2023، أثار ضجة ضخمة وانتقادات واسعة ترددت أصداؤها في كل أنحاء الدول الغربية وبلغت الولايات المتحدة الأمريكية. في حديثه إلى المراسلين، صرح ماكرون أن المصالح بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية آخذة في التباعد، لا سيما في مقاربتهم تجاه القارة الآسيوية وهو تصريح لا يخلو من حقيقة وواقعية.

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حديثه إلى المراسلين الصحفيين وممثلي وسائل الإعلام العالمية: «أسوأ شيء بالنسبة إلى أوروبا، عندما نتمكن أخيرًا من توضيح موقفنا الاستراتيجي، لينتهي بنا المطاف إلى عالم من الأزمات التي ليست هي في الحقيقة أزماتنا».

استقبلت سلطات واشنطن رحلة الرئيس ماكرون إلى الصين وما بدر منه من تصريحات بفزع. فقد كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تبذل قصارى جهدها لإبراز صورة الوحدة الغربية تحت قيادة أمريكية مستقرة، تمارس دورها التاريخي الذي ورثته من الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حرب باردة بين المعسكرين الغربي بقيادته والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي الذي انهار ودخل طيات التاريخ.

ومع ذلك، أججت تصريحات الرئيس الفرنسي الجدل المحتدم حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تسعى إلى جر الدول الأوروبية إلى صراعها المتصاعد مع الصين، أو بدلاً من ذلك يجب أن تقلل من دورها القيادي في الدفاع عن أوروبا من أجل إعطاء الأولوية للاحتياجات الأمنية في آسيا.

وبالنسبة إلى عديد من المحللين في واشنطن، فإن الخطوة الأخيرة ستشكل خطأ مكلفًا. فقد كتب عالم السياسة مايكل مازار مؤخرًا في مجلة فورين أفيرز بتاريخ 17 أبريل 2023 يقول: «لماذا لا تزال أمريكا بحاجة إلى أوروبا؟ إن تخفيض الالتزامات الدفاعية للولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا من شأنه أن يثبت صحة الصورة القاتمة التي ترسمها الصين وروسيا الآن عن الولايات المتحدة التي تبحث عن مصالحها الخاصة بلا رحمة ومن دون مجاملات، ومن شأن ذلك أن يقوض بشدة محاولات الولايات المتحدة المضنية لبناء سمعة باعتبارها تلك القوة العظمى النادرة التي تقدم شيئًا للعالم بخلاف الطموح الأجوف».

لقد ظل هذا الكلام يتردد باستمرار على ألسنة أولئك الذين يعتقدون ويروجون القول بإن أي انسحاب عسكري أمريكي ذي مغزى من أوروبا - على الأرجح يشمل دولًا أخرى تصعد لتحمل نصيب الأسد من عبء الدفاع - من شأنه أن يقطع العلاقات الأمريكية مع القارة العجوز وحتى العالم.

يعتبر هؤلاء أيضا أن الانسحاب العسكري الأمريكي من القارة الأوروبية، وإن بدا بعيدا في الوقت الحالي، سيكون محفوفا بالمخاطر ويتمخض عن تداعيات سياسية واستراتيجية عميقة ويمكن أن يدمر التعاون ما بين الولايات المتحدة وأوروبا.

يقول محللون وعلماء سياسة غربيون آخرون إن هذا القلق مبالغ فيه إلى حد كبير، وهو يعتمد على التفاؤل المفرط بشأن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على ردع كل من الصين وروسيا إلى أجل غير مسمى وعلى التشاؤم غير المبرر بشأن مسار أوروبا التي لن تستطيع أن تبني قوتها العسكرية الذاتية للدفاع عن نفسها وعن مصالحها.

في الواقع ستستفيد الدول على جانبي المحيط الأطلنطي من نقل معظم مسؤولية الدفاع عن أوروبا إلى الأوروبيين أنفسهم، ما يسمح للولايات المتحدة الأمريكية بالتالي في هذه الحالة بالانتقال إلى دور القوة الداعمة.

والنتيجة هي على الأرجح أن تكون هناك شراكة متوازنة ومستدامة عبر الأطلنطي أكثر من طلاق عبر المحيط الأطلنطي. أما البديل فهو يتمثل بطبيعة الحال في التمسك بالوضع الراهن المتدهور الذي يقمع القدرات الدفاعية لأوروبا ويتطلب المزيد من سلطات واشنطن في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة من انحسار دورها.

وفي الحقيقة فإن الدعوات والتبريرات المتعلقة بتقليص التزامات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أوروبا ليست بالأمر الجديد. ففي عام 1959، اشتكى الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور من أن الأعضاء الأوروبيين في منظمة حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، برفضهم استبدال القوات العسكرية الأمريكية بقواتهم الخاصة إنما «يجعلون العم سام مبتذلاً في دوره».

أعرب صانعو السياسات في الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض، من الجمهوريين والديمقراطيين، عن مخاوف وهواجس مماثلة. ومع ذلك، فقد أعيد تشكيل الجدل مؤخرًا من خلال مواءمة صقور «آسيا أولاً» مع الواقعيين في السياسة الخارجية الذين يفضلون ضبط النفس الاستراتيجي.

يخشى الصقور الأمريكيون، المنشغلون بصعود الصين الصاروخي على ساحة العلاقات الدولية، من أن التزامات الولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا يمكن أن تقوض الأولويات في آسيا. من ناحية أخرى، دافع الواقعيون منذ فترة طويلة عن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أوروبا على أسس جيوسياسية ومتعلقة بالميزانية.

إن قضية الدفاع الأوروبي واضحة ومباشرة: مع صعود الصين واحتدام التنافس بين القوتين القوة الصينية والأمريكية، تكسب الولايات المتحدة الأمريكية القليل وهي تضحي كثيرًا من خلال العمل كضمان أمن وأمان أساسي للدول الأوروبية التي يمكنها تحمل تمويل دفاعها ضد روسيا.

إذا كان هناك من شيء يسترعي الاهتمام، فإن الأداء الضعيف للقوات الروسية في ساحة المعركة في أوكرانيا يشير إلى أن تقليص دور الولايات المتحدة الأمريكية قد يكون أكثر قابلية للتحقيق مما كان يعتقد سابقًا.

يتحدى عالم السياسة مازار هذا التقييم. وهو يعتبر أن التزامات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه أوروبا وآسيا تنطوي على القليل من المقايضات العملية وأن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أوروبا لن يوفر أي أموال بالكاد.

يتوصل هذا الأكاديمي الخبير بالقضايا السياسية والاستراتيجية إلى هذه الاستنتاجات بافتراض أن ما يهم هو ما إذا كان الوجود العسكري للولايات المتحدة في وقت السلم مستدامًا. تم استبعاد احتمال فشل الردع في أوروبا أو آسيا إلى حد كبير من تحليله.

يجب أن نقر بأن الولايات المتحدة الأمريكية ليست قادرة على القيام بعمليات واسعة النطاق ضد الصين وروسيا في وقت واحد، أي على جبهتين اثنتين في الآن نفسه. ربما كان عالم السياسة مازار محقًا في أن الوجود الكبير في وقت السلم في كلا المسرحين أمر ممكن على المدى القصير، لكن الحرب في منطقة واحدة على الأقل هي احتمال حقيقي ومتزايد لا يمكن استبعاده.

في الحقيقة فقد أصبحت النزاعات المباشرة مع الصين أو روسيا أكثر احتمالية في السنوات الأخيرة، وهناك فجوة كبيرة بين خطاب قادة الولايات المتحدة الأمريكية والقدرات العسكرية الأمريكية أيضا.

على الرغم من أن صانعي السياسة يتحدثون عن ردع كل من الصين وروسيا إلى أجل غير مسمى، فإن استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018 تخلت فعليًا عن خطط الولايات المتحدة الأمريكية للاحتفاظ بقوات كافية لخوض الحروب في منطقتين - ناهيك عن قوتين رئيسيتين - في وقت واحد.

أما اليوم فإن الجيش الأمريكي غير قادر على القيام بعمليات واسعة النطاق ضد الصين وروسيا في وقت واحد. يدرك خصوم الولايات المتحدة ذلك، وقد تشجعهم المعرفة على اختبار التزامات واشنطن على أرض الواقع.

بعبارة أخرى، يرتبط الردع في زمن السلم والدفاع في زمن الحرب، كما أن الدفاعات غير الكافية تضعف الردع، لذلك لا يمكن فصل خطط السلام عن خطط الحرب وفق قول الخبراء الاستراتيجيين.

إدراكًا للمخاطر المتزايدة منذ الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، دعا حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في كل من أوروبا وآسيا واشنطن إلى تخصيص المزيد من الموارد لمناطقهم.

نحن أقل قلقًا من بعض القوى الأخرى في القارة الآسيوية وغيرها أن الصين قد تقدم على غزو تايوان في المستقبل القريب، طالما أن تايوان لا تعلن الاستقلال والولايات المتحدة الأمريكية لا تعامل الجزيرة على أنها منفصلة بشكل دائم عن الصين الأم.

ومع ذلك، سيكون من الحماقة تجاهل المخاطر المتوسطة والطويلة المدى. قد تؤدي أزمة مستقبلية بشأن تايوان أو جزر دياويو / سينكاكو المجاورة إلى سحب الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مفاجئ بعيدًا عن أوروبا. مثل هذا الوضع يمكن أن يمنح روسيا فرصة لتحدي أو غزو الجيران المكشوفين فجأة ويتسبب بالتالي في تعرية أوروبا بالمفهوم الاستراتيجي.

إن الاعتماد على قدرة الولايات المتحدة الأمريكية دائمًا على تخصيص موارد إضافية كبيرة لأوروبا، في حالة اندلاع الحرب، يعني وضع كل بيض التحالف عبر الأطلنطي في سلة مثقلة بما تحمله في الوقت الراهن. انتهت لحظة الأحادية القطبية وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تواجه منافسًا آسيويًا صاعدًا. إنها الصين.

لحسن الحظ، لا أحد يحتاج إلى القيام بمثل هذه المغامرة. تمتلك الدول الأوروبية في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي قوة عسكرية كامنة أكبر بكثير مما تستطيع روسيا حشده. وفقًا للبنك الدولي، كان الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي أكبر بتسع مرات من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في عام 2021، ووسعت الحرب في أوكرانيا الفجوة بشكل أكبر.

وحتى على مستوى الإنفاق العسكري لأعضاء الاتحاد الأوروبي، الذي تعرض لسوء المعاملة، هو بالفعل أربعة أضعاف الإنفاق العسكري لروسيا، ويبلغ عدد سكان الاتحاد الأوروبي ثلاثة أضعاف عدد سكان روسيا. علاوة على ذلك، تدهورت قوات موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا، ما أعطى أوروبا نافذة فريدة لتحويل مواردها إلى دفاعات فعالة ومنسقة.

عندما يفكر عالم السياسة والاستراتيجيا مازار في إمكانية نشوب حرب في أوروبا، فإنه يقلل من تكاليف المستوى الحالي لالتزام الولايات المتحدة الأمريكية بأمن المنطقة. يؤكد مازار أنه حتى لو تراجعت واشنطن الآن، فإن الحرب في أوروبا ستجر الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى إلى الداخل، وبالتالي تلغي فوائد تقليص النفقات في المقام الأول. يكتب هذا الخبير الاستراتيجية قائلا: «من غير المعقول أن يجلس رئيس للولايات المتحدة جانباً ولا يفعل شيئاً لأن أوروبا قاتلت من أجل بقائها».

لكن هناك فرق شاسع بين عدم القيام بأي شيء ونشر الفرقة المدرعة الأولى. لقد غيرت الولايات المتحدة الأمريكية مسار الحرب الحالية في أوكرانيا دون الانخراط في قتال مباشر، من خلال توفير الأسلحة والتدريب والاستخبارات إلى سلطات كييف.

إذا قامت روسيا بمهاجمة أحد أعضاء حلف الناتو، فستحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية بمجموعة من الخيارات. تطالب المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو أعضاءه باتخاذ «الإجراءات التي يرونها ضرورية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، لاستعادة الأمن في منطقة شمال الأطلسي والحفاظ عليه».

لا يتطلب الأمر من الولايات المتحدة الأمريكية الانضمام إلى القتال منذ البداية، ناهيك عن القتال بأي طريقة معينة. إذا كان بوسع أوروبا أن تفعل المزيد لحماية نفسها، يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تفعل أقل - وربما أقل بكثير في العقود المقبلة.

وفوق كل شيء، يجب قياس التهديد الروسي بدقة وليس تضخيمه. في المستقبل المنظور، ستفتقر روسيا إلى القوة العسكرية والموارد الاقتصادية للسيطرة على القارة الأوروبية وبالتالي تهديد المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أظهر الغزو الروسي لأوكرانيا هذه الحقيقة، وكذلك الرغبة الواضحة لجيران روسيا في ضبط طموحات موسكو. نظرًا إلى أن روسيا لا تستطيع أن تصبح قوة مهيمنة أوروبية، تحتاج واشنطن إلى تطوير خيارات سياسية واقعية تتناسب مع التهديد الذي تتعرض له المصالح الأمريكية. يمكن للولايات المتحدة أن تظل حليفًا بنّاءً لحلف شمال الأطلسي بوجود قوات في الخارج إلى حد كبير.

وحتى لو نجحت سياسة الردع في كل المسارح في الوقت الحالي، فإن الحفاظ على الوضع الراهن يفرض مقايضات كبيرة. يقلل عالم السياسة مازار من شأن ذلك بالقول إن هناك حاجة إلى أنواع مختلفة من القوات وأنظمة الأسلحة في أوروبا، الأمر الذي يتطلب قوات ودبابات على الأرض، وتكثيف الدعم في البحر والجو. بالتأكيد، هناك بعض الحقيقة في هذا التمييز. لن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بنشر فرق مدرعة على طول سلاسل جزر المحيط الهادئ.

في الوقت الحالي تأتي أغلب شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا من مخزونات الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن المشتريات المستقبلية ستعتمد على قدرة مصنعي الأسلحة الأمريكيين على تلبية الطلبات المتزايدة بسرعة كبيرة.

قد يؤدي ذلك إلى حدوث صراع بين الاحتياجات الآسيوية والأوروبية. أما القوات الجوية، على وجه الخصوص، فهي تظل عرضة للإرهاق والإنهاك وحتى الاستنزاف بسبب الطلبات المتزايدة من كلا المسارح للتزود بالوقود الجوي والنقل، فضلاً عن قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع.

ستحدد الأولويات الإستراتيجية في النهاية كيفية تنظيم الولايات المتحدة لقواتها والأسلحة التي تختار شراءها. إذا كانت آسيا تُعد باستمرار أهم مسرح للمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، فإن البنتاغون سيضع علاوة على شراء الأنظمة وتصميم القوات المُحسّنة للنزاعات في المحيطين الهندي والهادئ.

هذا يعني أنه سيخصص موارد أقل لتلك الأصول التي تناسب أوروبا بشكل أفضل (أو الشرق الأوسط في هذا الصدد). وبالمثل، سيتم تحديد القوة النسبية للخدمات من خلال الأولويات الإستراتيجية - وكيف تشكل ميزانية الدفاع.

على المدى الطويل، ستكون الاحتياجات الدفاعية الأوروبية في منافسة مع الاحتياجات الآسيوية. لقد أصاب عالم السياسة مازار عندما اعتبر أن التكلفة المالية المباشرة للإبقاء على القوات الأمريكية الحالية في أوروبا صغيرة نسبيًا مقارنة بميزانية الدفاع الإجمالية للولايات المتحدة الأمريكية.

تتضمن التكلفة الحقيقية للوجود العسكري الأمريكي الفرصة البديلة لتوجيه موارد المشتريات والتوظيف بعيدًا عن قدرات واستخدامات معينة وباتجاه أطراف ومصالح وأهداف استراتيجية أخرى أيضا وحسب الظروف والتطورات.

حتى لو أنفق الكونجرس المزيد من الأموال على ملفات الدفاع، كما يدعو البعض إلى ذلك، فإن هذا لن يؤدي إلا إلى تغير كبير في طبيعة السياسة العسكرية والدفاعية التي تنتجها الإدارات الأمريكية المتعاقبة. إن مثل هذا الإنفاق، على أي حال، يأتي على حساب الاحتياجات المحلية الملحة وينطوي على مخاطر سياسية حقيقية وفي سنة انتخابية محفوفة بالمخاطر والتحديات وتطغى عليها الحسابات السياسية والحزبية والانتخابية.

في خضم هذا الجدال المتصاعد يعتبر الكثير من المحللين والخبراء الاستراتيجيين الغربيين أن الوجود العسكري الأمريكي المهيمن قد أعاق تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية المحلية وعرقل التعاون الدفاعي بين الدول الأوروبية وهو كلام مهم لا يخلو من الصواب.

كانت هذه النتيجة أكثر من مجرد نتيجة ثانوية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية لقد كانت هدفًا في حد ذاتها. أثناء قيامهم بتركيز نظام الأمن في فترة ما بعد الحرب الباردة، قامت إدارتا الرئيسين جورج بوش وبيل كلينتون بمنع أوروبا من بناء قدرات عسكرية تماثل قدرات الولايات المتحدة أو تحل محل قيادتها في الناتو.

رغب المسؤولون الأمريكيون في الحفاظ على التفوق العسكري للولايات المتحدة، خوفًا من عدم الثقة في الدول الأوروبية لإدارة شؤونها الخاصة. لكن اليوم، انتهت اللحظة أحادية القطب وتواجه الولايات المتحدة تحديًّا آسيويًّا متصاعدًا، ومشكلات في أماكن أخرى، واستياء في الداخل.

يعتبر الخبراء الاستراتيجيون في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أنه لا بد من العمل اليوم على تصحيح المسار. يجب أن يبدأ عبء الدفاع عبر الأطلنطي في التغير. من الصعب تصور ظروف أفضل للقيام بذلك - ومن السهل تصور ظروف أسوأ بكثير في المستقبل.

يعتمد منتقدو تقسيم الأدوار عبر الأطلنطي عادة على ثلاث مقاربات وهي يسردونها ويفسرونها كالآتي:

ضرورة تنظيم تقاسم الأدوار حسب الموضوع أكثر من الاعتماد على التنظيم الجغرافي. يقترح مازار، على سبيل المثال، أنه على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتيح لحلفائها الأوروبيين القيام بدور نشط في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حتى لو قدموا مساهمات متواضعة.

وفعلا فإنه من غير المنطقي أن نتوقع من الدول الأوروبية تخصيص الموارد الضخمة للجانب الآخر من العالم بينما تظل هي معتمدة على الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عنها وحماية مصالحها الحيوية.

هذه صفقة سيئة للولايات المتحدة الأمريكية. على الرغم من أن البعض قد يأملون أن يؤدي هذا الاعتماد على واشنطن إلى اضطلاع الدول الأوروبية بدور أكبر في المسرح الآسيوي، إلا أن ذلك لا يضمن أن تقبل أوروبا بالسير في ركاب الولايات المتحدة في آسيا.

المقاربة الثانية: تجني الولايات المتحدة الأمريكية فوائد من شبكة تحالفاتها الحالية التي ستخسرها إذا تبنت دورًا أكثر تقييدًا في الدفاع الأوروبي. يستدل مازار في هذا الصدد بالتعاون العسكري بين الولايات المتحدة والدول الاسكندنافية كمثال واضح وهو يعتبر أن واشنطن ظلت تتعاون مع كل من فنلندا والسويد قبل وقت طويل من قرارهما الانضمام إلى حلف الناتو.

تشمل مجالات الاستفادة عدة محاور مختلفة مثل تبادل المعلومات الاستخباراتية والأمن السيبراني، من خلال العلاقات أو الترتيبات الثنائية، وليس من خلال حلف الناتو. يكاد يكون من المؤكد أن مثل هذا التعاون سيستمر في غياب وجود عسكري كبير للقوات الأمريكية في أوروبا.

المقاربة الثالثة: سوف تتراجع الدول الأوروبية عن العلاقات الاقتصادية القوية عبر الأطلنطي إذا كانت مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية أقل من خلال حلف الناتو. ولكن في العقود السابقة عندما كان التزام الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي موضع تساؤلات كبيرة، ظلت التجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلنطي قوياً. أما اليوم فقد أصبحت الاقتصادات الأوروبية والأمريكية أكثر اندماجًا. يصدر الاتحاد الأوروبي سلعًا إلى الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى، والاتحاد الأوروبي هو ثالث أكبر شريك في تصدير السلع إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وبصفتهما أكبر التكتلات العالمية للاقتصادات الصناعية المتقدمة، فإن أوروبا وأمريكا الشمالية تشتركان في مشاكل وأهداف حيوية وجوهرية، مثل تحقيق الانتقال المنظم إلى الطاقة الخضراء. كما لا يشير التاريخ إلى أن وجود القوات الأمريكية في أوروبا يمكّن واشنطن من منع الدول الأوروبية من التجارة مع الدول المعادية والمنافسة بقوة للولايات المتحدة الأمريكية.

خلال فترة الحرب الباردة، عارضت الدول الأوروبية، على الرغم من استفادتها من الحماية الأمريكية، الضوابط التجارية ضد الاتحاد السوفيتي. تلقي هذه السابقة بظلال من الشك على فكرة أن الولايات المتحدة يمكنها الاستفادة من وجودها العسكري في أوروبا للحد من العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والصين أو تقليصها.

بالتأكيد، قد تصبح الدول الأوروبية أقل احترامًا لواشنطن إذا سحبت الولايات المتحدة الأمريكية قواتها وأصولها الدفاعية بينما بقيت في حلف الناتو. من ناحية أخرى، لا يزال يتعين على الأوروبيين العمل على حماية أنفسهم من التجسس والمراقبة والإكراه الاقتصادي الصيني وتشكيل القواعد والمعايير العالمية بالشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

لا شك أن خطر الانفصال التجاري عبر المحيط الأطلنطي ضئيل، لا سيما بالنظر إلى أن الدول الأوروبية قد تنحرف جيدًا عن سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين حتى لو احتفظت الولايات المتحدة بجميع قواتها في أوروبا. والمنفعة المحتملة - قد تجني أوروبا أيضا فوائد مهمة وكبيرة إذا أصبحت قادرة على التكفل بحماية نفسها بعيدا عن جلباب الولايات المتحدة الأمريكية.

إن تنظيم الدفاع عن أوروبا مكلف للولايات المتحدة الأمريكية - وليس بالدولار. يؤدي العمل كحامي حمى لأوروبا إلى تغذية غطرسة الولايات المتحدة الأمريكية ويسمح لسلطات واشنطن بتجاهل النصائح التي غالبًا ما تكون قيّمة من أصدقائها. عندما عارضت حكومات أوروبا الغربية الحرب في العراق عام 2003، تم تجاهلها رغم أنها كانت على حق.

إذا كانت أوروبا تتمتع بقدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية، فإن واشنطن ستصبح أقل اعتقادا بأنها هي وحدها من يمكنه تشكيل العالم كما يريد. لا شك أن الهيمنة الأمريكية تحول دون نجاح الدول الأوروبية في بناء منظومة دفاعية ذاتية تكون قادرة على توفير الأمن لمواطنيها وتقليل تبعيتها على صعيد السياسة الخارجية. قد تجد الدول الأوروبية نفسها في وضع محفوف بالمخاطر إذا ما حدث انسحاب مفاجئ للقوات الأمريكية في المستقبل.

من الأفضل إذن تمكين الحلفاء الأوروبيين من البدء في سد الفجوات المستقبلية في قدرة الولايات المتحدة. كان الهدف الأصلي لصانعي السياسة الأمريكيين في العقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية هو مساعدة الأوروبيين على الوقوف على أقدامهم مرة أخرى والدفاع عن أنفسهم، وكان ذلك الهدف الظاهر من إطلاق مشروع مارشال.

ومع ذلك، بدلاً من الاعتراف بأن هذه الدول قادرة الآن على القيام بذلك، يبدو أن بعض المسؤولين في واشنطن يخشون من هذا النجاح الحقيقي الذي قد تحققه الدول الأوروبية، ومن المفارقات أن يدركوا سببًا يجعل الوجود الأمريكي في أوروبا دائمًا ويحتم تمديد الالتزامات الدفاعية الأمريكية أكثر. رغم كل الانتقادات التي وجهت إليه، فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يطرح الأسئلة الصحيحة.

في العقود القادمة، ما نوع العلاقة التي يجب أن تسعى الولايات المتحدة وأوروبا إليها؟ هل يجب أن تكون شراكة حقيقية تتكيف مع الظروف المتغيرة؟

أم هل ينبغي أن تكون تبعية غير متوازنة هي التي تحافظ على الهيمنة الراسخة للولايات المتحدة، ما يجعل الدول الأوروبية أقل من حلفاء وأكثر تبعية للولايات المتحدة الأمريكية؟

لن يكون هذا الانتقال سهلا. سيتطلب الأمر بناء دفاع أوروبي عملي مناورة سياسية بارعة، ورعاية القاعدة الصناعية الدفاعية في أوروبا، وتغيير شامل في الثقافة الإستراتيجية.

سوف يستغرق الأمر وقتًا إذا تم تنفيذ ذلك بشكل صحيح، لكن النتيجة قد تثبت صحة ووجاهة تمشي أوروبا في البدء في بناء قدراتها الدفاعية والعسكرية الذاتية. وعلى عكس ما يزعم بعض النقاد، فإن التحالف التاريخي ما بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية قد يصبح أكثر متانة.

 

فورين‭ ‬بوليسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا