إعلان النسخة الثانية من «جائزة محمد جابر الأنصاري لإثراء الفكر العربي»
علي خليفة: كان صاحب مواقف واضحة في كسر الحواجز بين المثقفين والسلطة
كتبت: ياسمين العقيدات
نظم مركز عبدالرحمن كانو الثقافي، بالتعاون مع مركز دارة الأنصاري للفكر والثقافة، ندوة بعنوان «فكر محمد جابر الأنصاري: عقل بحريني مستنير»، بحضور كبير ورفيع المستوى من رموز الفكر والأدب والثقافة، إلى جانب نخبة من الأكاديميين والمهتمين، بمشاركة كل من الأستاذ علي عبد الله خليفة، والدكتورة ضياء الكعبي، والدكتور حسن مدن، فيما أدارت الجلسة الدكتورة معصومة المطاوعة، وسط حضور كبير من المهتمين بفكر المفكر الراحل.
وخلال الندوة، أعلنت هالة الأنصاري، عضو مؤسس دارة الأنصاري للفكر والثقافة، إطلاق «جائزة محمد جابر الأنصاري لإثراء الفكر العربي»، والتي تستلهم مضمون كتابه التحليلي الشهير «العرب والسياسة: أين الخلل؟»، مشيرة إلى أن الجائزة تهدف إلى تحفيز إنتاج فكري عربي رصين يعالج إشكالات الواقع السياسي والثقافي العربي. كما ثمّنت الأنصاري دور مركز عبدالرحمن كانو الثقافي في تسليط الضوء على فكر والدها الراحل، مؤكدة أن المركز كان دائمًا حاضنًا لنشاطاته ومساهمًا في دعم مساعيه الفكرية.
شريك أساسي في رسم
ملامح الحركة الأدبية
في البداية استحضر الشاعر والأديب علي عبدالله خليفة محطات بارزة من علاقة امتدت لأكثر من ستة عقود جمعته بالمفكر الراحل الدكتور محمد جابر الأنصاري، واصفًا إياه بأنه لم يكن مجرد صديق، بل شريك أساسي في رسم ملامح الحركة الأدبية والفكرية في البحرين والمنطقة.
وأكد خليفة أن الدكتور الأنصاري كان يتمتع برؤية مستقبلية نافذة، ساعدته على استشراف تحولات المشهد الثقافي، ليس فقط على مستوى الفكر والتحليل، بل من خلال مبادرات عملية كان لها أثر بالغ في تأسيس بنية ثقافية وطنية حديثة، وقد تجلت هذه الرؤية في دعمه المبكر للأصوات الأدبية الشبابية، رغم المعارضة الشديدة من بعض التيارات المحافظة، وفي دوره المحوري في إنشاء «أسرة الأدباء والكتاب البحرينيين» التي نالت اعترافاً رسمياً بفضل جهوده المباشرة.
وأشار إلى أن الأنصاري لم يكن مجرد مفكر يُراقب من بعيد بل كان حاضراً في تفاصيل العمل الثقافي اليومي، يسهم في حل الأزمات ويقدم المشورة لتوجيه المؤسسات الأدبية بل كان له دور فاعل في حماية هذه المؤسسات من المزالق القانونية والصراعات الفكرية في أوقات شديدة الاضطراب.
ولفت خليفة إلى أن الراحل لم يكتف بالدعم المعنوي، بل سعى عملياً لتأمين مقر دائم لأسرة الأدباء والكتاب، واسهم في تطوير بنيتها كما كانت له مواقف واضحة وشجاعة في كسر الحواجز بين المثقفين والسلطة، حيث رتب لقاءات مباشرة بين رموز الثقافة البحرينية والقيادة السياسية، وهو ما ساعد في تمكين المثقف البحريني وتعزيز مكانته في المجال العام.
وأضاف أن العلاقة التي جمعتهما امتدت إلى مراحل مختلفة في الخارج، بين باريس ولبنان والدوحة، حيث عملا معاً في إدارة مشاريع ثقافية خليجية. وقد مثّل الأنصاري دائمًا ملاذًا في الأزمات، بفضل حكمته وعمق تحليله، وحرصه على حماية المكتسبات الأدبية من أي تشويه أو تهميش.
وختم خليفة حديثه بالتأكيد أن أثر الدكتور الأنصاري لا يتمثل فقط فيما نشره من كتب ودراسات، بل في النهج الذي رسّخه، والثقة التي منحها للأجيال الجديدة من المثقفين، وهو ما جعل اسمه حاضرًا في قلب النهضة الفكرية المعاصرة، محليًا وعربيًا.
الدولة القُطرية العربية
ومن جانبه، قال الدكتور حسن مدن إن الدكتور محمد جابر الأنصاري أحد أهم المفكرين العرب في العقود الأخيرة قد تنبأ بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعصف بالعالم العربي بينما كان يحذر من المآلات الصعبة التي انتهت إليها الدولة القُطرية العربية في أكثر من مكان، مطالبًا بإعادة بناء العقل التاريخي والاجتماعي العربي لفهم أزمات الحاضر والتعامل معها بواقعية.
وأضاف مدن أن الأنصاري يرى في ابن خلدون نموذجًا فريدًا يجمع بين الفقه والاجتماع، وهو الذي أنزل الفلسفة من عالم المجردات إلى أرض الواقع، مؤسسًا فلسفة اجتماعية يمكن للعقل أن يتعامل معها، على عكس الفلسفة الميتافيزيقية التي كان ابن خلدون يرفضها.
وأشار مدن إلى أن الأنصاري ركز في كتابه «لقاء التاريخ بالعصر دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيسا لثقافة العقل»، على أهمية إدراج مقدمة ابن خلدون في المناهج التعليمية العربية، معتبراً إياها آخر ومضة إبداع في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
وأكد مدن نقلًا عن الأنصاري أن الثقافة العربية الحديثة انصرفت إلى النهضة الأدبية والشعرية، متجاهلة الأبعاد الاجتماعية والتاريخية، مما أدى إلى إهمال التراث الفكري المهم لمفكرين كبار مثل ابن خلدون والجاحظ وابن سينا، فضلاً عن غياب تدريس العقلانية في المدارس.
ولفت مدن إلى أن الأنصاري يطالب بضرورة بناء الدولة الوطنية القطرية وتحصينها، قبل التفكير في مشاريع وحدوية لم تنضج ظروفها، مشيرًا إلى أن التجارب المريرة في العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان جاءت نتيجة إهمال هذا الأساس، إضافة إلى التدخلات الأجنبية والعوامل الجغرافية.
واختتم مدن بالإشارة إلى أن الأنصاري يطالب بإرساء علم اجتماع عربي إسلامي خاص بالواقع التاريخي والاجتماعي العربي، بعيدا عن الخطابة والمجردات النظرية، باعتباره السبيل لفهم الأزمة العربية والعمل على تجاوزها.
صون الهوية الثقافية
ودعت الدكتورة ضياء عبدالله الكعبي، عميدة كلية الآداب بجامعة البحرين وأستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث، إلى صون الهوية الثقافية والفكرية العربية من خلال إعادة قراءة وتحليل إرث الدكتور محمد جابر الأنصاري، مؤكدة أن مشروعه الحضاري يمثل مرتكزًا مهمًا لفهم الذات العربية وتجديد الخطاب الثقافي العربي.
وطالبت الكعبي بأن تُدرج أعمال الأنصاري ضمن الحقول الأكاديمية، وأن يُخصص لها مجال بحثي رصين من خلال حلقات علمية تناقشها على مستوى طلبة الدراسات العليا في الجامعات الخليجية والعربية.
وأكدت أن برحيل الأنصاري، يفقد المشهد الثقافي والفكري العربي أحد أبرز مفكريه الذين عرفوا برؤيتهم المستقبلية، ووصفت الفقيد بأنه «ابن خلدون العصر الحديث»، نظير اشتغاله العميق على تفكيك بنية الفكر العربي الحديث وبحثه الدؤوب عن مداخل النهضة وتجديد المشروع العربي.
وأشارت الكعبي إلى أن الأنصاري كان رائدًا في الدراسات المستقبلية، وأنه سبق معاصريه في طرح الأسئلة الكبرى حول العلاقة بين الواقع العربي والتحولات الحضارية، مستشهدة بكتابه المبكر «العالم والعرب سنة 2000» كنموذج لقراءته الاستباقية في الفكر السياسي والاجتماعي.
وفي السياق نفسه، قارنت الكعبي مشروع الأنصاري بمشاريع كبار المفكرين العرب مثل محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، معتبرة أن التقاطعات الفكرية بينهم رغم اختلاف المنهجيات تعكس اشتراكًا في القلق الحضاري والرغبة في مساءلة التاريخ العربي ونقده بعقلانية.
ورأت الكعبي أن الأنصاري لم يكن مجرد ناقد أدبي أو محلل سياسي، بل كان مشروعًا فكريًا متكاملًا، جمع بين العمق الأكاديمي والرؤية المستقبلية، وأسهم في بناء مكتبة عربية مرجعية أصيلة يجب أن تُقرأ من جديد بمنهجيات معاصرة، بما في ذلك آليات التفكيك والنقد الثقافي والتاريخي.
وتطرقت الكعبي إلى دور الأنصاري في التأسيس المؤسسي للثقافة في البحرين، لا سيما تأسيسه «أسرة الأدباء والكتاب» التي كان أول رئيس لها، واعتبرت أن إسهامه المبكر في الكتابة النقدية عن نتاج الجيل الجديد من الأدباء في الستينيات والسبعينيات شكّل حافزًا مهمًا لنهوض الحركة الأدبية الحديثة في البحرين.
وختمت الكعبي حديثها بالتأكيد على أن إرث الأنصاري الفكري والثقافي «لا يجب أن يبقى في الرفوف» بل يستحق أن يدرس ويناقش ويفعل في سياقنا العربي المعاصر، باعتباره منارة فكرية قادرة على الإسهام في بلورة مشروع نهضوي عربي جديد قائم على العقل والانفتاح.
قطيعة الشباب للأدب
على صعيد آخر أكدت هالة الأنصاري مستشارة جلالة الملك المعظم للشؤون الثقافية والعلمية لـ«أخبار الخليج»، أن الندوة التي تناولت فكر والدها الراحل محمد الأنصاري كشفت عن عمق مشروعه الفكري والثقافي، مشيرة إلى أن مركز عبدالرحمن كانو الثقافي الذي نظم الفعالية نجح في التوغل في أعماق المشروع بشكل غير مسبوق.
وأوضحت الأنصاري أن الندوة سلطت الضوء على زوايا متعددة من فكر والدها منها تأثره بابن خلدون وارتباطه العميق بالتراث الثقافي العربي حيث قارنه البعض بابن خلدون في طبيعته الفكرية ورؤيته، مشيرةً أن اليوم قدمت الندوة جرعات معرفية حول أبرز ما ميز شخصية محمد الأنصاري ومشاريعه الفكرية.
كما أشارت إلى مدى اهتمام والدها الراحل بالحركة الأدبية الشابة ووصفت هذا الجانب بأنه «من الأمور التي تحسب له»، مؤكدةً ان ما نفتقده اليوم هو التواصل الحقيقي بين الرواد والأجيال الشابة، مضيفةً أن الكثير من الشباب باتوا لا يلتفتون إلى الحقل الأدبي مما يشكل قطيعة فكرية تحتاج إلى معالجات.
وأشارت إلى أن التركيز على مشروع محمد الأنصاري لا يقتصر فقط على الاهتمام بفكره بل يتعداه إلى ضرورة إعادة قراءة نقده الأدبي نفسه، قائلة: من المهم أن ننقد النقد الذي قدمه، وأن نعيد اكتشاف الجوانب العميقة في شخصيته، والعمل على الحفاظ عليها وتوثيقها.
ولفتت الأنصاري إلى أن هذه الندوة وغيرها من المبادرات تسهم في إثارة الاهتمام بالإنتاج الأدبي والفكري لمحمد الأنصاري، معتبرة إياه مثقفاً فريداً استطاع أن يصل إلى الشارع ويخاطب الإنسان البسيط وكان يشبه المثقف بسائق الشاحنة الذي يجب أن يتعامل بحذر داخل الأزقة من دون أن يصطدم، بل أن يمر بسلاسة كي يُفهم من الجميع.
كما أكدت أهمية وجود قوة فاعلة في الميدان الثقافي لضمان وصول التاريخ إلى العصر الحديث، مشيرة إلى أن المسابقة في نسختها الثانية، شهدت هذا العام تطويراً برفع السن المسموح بالمشاركة فيه، ما يمنحها مزيداً من التنوع والعمق.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك