إنه التاريخ الممتد بعطائه، الفنان الذي كسر كل حدود موانع التحدي ليبحر مع الغواصين ومع الفلاحين في مرحلة تعد من أهم محطات عمره التي تقرأ عبر ماضيها وحاضرها ضمن مسيرة عطاء متواصلة لم تعرف السأم أو الوقوف، تجاسرت على كل معطيات وقتها لتقدم صورة مثلى وعميقة عن التجربة التشكيلية في وطن تسكنه الروح وتزين جيده قلائد البسر من النخيل الباسقات.
- قال لي عندما سألته عن أول شيء اسأله عنه، قال لنبدأ مع حكاية الطفولة، ومع الطفولة بدأت اتحدث مع عبدالكريم العريض، فقلت له حدثني عن تلك التجربة منذ ثلاثينيات القرن الماضي؟
كان ماضي طفولتي قد بدأ منذ ثلاثينيات القرن الماضي، تلك السنوات التي أثرت في مجرى حياتي.
حيث اتذكر اليوم الأول الذي أخبرني فيه الوالد -رحمه الله- بأنه سيدخلني المدرسة، وكان يومها عمري ست سنوات، يومها فرحت فرحاً عظيماً.
فانشغلت بشراء أقلام ودفاتر، وشنطة المدرسة، وكلها كنت أعمله بفرح لأن رفاق طفولتي الذين يلعبون معي في الحي سيشاركونني الدراسة.
وتعرفت على أصدقاء جدد في المدرسة، وكانت ليالي الشتاء من أجمل الليالي التي كنت أجلس فيها وسط الحجرة أمام موقد النار وإبريق شاي الزنجبيل يعطر المكان برائحته، كنت اضع دفتري واكتب عليه فوق طاولة صغيرة وأمامي فانوس يضيء عتمة الحجرة.
وأذكر أن في ذلك العام سقط مطر كثير فسقطت الكثير من البيوت في المنطقة، حيث البيوت كانت مبنية من الطين الأبيض والحجارة والجص.
- وماذا عن بيتكم؟
كان بيتنا يقع في شارع قريب من مدخل السوق «سوق الطواويش» التي كانت عبارة عن زقاق متعرج، وكانت رؤوس «الدنخل» تخرج من الجدران، كأنها حراب تتدلى منها الخرق البالية وعجلات الدراجات.
وأذكر أن في كل مرة يهطل علينا مطر الشتاء الغزير، يبقي الشوارع مليئة بالطين والأوحال، وعندما تمر عربة الحمار «الكاري» تغوص عجلاته الكبيرة في الطين، ويتجمع المارة لكي يرفعوا الحمار والعربة من هذا المأزق، وكنا نحن الأطفال أشد الفرحين لهذا المنظر، حيث نجتمع لمشاهدة هذا المنظر المضحك والعجيب.
بعد وفاة والدك رحمه الله، من رعاك بعده واهتم بشؤونك؟
في عام 1942 توفي والدي رحمه الله، وكنت صغيراً، فذهبت لأعيش في بيت ابن عمة والدي وهو بيت سالم العريض، وفي هذا البيت وعلى يد الأستاذ سالم العريض تعلمت الكثير، وأذكر ذلك اليوم الذي عاقبني فيه الأستاذ سالم عندما اتلفت بعض ملابسي بتقطيعها، حيث كان العقاب شديدا.
- في عام 1946 هناك نقلة نوعية في حياتك التي بدأت بانبثاق موهبتك مع الرسم صفها لنا؟
- في عام 1946 م بدأت انظر إلى الأشياء باهتمام أكثر، لقد اختار أستاذ الرسم رسمة لصديقي (سعيد) وعلقها فوق الجدار، واشاد به، اذكر يومها حزنت كثيراً لعدم اختيار الاستاذ لرسمتي، يومها ذهبت إلى البيت، وكانت حفلة زواج، وكانت (التسليمة)، حيث حملت النسوة (صواني) الحلوى على رؤوسهن متجهات إلى بيت العروس، والأطفال خلفهن يصفقون ويغنون، فشدني هذا المنظر وأثار فيّ المشاعر، فرسمته في ورقة كبيرة، وفي الصباح بكرت الذهاب إلى المدرسة كي أقدم الموضوع لمدرس الرسم الأستاذ عبد القدير، كم كانت فرحتي كبيرة عندما قبل الأستاذ رسمتي وباهتمام ما شجعني، وكنت اطمح ان يقبل الأستاذ كل أعمالي ويعرضها في المعرض العام.
وانقضى عام وتلاه عام آخر درسنا فيه مادة الرسم مدرس آخر اسمه رؤوف نادر شركس، وفي هذا العام كون الأستاذ شركس جمعية الرسم في المدرسة، وكنت أنا أحد أعضائها، وكان يشاركني في عضويتها من الطلبة والذين هم من الفنانين الكبار عبدالله المحرقي، حيث كان الأستاذ يعطينا بطاقات بريد ننقل منها بعض المواضيع، وفي ذلك العام أقيم معرض في المدرسة الثانوية وذهبت لمشاهدته، وقد شد انتباهي موضوع ( عاشوراء) الذي رسمه الطالب عبدالرحمن الموسوي، فما إن عدت إلى البيت حتى بدأت في رسم مواكب العزاء بطريقة عفوية، وقد رسمت ذلك في عشرين مشهداً، فاطلع عليها مدرس الرسم الذي وعدني بعرضها في المعرض العام، مما افرحني فرحاً عظيماً.
- في عام 1948 أقيم معرض في قصر القضيبية القديم، وكان هذا المعرض قد أثر فيك صف لنا تلك المشاعر؟
في ذلك العام 1948 م اقيم معرض في قصر القضيبية القديم وكان قسم الرسم واللوحات الزيتية التي احتواها المعرض جيدة، أجملها تلك التي رسمها الأستاذ حامد عبدالرحمن من البعثة التعليمية المصرية، وهي عبارة عن مناظر من المنامة تمثل الأسواق وصائغ الذهب وبيوتاً في المحرق، فشدتني تلك الأعمال، وأثارت في نفسي الكثير من الأحاسيس، وجذبت انتباهي، الأمر الذي جعلني أزور المعرض يومياً لمشاهدة تلك الأعمال.
- في عامي 1950 و1959 قوي عودك وبدأت ترسم بثقة أكبر حدثنا عن هذه المرحلة؟
في هذين العامين بدأت ارسم بثقة، وكنت اتعامل في الوان اللوحة بالوان الزيت، انقل العديد من الصور لفناني عصر النهضة، امثال بتشيلي ( عودة الربيع) لمايكل أنجلو، ودافينشي وغيرهم من الفنانين الغربيين، واعرضها في المعارض المدرسية، وخصوصاً في المدرسة الثانوية، وكان أهم معرض مدرسي أقيم في تلك الفترة ذلك المعرض الذي احتضنته مدرسة المنامة الثانوية، والذي نظمه الأستاذ عبدالرحمن مرزوق أحد أفراد البعثة التعليمية المصرية، وفي العام نفسه اسست أنا وبعض الزملاء ندوة الفن والأدب، وقررنا إقامة معرض فني خارج نطاق المدرسة، إلا أننا لم نوفق في ذلك، بعدها أخذت أنا وصديقي حسين السني نخرج للرسم في الشوارع والأسواق وعلى الأسياف.
- هذه الفترة ماذا أضافت إلى رصيدك الفني؟
كانت حصيلتي من تلك السنوات الخبرة التي اكتسبتها من نقل الصور ومزج الألوان، غير أن شيئا لم أكن أعرفه هو النسبة والمنظور.
وفي ذات يوم كنت أشاهد أحد الأجانب وهو يرسم في الشارع، وكان ذلك هو الفنان كارل يوفن، أحد أفراد البعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار، وقد اخذ يقسم المسافة ويقيس المنظور بقلم الرصاص، كان ذلك بالنسبة لي الدرس الأول على الطريق الأكاديمي في الفن.
- هل ربطتك علاقة مع هذا الفنان الدنماركي؟
- نعم، حيث بعد معرفتي به دعوته لمشاهدة أعمالي الفنية ورسوماتي في المنزل وكان يصحبني صديقي الفنان حسين السني، وعندما شاهد أعمالي الفنية أرشدني إلى الكثير من الأمور الفنية السليمة التي تبدأ بالخط والشكل والفراغ والضوء والظل، ومن أهم الأمور التي أوصاني بها ايضاً أن أكثر من التمرينات الميدانية من رسم الأشخاص (الموديل)، فقررنا أنا وحسين السني أن نقوم بجولات في الشوارع والمقاهي لرسم المواضيع البيئية، واستأثر البحر بجل اهتمامنا، ما جعلته موضوعاً لكثير من رسومنا، كما كان للسفن وعربات الحصن البحري بالقرب من مستشفى النعيم (القديم)، كما كنا نذهب كل مساء إلى مقهى بالقرب من الساحل وهو ملتقى أصحاب السيارات الكبيرة، وفي هذا المقهى تكثر (الموديلات) الذين يدخنون الشيشة (الكدو) والذين يلعبون الزرد الطاولة، فكان ذلك المقهى، بما يعج من عمال نبتة خصبة لاختيار ورسم الأشخاص (الموديل).
وفي أيام الجمع كنا ننتقل في السوق من مقهى إلى آخر، نبحث عن اللوحات الشعبية المعبرة أو رسم الأزقة والدكاكين، وكنت الأبواب الخشبية والستائر المدلاة على الأبواب والأغطية التي تغطي الأزقة، الصناديق الفارغة، عربات الحمالين الطويلة أو تلك الخرق المعلقة فوق قطع الأخشاب البارزة من الجدران والرجال الذين يدخنون (الكدو)، والمقاعد الطويلة الممتدة على طول الزقاق بأبوابها ذات الألوان الصارخة الأخضر والأصفر، ما يثير انتباهي، ما جعل منها المواضيع المثيرة والقريبة إلى نفسي.
- عبرت بأن سوق المنامة هي الأكاديمية التي أعطتك شهادة الفن كيف حصل ذلك؟
- بالفعل إن سوق المنامة هي الملهم الأكبر بالنسبة لي وهي السوق الأكاديمية في الفن التي تلقيت فيها درسي الأول منذ الخمسينات، في فترة نضوجي الفكري، فقد أخذت أدرك الكثير من الأمور الفنية المتعلقة باللون والضوء، والمنظور.
كانت الأسواق المحيطة بدار البلدية قد أثارت في نفسي المواضيع الشعبية تحيط بهذا المبنى الذي شيد في العشرينيات من القرن الماضي وإلى جانب مبنى البلدية من جهة الغرب مبنى غريب التصميم شيد بالحجارة المقطوعة من جزيرة (جده) على نمط الأسواق الخاصة بالخضراوات التي أنشئت في مدينة بومباي في العهد الفيكتوري.
وأعد هذا المبنى ليكون سوقا لبيع اللحوم.
كانت هذه المنطقة من مدينة المنامة ذات حيوية تجارية في ذلك الوقت، من حيث تجمع النشاط التجاري الشعبي فيها، وكذلك النشاط الحرفي كسوق الحدادة التي كان لها نشاط مهم في حياة المجتمع، وهذه الحرفة بالذات متأثرة بالمكان والبيئة ولقربها من مراكز صناعة السفن، والحياة الاجتماعية والاقتصادية ولها خصوصيتها.
في هذه الأسواق يصب كل إنتاج قرى البحرين في تلك الفترة من الزمن، بائع السمك والخضراوات وسوق بيع الحمير التي كان لها دور فعال ومؤثر في النقل والمواصلات.
كانت البلدية هي المركز الإداري لكل هذه الأسواق، وسيارة إطفاء والحريق تقف في مكان خاص بها في مبنى البلدية.
في أعمالك الكثير من حكايات السوق مثل عربات الحمير (الكاري) التي تحمل القمامة أو ما يخص الناس من حاجاتهم قربنا إلى تلك العلاقة الحميمة بينك وبينها؟
كانت تشدني عربات الحمير (الكاوي) المتوقفة خلف مبنى البلدية، التي تحمل القمامة إلى مناطق خارج حدود مدينة المنامة، ويتألف مبنى البلدية من طابق أرضي، وطابق ثان له بهو (ليوان) طويل يطل على السوق، وفي يوم الأربعاء من كل أسبوع، تنعقد السوق الأسبوعية الكبيرة، تتحول المنطقة إلى تجمع لبيع جميع السلع، ويأتي أصحاب الهوايات لبيع ما لديهم من بضاعة، والنساء تبعن الدجاج في أقفاص خاصة (كراكير) والحمام والأرانب، وصانعو السلال والقفيف والحصر والمديد.
هذا التنوع شدني بما تحمله السوق من تنوع وهي موزعة بطريقة فنية، بما يوضع فيها من عماريات وخيام صغيرة ومظلات يخال للمشاهد أن عرضا قد صمم لتصوير فيلم سينمائي.
تلك المناظر استهوتني من حيث امتزاج بعضها مع بعض واشكال تتداخل.
ألوان من المظلات الكثيرة بينها الأسود والأبيض والأزرق والأحمر، شكلت منظرا بهيجاً وفنيا لريشتي.
كل هذا بالإضافة إلى أصحاب المزارع الذين يجلبون إنتاجهم من البرسيم إلى السوق صفوفاً منتظمة، تخال بساطا أخضر قد بسط وسط السوق.
بين السوق الشعبي وبين الطريق النافذ إلى شارع الشيخ عبدالله دكاكين تباع فيها الأدوات القديمة والتحف، وأخرى تبيع الأسطوانات والكرامفونات (أسطوانات كايرفون) أو أسطوانات (داودفون) هذه الدكاكين كبيرة لها دكك مرتفعة توضع عليها مديد لجلوس الزبائن.
- اعمالك الفنية هي نكهة شهية ذات اتصال روحي للإنسان البحريني تمثلت في قدرتك على رسم تلك المعالم الشعبية من السوق إلى المقاهي الشعبية، كونت حكايات جميلة تراثية، فكيف كانت علاقتك مع هذا التنوع؟
تلك المقاهي وتلك المعالم التراثية في الحكاية الشعبية البحرينية هي التي شدتني اليها فرسمتها وكانت الأغاني الشعبية التي يحبها الجمهور البحريني تشدني، وكانت لها دور بارز ومهم.
في هذه الأسواق اندمجت فنيا واجتماعيا فعكست اعمالي بعد هذا التنوع.
انني من أولئك الذين يكرهون التظاهر، كنت أضع الفكرة ثم أدعو أصدقائي لمشاركتي في تنفيذها.
هكذا كنت منذ أيام طفولتي، غير أن الأصدقاء سرعان ما يتركونني وحدي في الساحة، وأعود من جديد لوضع تجربة جديدة في مجال الفن هكذا أبني وتهدمها الرياح.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك