لا تفتأ المنظومة التعليمية بالمملكة تشهد تطورات متلاحقة في محاولة دؤوبة لمواكبة تلك التغيرات والتطورات المتسارعة في جميع الميادين والمجالات.
ولكن السؤال الهام هنا، هل كانت تلك التطورات التي يفرضها الواقع في صالح العملية التعليمية ككل؟. أو بمعنى آخر، هل ساهمت تلك التغييرات والتطورات بشكل إيجابي في الارتقاء بالمناهج وبقدرات الطلاب وبقدر المعلم وبمكانته المجتمعية.
في السبعينيات والثمانينيات كان الحصول على معدل 88% من أصعب الطموحات التي يحلم بها الطالب. ومن يحصل على معدل 85% كانت تفتح له فرص جامعية متعددة. واليوم أصبح الحصول على معدلات تفوق الـ 95% أمرا اعتياديا وليس بالعسير. فهل تطورت قدرات الطلاب وامكانياتهم العقلية والتحصيلية بتطور المناهج وأدوات التعليم؟ أم أن للأمر أبعادا أخرى.
في السابق كان المدرس يشرح الدرس للطلاب، ليعود الطالب من المدرسة وينجز واجباته بمفرده، ونادرا ما يحتاج الى مساعدة من طرف ثالث. واليوم لا يستطيع طالب المرحلة الابتدائية تحديدا بل وحتى الإعدادية في كثير من الأحيان كتابة سطر واحد من دون دعم الأم أو الأب وتدريسهم له طوال اليوم، وشرح ما تم شرحه أساسا في المدرسة. وهذا سؤال آخر يفرض نفسه: أين المشكلة؟
في السابق كان الطالب في الصف الأول الابتدائي يدرس الأساسيات بدءا من «مع سحر قلم» و«حمد أخو سحر»، وكانت المناهج خفيفة تناسب سنه، واليوم بات الطالب في الأول الابتدائي يدرس تاريخ الجاهلية والطقس والترمومتر ومقاييس المطر ودوران الرياح واستخدامات التربة والتلوث وعملية التدوير والمصطلحات والمعلومات التي كانت في السابق تدرس لمراحل متقدمة. فهل يرتقي هذا بقدرات الطلاب أم تكون له آثار سلبية على شغفهم بالدراسة وحبهم للذهاب الى المدرسة؟
في السابق كان طالب الأول الابتدائي يحمل عددا محدودا من الكتب الخفيفة والمصاغة بطريقة بسيطة. واليوم يضطر الى حمل ودراسة 12-14 كتابا في الفصل الدراسي الواحد، مثل العربي والعلوم والريادة والرياضيات والإنجليزي والحساب الذهني والتربية البيئية والتربية الإسلامية والمواطنة والقرآن الكريم وبراعم العربية وغيرها. وبعض المواد تتكون من أكثر من كتاب وكراسة، كالعربي والإنجليزي والمواطنة والعلوم. فهل كان هذا التغيير في صالح الطالب؟
في السابق كان المعلم هو الأب الثاني في المدرسة، وهو من يتولى مهمة التربية قبل التعليم. وله صلاحيات كثيرة تعززها نظرة المجتمع والاحترام الذي كان يحظى به. فهل لا يزال المعلم يتمتع بهذه الحظوة.
قد لا تكون الإشكالية في التعليم او المنظومة التعليمية بقدر ماهي تغيرات تفرضها الظروف والتطورات في المجتمع وفي المجالات كافة.
رحلة زمنية
«هل ما شهدته المنظومة التعليمية يعتبر تطويرا أم تغييرا؟»
سؤال طرحه أحد الأساتذة ونحن نناقش معه هذا الموضوع. وفي الواقع سؤال تحتاج إجابته الى دراسات متعمقة.
أستاذ آخر عندما ناقشنا معه موضوع التعليم، أكد أنه بعد حوالي ثلاثة عقود من التدريس لم يعد يطيق الاستمرار، وقرر التقاعد، وسبب ذلك كما لخصه هو: لم يعد التعليم اليوم يخّرج كفاءات، وانما «جسد له خوار».
إحدى الأمهات تقول: إن بدء العام الدراسي كان في السابق أشبه بإجازة للأم تحديدا، حيث تحظى بوقت فراغ وراحة طوال الصباح، وحتى في المساء ينشغل الأبناء بواجباتهم ولعبهم. ولكن انقلبت الصورة اليوم، فبدء الفصل الدراسي بحسب قولها هو كابوس تعانيه الأمهات تحديدا، لأن مسؤولياتهن تتضاعف، خاصة بعد عودة الأبناء من المدرسة، لتبدأ هي معهم مشوار الأنشطة وشرح الدروس ومتابعة التحصيل الدراسي.
كل ذلك جعلنا نفكر في أن ننتقل برحلة زمنية حول المنظومة التعليمية بين الأمس واليوم، بين ثلاثة أو أربعة عقود مضت وبين اليوم. وفي الجزء الأول من هذه الرحلة الزمنية نلتقي مجموعة من الأساتذة المتقاعدين الذين كانوا طلابا ثم مدرسين في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، واستمروا في التدريس حتى سنوات قليلة مضت. وهم الأقدر على المقارنة بين الأمس واليوم.
وفي الجزء الثاني نلتقي مجموعة أخرى من المدرسين الشباب لنعرف رأيهم عن المنظومة التعليمية اليوم ومقارنتها بالسابق.
نظام التعليم
بعد 26 سنة من التدريس، قرر الأستاذ حسن الملاح التقاعد وهو في عز عطائه وشبابه. ويختصر السبب بقوله: «ضقت ذرعا بالوضع» ولم أستطع المواصلة.
وهذا ما دفعنا الى ان نتوقف عنده كمحطة أولى في رحلتنا الزمنية للتعليم بين الأمس واليوم. ونطلب منه مقارنة المنظومة التعليمية في الثمانينات والتسعينات.. والوقت الراهن. وننطلق في مقارنتنا بالمناهج التعليمية، وهذا ما أجاب عنه بقوله: الامر الطبيعي هو أن تتطور المناهج وتتغير وهذا ما حدث في الكثير من المناهج التعليمية، ولكن من غير الطبيعي ولا المقبول ان يكون التغير للوراء، وان يحدث في بعض المناهج تراجع يؤدي الى ضعف المهارات لدى الطلاب، بما في ذلك القراءة والكتابة والقدرة على التفكير بسبب ضعف طرق الإعداد. وعندما نتمحص في بعض المناهج نرى ان التغيير لم يبن للأسف على أسس علمية صحيحة، وانما على ذوقيات واستحسانات، فمثلا في السابق كان هناك كتابان لمادة الاقتصاد، ومع التطوير الغيا وصار هناك كتاب واحد للمسار التجاري فقط، وبالاطلاع عليه يمكنني التأكيد انه كتاب ممسوخ ليس فيه من الاقتصاد الا العنوان، وفيه خلط للمفاهيم وتجميع مشوه لمعلومات متكررة لكتب أخرى. وهذه العشوائية خلقت ازمة للطالب. والامر نفسه ينسحب على كثير من المناهج منذ المرحلة الابتدائية. والسؤال هنا: لماذا نتخلى عن شيء مجرب اثبت فعاليته بأمر يسبب عقدا للطلاب؟ فالتطوير لا يعني ان نتخلى عن جوانب فعالة اثبتت نجاحها. وبنفس الوقت يطالب نظام التقويم ان يراعي المراقي العليا في التفكير كالتحليل، في حين ان المنهج نفسه لا يساعد على ذلك.
*ماذا عن قدرات الطلاب أنفسهم بين الماضي والحاضر؟
**في رأيي، وبسبب هذا التخبط في المحتوى، صار الطالب يشعر بالإرهاق والتعب منذ المرحلة الابتدائية، يحفظ ولا يدرك. وهذا مالم نعاني منه قبل عقدين او ثلاثة حين كان الطالب يرتقي بشكل تدريجي، بدءا من التهجي والمعلومات الأساسية البسيطة والقصص التي تعزز القيم لديه. ولكن في الوقت الحالي نجد حشوا مبالغا في المعلومات في كتب الصف الأول الابتدائي بشكل يجبر الطالب على الحفظ لا الفهم.
*ربما هذا ما يقودنا الى التساؤل عن سبب حاجة الطلاب الى المساعدة اليومية في المنزل، وهو أمر لم يكن مألوفا من قبل؟
**الأسباب هنا مختلفة، فمن جانب لا ننفي القصور من المعلمين أنفسهم. ولكن بنفس الوقت المعلم هو ضحية هذا الوضع أيضا، حيث يفرض عليه سقف زمني ومحتوى محشو، ووثائق تثبت كل خطواته، مما حول عمله ورقا وإثباتات. ثم كيف يمكن للمعلم ان يقنع الطالب بمحتوى فارغ؟
أضف الى ذلك أن نظام التعليم نفسه يساهم في هذه المشكلة، فعندما ننظر الى اليات التقويم نجد انها لا تركز على بناء قدرات الطالب داخل الصف، وانما على أنشطة يمكن الحصول عليها جاهزة، فهناك مكتبات تبيع البحوث والواجبات تحت علم الوزارة، بدليل ان الإعلانات موجودة علنا! في حين كان التفاعل الصفي والمنافسة يلعبان دورا كبيرا في التقييم.
نعم في السابق كانت اعمال السنة تمثل 15% من الدرجة النهائية، وتطور الامر بشكل إيجابي، حيث ارتفعت النسبة الى 50% أحيانا. وهي خطوة جيدة، ولكن المشكلة في التطبيق. فتوزيع هذه النسبة يركز على أنشطة لا تسمن ولا تغني من جوع، وتعتمد في جلها على النقل والمعلومات السطحية او على شرائها جاهزة كما أسلفت.
ومن المشكلات أيضا – يتواصل الحديث للأستاذ حسن الملاح – أن التنافس والتسابق حاليا بات يركز على المعدلات أكثر من أي امر آخر، بما في ذلك المحتوى والتحصيل. وهنا نعود أيضا الى الخلل في نظام التقويم. بل أن القيود التي تفرض على الرسوب أصبحت أكثر صرامة من التفوق! وهذا ما له تأثير سلبي على المخرجات.
أضف الى ذلك أن بعض العوائل تلعب دورا في تراجع مستويات الطلاب من خلال الابوة والأمومة المفرطة. فبدل تعليم الطفل المسؤولية والاعتماد على النفس، صاروا يعلمونه الاتكالية وتوفير المساعدة والأنشطة الجاهزة والدروس الخاصة.
*ولكن في السنوات الأخيرة شهدنا ارتفاعا كبيرة في معدلات المخرجات التعليمية بدليل ان الحاصلين على أكثر من 95% بالمئات. الا يعكس ذلك تطور قدرات الطلاب وتضاعف كفاءة المنظومة التعليمية؟
**هنا من المهم الإشارة الى ان الاعتماد على المعدل التراكمي يعتبر امرا إيجابيا لأنه يضمن الا يضيع جهد الطالب ولا تتأثر نتائجه إذا واجه ظرفا طارئا في التوجيهي مثلا. ولكن هناك جوانب أخرى ضيعت هذه الإيجابيات. فالمشكلة ليست في الطلاب وانما في مفردات التقويم التي اوصلتهم إلى هذا الأمر، بحيث ارتقى نظام التقويم بدرجات الطالب من دون ان يرتقي بقدراتهم، وبالتالي لم يستفيدوا من التطورات والتكنولوجيا، بدليل ان الكثير من الطلاب عندما يدخلون الجامعة يصدمون بالواقع ويحتاجون الى سنة تمهيدية! وهذا مالم يكن موجودا في السابق.
لذلك اقولها وانا مسؤول عن ذلك، من يحصل على 80% أو 85% في السابق أقوى وأكثر كفاءة ممن يحصل على 99% اليوم، لأنه لا يتخرج ولا يحقق ذلك المعدل الا بعد ان (تحكه) المنظومة التعلمية بالكامل.
*في رأيك، هل تغير الأمر أيضا بالنسبة الى المعلمين سواء من حيث القدرات او المكانة الاجتماعية؟
**هناك تغير كبير سواء من حيث الكفاءة أو الطموح أو الجانب العلمي أو المكانة الاجتماعية. ففي السابق كان المعلم يقوم بدوره كرسالة أكثر من وظيفة، والآن تحولت الى مهنة لا رسالة.
ربما ان الأساتذة السابقين كانوا قساة نوعا ما ولكنهم ربوا أجيالا وزرعوا فيهم القيم والثقافة. كان الواحد منهم يضرب ويقسو ولكن يعامل الطلاب كأب يشعر بالمسؤولية. والمشكلة في الوقت الراهن اننا ربما لا نجد هذا القدر من الولاء للمهنة لأسباب مختلفة، منها الضغوط التي يتعرض لها المعلمون وبشكل غير طبيعي. بحيث تحول المعلم إلى اشبه بآلة صماء يتعامل مع عدة جهات وفقد الكثير من المكانة والصلاحيات، وبات يعاني من كثرة اللجان والتقييم، بل يمكنني الجزم انه حتى لجان التقييم تضم افرادا غير متخصصين ولم يعملوا مدرسين قبل ذلك. هل تصدق ان احدى اللجان التي مرت علي كان أحد الأعضاء خبير في نظام جودة المصانع! ألا يعرفون ان التعامل مع الطلاب والبشر في المنظومة التعليمية يختلف عن الآلات والجمادات؟ في الصف نكون في مختبر بشري ونتعامل مع العقول والقدرات التفكيرية وليس مع مقاييس هندسية أو قدرات تصنيعية.
وفي احدى المرات كنت ادرس موضوعا في الاقتصاد حول العرض والطلب. والمشكلة ان الكتاب الذي يشرح الدرس يضم صورة غير واقعية ولا ترتبط بالدرس. وخلال وجود موجهين اثنين اخبرت الطلاب بواقع الصورة. وعندما ناقشني الموجهان تراهنت معهم ان يشرحوا المعنى الحقيقي لهذه الصورة التي يقدمها الكتاب على انها تعبر عن الدرس. وكانت النتيجة ان عجزوا عن ذلك. ومثل هذا الامر تكرر معي مرات عدة، وفي كل مرة عندما يعجزون يكون الرد: ليس دورنا ان نجيب عن ذلك، وانما نكتب تقارير فقط. وهذا ليس انتقاصا من كفاءة الموجهين أو غيرهم، ولكن المشكلة كما ذكرت في طبيعة المحتوى والمعلومات والصور التي تقحم اقحاما وتكون في الغالب منقولة عن كتب أخرى. وهذا ما حول العملية التعليمية الى حفظ أكثر من فهم. وهنا عندما يتعامل المعلم مع منهج قوي يكون مضطرا الى التطور، خاصة وانه مطالب بامتلاك اضعاف المعلومات التي يحتويها المنهج. علما ان المنهج القوي لا يعني معلومات كثيرة ومقررات دسمة. فأحيانا تكون وريقات معدودة أكثر فائدة وفاعلية من كتاب ضخم سطحي.
لذلك أقول ان مهنة التدريس متعبة ولكن تعبها لذيذ وممتع للمعلم في السابق، وكلما تعب كلما تطور أكثر. ولكن المنظومة التعليمية الحالية تسببت التراجع في حماس المدرسين وكفاءتهم وقدراتهم، واحد أسباب ذلك هو عدم وجود الرغبة والدافع في التطور وعدم وجود الحوافز الكافية والترقيات، مع وجود منهج اعتبره شخصيا سطحيا وغير محفز للطالب أو المعلم.
*ولكن بالمقابل، ألم تساهم التكنولوجيا الحديثة في الارتقاء بقدرات الطلاب وكفاءتهم، بل وحتى المنظومة التعليمية بشكل عام؟
**المحتوى التعليمي أمر، والتكنولوجيا أمر آخر. وعندما تسخر التكنولوجيا بالشكل الصحيح من قبل المؤسسات التعليمية والعائلات والطلاب لخدمة المحتوى الجيد تكون النتائج إيجابية، ولكن للأسف الشديد ان التكنولوجيا بالطريقة الحالية حولت حياتنا الى (تَنَك لوجيا) بدل ان تدفعنا إلى مستوى متقدم. ومن خلال الاستخدام الخاطئ حولناها الى وسيلة استهلاكية بدل أن تكون تنموية. بل باتت في الكثير من الأحيان تساهم في (خيابة) الطالب وكبح قدراته التفكيرية والتحليلية. وبالتالي فإن صانع التكنولوجيا هو المستفيد، اما نحن فحولنا عقل المستعمل لها الى الاتكالية.
*أمام ما ذكرته من ملاحظات، أين الخلل في المنظومة التعليمية في الوقت الراهن برأيك؟
**أطراف عدة تشترك في الخلل الموجود. فنظام وزارة التربية ومحتوى المناهج ونظام التقويم والتعامل مع المعلمين وحتى اللوائح الانضباطية كلها تعلب دورا في خلق بيئة تعليمية تعتبر تراجعا عما كانت عليه قبل عقود قليلة. بل حتى تقييم سلوكيات وانضباط الطلاب سلب من إدارة المدرسة.
أيضا يتحمل المعلمون نسبة من المسؤولية لاسيما فيما يتعلق بانعدام الدافعية والحماس وتحويل التدريس الى مجرد وظيفة. بل صار من المعتاد ان نسمع المعلم يقول (اعمل على قدر راتبك). وهذا امر طبيعي إذا ما غاب الحافز والدافع إلى التطور والتطوير. وهنا إذا رأى الطالب المعلم محبطا وليس لديه حافز للعطاء، من الطبيعي ان يفقد هو الاخر الحافز والجدية.
من جانب آخر، تتحمل الاسر مسؤولية كبيرة لا سيما فيما يتعلق بالجانب السلوكي. فالكثير من الاسر تعاني من خلط بين مفهوم التربية والرعاية. وحلت الرعاية محل التربية، بمعنى ان ولي الأمر يحرص على ان يوفر للطاب جميع التسهيلات والأجهزة التكنولوجية والدروس الخصوصية وغيرها، وكل هذه مفاهيم للرعاية، في حين ان التربية هي مبادئ وقيم وانضباط لا يخلو من الصرامة التي تجعل الطالب يعتمد على نفسه ويطور مهاراته.
والى جانب ما سبق، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي مسؤولية كبيرة من خلال نقل مخلفات المجتمعات والثقافات الأخرى وليس الإيجابيات الموجودة هناك. ومع انتشار هذه الوسائل وشعبيتها لدى هذا الجيل فإن تأثيرها يكون مضاعفا.
*اسمح لي بسؤال شخصي، لماذا تقاعدت وأنت في عز عطائك وقوتك؟
**في الواقع اتخذت هذا القرار لأسباب عدة، منها شعوري بأنني لا أستطيع ان اواصل مع هذه التغيرات التي حدثت في المنظومة التعليمية ككل بما في ذلك المناهج وصلاحيات المعلم والبيئة التعليمية التي تفتقد الى الدسم العلمي والتي حولت الطالب الى مجرد متلقٍ يكرر ما يسمع، مع سلب المعلم كل صلاحياته ومكانته.
الطالب بات يدخل الأول ابتدائي وهو ضامن انه سيتخرج من التوجيهي، لان العملية باتت تسير وفق خطة وخطوات مرسومة فقط!، في حين كان الطالب في السابق ووفقا للمناهج ونظام التقويم الصارم لا يتخرج ويتخطى المراحل التعليمية الا إذا بذل مجهودا كبيرا.
صراع أجيال
الأستاذ علي جاسم المحاري، يدلي بدلوه في هذا الموضوع بعد خبرة امتدت إلى أكثر من 25 عاما بين تدريس اللغة العربية والعمل في الإدارة، قبل ان يقرر التقاعد. يقول المحاري: لا شك أن المنظومة التعليمية ككل تغيرت وفق تغير المجتمع، ومن الصعب الحكم على المناهج إذا ما كانت في السابق افضل أم الآن لأن لكل وقت ظروفه واحتياجاته. ولكن ربما لم تتطور جميع المناهج بذلك القدر الذي شهده تطور المجتمعات، فبعض المواد مازالت تعتمد على نفس النصوص، ولا يحدث التطوير بشكل جذري وانما باستبدال نص بآخر. في حين أننا بحاجة الى تحديث شامل للمنهج حتى يكون تكامليا يلبي الاحتياجات الحالية، في حين ان تغيير نصوص او أجزاء من المنهج قد لا يحدث التكامل مع الوحدة الكلية للمادة. وهذا ما نجده في العديد من المواد.
وبالنسبة إلى اللغة العربية فقد شهدت تغييرا ملحوظا، فمثلا قبل ثلاثة عقود كانت مناهج اللغة العربية مختلفة تماما، وكانت تقسم الى النصوص والبلاغة والأدب والنحو وغيرها، ثم أصبح منهج اللغة العربية وحدة متكاملة، يضم تلك الأقسام. وهنا قد تكون المناهج القديمة أكثر عمقا، خاصة فيما يتعلق بالبلاغة والقواعد، ولكن على الجانب الاخر ربما كانت الوحدة المتكاملة أفضل في تدريس اللغة نفسها.
*وهل حدث ذات التغيير في مكانة المعلم ودوره سواء بالمجتمع او المدرسة؟
**قبل ان نتحدث عن مكانة المعلم علينا أن نتساءل هل مازالت مكانة الأب هي نفسها؟ بالطبع اختلفت، وعلاقتنا بآبائنا وأسلوب تعاملنا معهم مثلا تختلف عن علاقة أبنائنا اليوم. وهذا مصداق قول الامام علي «لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»، فالأمر أشبه بصراع أجيال. وهنا عندما ننظر الى مكانة المدرس وعلاقة الطلاب به، ربما لا نجد لدى المدرسين الشباب مشكلة لأنهم عايشوا المرحلة الحالية وهم من نفس الجيل الحالي تقريبا ويعرفون طبيعة العلاقة. ولكن عندما تسأل المعلمين القدامى والمتقاعدين ستجد أن الجواب مختلف، وربما يؤكدون لك أن مكانة المدرس واحترامه في المجتمع تغير للأسوأ بشكل كبير، وذلك لأنه يقارن الوضع الراهن بالجيل السابق الذي عاصره.
وبالنسبة إلى وجهة نظري الشخصية، اعتبر ان هناك تغيرا في السلوكيات والعلاقة نحو الأسوأ، وهذا ليس لأن المعلم تغير وانما تغيرت طبيعة الجيل وطبيعة المنظومة التربوية. ولم تعد مهنة التدريس مرغوبة عند الكثيرين، لأن النظرة الى المعلم تغيرت ليس لدى الطلاب فحسب وانما حتى أولياء الأمور، فكان الآباء في السابق ينظرون الى المعلم على انه مربٍ، وبالتالي يسمح له بممارسة دور الأب في المدرسة. ولكن هذه المكانة تغيرت لان المجتمع كله تغير. ولم يعد للمعلم ذلك الدور التربوي والأبوي الذي كان يمارسه في السابق. صحيح أننا يجب ان نسلم بأنه لا يمكن ان نجمد تغير المجتمع في الوقت الذي تتغير فيه ظروف الحياة، ولكن في الوقت نفسه يجب ان نركز على أهمية ان تكون نظرة المجتمع أكثر احتراما للمعلم. ففي السابق كانت نظرة التقدير تبقى للمعلم في كل الظروف. ولكننا اليوم بتنا نرى أشبه بحالة التصيد لنشر أي خطأ أو زلة او شكوى ضد المعلمين، لتنتشر في لحظات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فمثلا هل قرأت مؤخرا موضوعا او قصة حول تجارب ناجحة للمعلمين؟ وبالمقابل كم تسمع في العام من شكاوى وانتقادات وقصص مسيئة للمعلمين؟ وكل ذلك يؤثر على النظرة العامة للمعلم وعلى احترام الجيل له. فمكانة المعلم إشكالية اجتماعية يساهم فيها ولي الامر والإدارة والوزارة والطالب ووسائل الاعلام والتواصل.
*ألا تعتقد أن هذا التغيير السلبي طال حتى قدرات الطلاب وامكانياتهم، بما جعلهم بحاجة إلى مساعدة أولياء الأمور أو المعاهد لاستكمال الأنشطة والمذاكرة، الأمر الذي ربما لم يكن بهذه الصورة سابقا؟
**هذا الأمر يرتبط بطبيعة ومحتوى الواجبات والمواد. فعلى الرغم من تعدد وسائل العرض والأدوات التعليمية المشوقة والجاذبة لدى المعلم في الوقت الحالي، فإن المشكلة في محتوى وعمق بعض المناهج خاصة العلمية، بحيث يخرج الطالب من الحصة وهو مستمتع بالوسائل التعليمية الحديثة، ولكن يعاني من فجوة في المحتوى الذي درسه، وهذه الفجوة إذا لم تسد في الصف سيكون بحاجة إلى مساعدة ولي الامر أو إلى درس خصوصي وإلى مكملات. وهذا ما يمثل تحديا للمدرس خاصة الجديد، حيث يكون بحاجة إلى امتلاك قسط كاف من المعلومات حتى يكون مؤهلا لتدريس المادة. وهذه المشكلة لم تكن موجودة في السابق، حيث إن اغلب الطلبة لم يكونوا بحاجة إلى ذلك الدعم في المنزل. بل حتى لو كان الطالب بحاجة الى مساعدة فإنه لا يجد التسهيلات الحالية والمعاهد والدروس الخصوصية وغيرها. وبالتالي كان مجبرا على ان يتعب نفسه ويجتهد أكثر. في حين ان المنظومة تغيرت حاليا تماما، وأصبح هذا الدعم متاحا بل ومطلبا رئيسيا، بل وحتى مناقشة التقييم ومتابعة الأنشطة وغيرها بات مهمة ولي الامر، وهذا امر غير صحيح، حيث أصبح الطالب متعودا على الاعتماد على ولي الامر في كل شيء. في حين ان الجيل السابق كان يعتمد على نفسه في كل شيء تقريبا. أي أن الامر يرتبط أيضا بالجانب التربوي.
*بصراحة.. هل تفضل ان تدّرس في الجيل القديم ام الوقت الحالي؟
**من الصعب الإجابة عن ذلك لأن لكل مرحلة ظروفها ومميزاتها وعيوبها. ولو كان لي الخيار لعملت خلطة أخذت فيها مميزات كلا الجيلين. فمثلا فيما يتعلق بمكانة المعلم ونظرة المجتمع اليه. كان المعلم يحظى باحترام أكبر سابقا، ولكن الخوف المبالغ من المعلم لم يكن بالأمر الجيد، الى درجة اننا كنا اذا رأينا المعلم في الشارع نهرب منه. وبنفس الوقت عدم وجود حاجز بين المعلم والطالب كما هو الحال الآن أيضا امر غير إيجابي.
أيضا كان للمعلم دور تربوي أكبر سابقا، وهذا ما يشمل العقوبات. وهنا فإن منع الضرب امر ايجابي، ولكن عندما يجب في الوقت نفسه ان نمنح المعلم وسائل أخرى لضبط الطالب وللتربية حتى لا يتحول الى مدرس فقط وليس مربٍ.
استعادة الدور التربوي
محطة أخرى نقف عندها وهو الأستاذ (ج.ج) الذي فضل عدم ذكر اسمه. وهو مدرس متقاعد قضى ردحا من الزمن في التدريس، وعايش الجيل السابق كطالب ومدرس، والجيل الحالي كمدرس. وانطلاقا من ذلك يقارن المنظومة التعليمية من جوانب عدة بدءا من المناهج. وفي هذا يقول:
هناك فرق بين التغيير والتطوير. وما حدث في المناهج هو تغيير وليس تطويرا لأن التطوير يكون للأفضل، وما نلمسه هو أن الموضوعات في بطون الكتب شهدت تراجعا، حيث كانت الكثير من المناهج أكثر مصداقية وعمقا، في حين نجد الكثير من الموضوعات الآن تقحم اقحاما، ونسبة كبيرة من المعلومات سطحية، مما جعل الطالب يحفظ ولا يستوعب أو يقتنع، فضلا عن اقتصار الأمر على التعليم وليس التربية.
اجمالا أصبحت المناهج أصعب خاصة المواد العلمية. ولا ننكر ان بعض المناهج شهدت تطويرا بالفعل مثل الرياضيات.
ثم للنظر إلى دور المعلم نفسه، في السابق كان مربيا يحمل مسؤوليات الاب، ولكنه الان مجرد موظف. كانت للمعلم خارج المدرسة هيبة ورهبة وكان قدوة للطلاب. وكل ذلك تقلص الان بشكل كبير. وللأسف تراجعت هذه الأدوار لم تقتصر على المعلم فحسب وانما شملت حتى رجل الدين والأب. فطبيعة المجتمع تغيرت.
ومما ساهم في تراجع دور ومكانة المعلم هو إدارات المدارس والوزارة نفسها. فللأسف بات المعلم يشعر ان خصمه في العملية التعليمية هي الوزارة وليس الطالب او ولي الأمر. فأي مشكلة تواجه المعلم مع الطالب او ولي الامر لا يشعر ان له ظهرا يستند اليه، في حين ان أي موظف في أي وزارة أخرى يستند الى وزارته. كثير من الحالات التي يرفع ولي امر او حتى طالب صوته على المعلم ويهينه، ولا يجد المعلم من يدافع عنه او يأخذ حقه، وأي شكوى ترفع إلى الوزارة يدان فيها المعلم، وكأن الأمر إرضاء للطلاب أو أولياء الأمور. وبالتالي اهتزت شخصية المعلم وفقد تدريجيا ذلك الاحترام الذي كان يحظى به. فكيف ننتظر منه حماسا وتحفيزا وعطاء؟.
لذلك أنا أؤمن أننا إذا ما أردنا ان نطور المنظومة التعليمية يجب ان نجعل المعلم هو محور العملية التعليمية كما كان في السابق. فأيا كانت ظروف التعليم الحديث كالقول ان الطالب هو محور العملية، ومهما أجرينا تطويرات وتحديثات على المناهج، لا يمكن ان نحقق التطور المنشود من دون انصاف المعلم واستعادة مكانته ودوره التعليمي والتربوي.
*وهل يشمل هذا التغيير السلبي سلوكيات الطلاب وانضباطهم؟
**للأمانة يمكنني القول إن الطلاب في الوقت الحالي يتميزون بجدية أكاديمية أكبر خاصة في المرحلة الثانوية، حيث نلمس حرصا وتسابقا على تحصيل درجات أكبر، وهناك حرص مواز من أولياء الأمور خاصة الأمهات على تحصيل أبنائهم معدلات اعلى. ومما ساهم في ذك هو ان أولياء الأمور باتوا أكثر تعلما، كما أن الفرص الجامعية وطبيعة سوق العمل والفرص الوظيفية تجعل الطالب حريصا على تحقيق معدل أكبر.
*إلى أي مدى ساهمت التكنولوجيا في الارتقاء بقدرات طلاب الجيل الحالي؟
**في الواقع بات الطالب الأكثر تمرسا في التكنولوجيا أكثر قدرة على مواكبة التغيرات. وهذا ما اتضح خلال الجائحة والتعليم عن بعد. حيث كانت الأفضلية للطلاب الذين لديهم خبرة كافية بالأجهزة الحديثة.
ولكن في الجانب الاخر، نجد ان الأجهزة الذكية ساهمت في خلق فجوة بين الطلاب والكتب التقليدية.
أما بالنسبة إلى المناهج فنجد أن هناك مواكبة للثورة التكنولوجية في بعض المناهج بالفعل. ولكن بقيت مناهج أخرى تقليدية لا تواكب هذه التطورات.
*باختصار.. هل تفضل ان تكون مدرسا في الجيل السابق أم الحالي ولماذا؟
** السابق لا شك. فالحنين إلى الماضي الجميل هو الغالب، خاصة إذا ما نظرنا الى مكانة المعلم ودوره في المجتمع وعلاقاته المميزة والعملية التعليمية المثمرة رغم بساطتها.
وربما هناك أسباب أخرى شخصية، منها انني اشعر ان الثورة التكنولوجية أسرع من قدرتي على مواكبتها.
مناهج أكثر تطورا.. ولكن
تساؤلاتنا ناقشناها أيضا مع الأستاذ فلاح السيد حسن هاشم، وهو أستاذ متقاعد، يمتلك من الخبرة العملية ما يجعله قادرا على مقارنة الماضي بالحاضر. وربما تختلف وجهات نظره بعض الشيء عما طرحه الأساتذة في السطور السابقة.
يقول الأستاذ فلاح: يمكنني التأكيد على أن المناهج الحالية هي أفضل من حيث المحتوى والمعلومات بعد أن شهدت تحديثا وتطويرا يواكب الاحتياجات والتطورات. كما باتت العملية التعليمية تتمتع بأساليب وأدوات جديدة وانشطة جذابة. ولكن المشكلة التي تعاني منها هذه المناهج والتي يشكو منها الطلبة وأولياء الأمور هي الحشو المبالغ والكم الكبير الذي يضطر الطالب إلى حفظه. حيث كانت تصلنا الكثير من الملاحظات والشكاوى حتى من المدرسين بشأن تضخم المناهج. ربما ان التطورات تلزم بهذا الشيء نظرا إلى تزايد المعلومات وتسارعها. ولكنها تبقى مشكلة كبيرة في التعليم.
*هل تعتقد ان هذا هو السبب في حاجة الطلاب إلى دروس إضافية خارج المدرسة ودعم في المنزل؟ الامر الذي لم يكن مألوفا في السابق؟
**هذه مشكلة حقيقية تعود بالدرجة الأولى إلى الاتكالية. وحتى أولياء الأمور وأساليب تربيتهم تساهم في تعزيز روح الاتكالية عند أبنائهم وتجعلهم يعتمدون على الدعم أكثر من الجهد الذاتي. والأسوأ من ذلك انهم باتوا يعتمدون على البحوث والأنشطة الجاهزة التي تبيعها المكتبات.
أتذكر عندما كنت مدرسا كنت أقول للطالب ان ورقة واحدة يعدها بجهده الذاتي أفضل من 100 ورقة لبحث جاهز، لأن الهدف من الأنشطة ليس تجميع أوراق وانشطة وانما البحث عن المعلومة. وهذا ما بات للأسف غائبا الى حد كبير في الوقت الراهن على الرغم من توافر التكنولوجيا والأدوات التي تساعد الطالب على جمع المعلومات وتحليلها.
*ماذا عن المعلمين بين الأمس واليوم؟
**على الرغم من أنني مدرس قديم بعض الشيء فإنني اعتقد أن المدرسين الحاليين أكثر كفاءة فيما يتعلق بطرق واليات التدريس خاصة وأن دراسة التعليم باتت أكثر توسعا وتخصصا. وبالتالي بات المدرس يمتلك كفاءة ودراية اكاديمية، بدليل ان الكثير من المدرسين حاصلون على درجة الماجستير.
ولكن هناك جانب اخر هو دور المعلم ومكانته، فللأسف يمكن القول ان المعلم ونتيجة للتغيرات في المجتمع والمنظومة التربوية فقد الكثير من هيبته. وهذا ما يجعل الكثير من المعلمين يفكرون بالتقاعد المبكر ويستغلون اول فرصة لذلك لأن الوضع بالنسبة إلى المعلم سيئ، خاصة فيما يتعلق بتعامل الطلبة مع المعلمين وتراجع احترام الطالب للمعلم.
وللأسف من أسباب هذه المشكلة الإجراءات والقرارات التي تضعها وزارة التربية، ومنها التركيز على التعليم واهمال الجانب التربوي للمعلم. فمثلا نحن لا ندعو الى العقاب البدني، ولكن عندما يشعر الطالب أنه محصن وأن الوزارة تعاقب المعلم قبل الطالب، من الطبيعي ان تنقص قيمة المعلم حتى في الصف. وهنا يكون المعلم غير قادر على القيام بدوره التربوي بل وحتى السيطرة على الصف، وهذا يعتمد على شخصيته وقدراته الخاصة. وربما يعاني الأساتذة غير البحرينيين من هذه المشكلة بشكل أكبر. وكل ذلك يؤثر على الطلاب الجادين وتحصيلهم.
*ماذا عن دور التكنولوجيا في التعليم بين الماضي والحاضر؟
**لا يمكن ان ننكر ان التكنولوجيا خدمت العملية التعليمية بشكل كبير. ومنذ ادخال مشروع جلالة الملك لمدارس المستقبل في التعليم عام 2004 حدثت تطورات متلاحقة في هذا الجانب على الرغم من العوائق والتحديات. وبالتالي باتت عملية التعليم أكثر تشويقا للطالب.
*في السابق كان الحاصل على معدل 85% او 87% يعتبر مميزا ويشار اليه بالبنان، ويحصل على العديد من الفرص الجامعية. في حين ان عدد الحاصلين على أكثر من 95% اليوم كبير الى درجة ان الكثير منهم لا يحصلون على التخصصات التي يحلمون بها. هل يمثل ارتفاع المعدلات نموا في قدرات الطلاب؟ أم هناك اسباب أخرى في رأيك؟
**هناك عدة عوامل وأسباب لهذا الأمر، منها رغبة وزارة التربية والتعليم نفسها في ارتفاع التقييم مهما كانت النتائج أو العوامل. فمثلا في فترة من الفترات كانت الوزارة تعاتب المدارس على ضعف نتائج الطلاب. وهذا ما يجعل المعلم مضطرا إلى رفع الدرجات حتى لو لم يكن الطالب مستحقا لها، وذلك إرضاء للوزارة.
ومن جانب اخر، فإن أسلوب التقييم اختلف عن السابق، واختلفت الاليات والمعايير والمخطط التقييمي، حيث كان يعتمد بشكل كبير على جهد الطالب في الصف وعلى الامتحانات والانضباط. في حين دخلت الآن عوامل كثيرة، منها الأنشطة والبحوث والمشاركات الخارجية. وبالتالي يلتزم المعلم بالمخطط الذي أمامه.
لذلك لا ننكر ان التكنولوجيا الحالية وتطور المناهج والأساليب الدراسية ساهمت في تطوير قدرات الطلاب خاصة المجتهدين، ولكن بلوغ النتائج الى هذا المستوى بحيث أن عدد من يحصلون على معدلات 98% و99% كبير، هو أمر يدعو الى الحيرة ويضع الكثير من علامات الاستفهام!
*لو منحتك الظروف فرصة الاختيار بين التدريس للجيل الماضي او الحاضر. أين تجد نفسك؟
** بالتأكيد اختار الجيل القديم لأنه جيل يحترم المعلم ويقدر دوره. وحتى أولياء الأمور يحترمون المعلم ويعتبرونه مربيا له قيمة ومكانة اجتماعية. وشخصيا درست جيل الثمانينيات والاجيال اللاحقة، وألمس الفارق الكبير في هذا الجانب.
جهود كبيرة
محطتنا الأخيرة في الجزء الأول من الموضوع كانت مع أستاذة لها باع طويل في التدريس، وعشقت المهنة رغم صعوباتها. حتى اضطرت الى التقاعد. (فضلت عدم ذكر اسمها).
في حديث ودي معها سألناها عن رأيها في التعليم اليوم مقارنة بالجيل السابق.
وربما كانت نبرة الحسرة والحنين الى التدريس كافية لتعبر عن شوقها الى تلك الأيام. قالت محدثتنا: بالطبع شهدت المنظومة التعليمية تطورات هائلة تواكب الاحتياجات والتطورات في جميع المجالات. ولكن هناك جوانب كان فيها للأسف تراجع. وفي مقدمتها الدور التربوي للمعلم. فاليوم اغلب المعلمين يشعرون ان التدريس وظيفة، وهي وظيفة صعبة وشاقة. في حين كنا في السابق نعتبرها هواية وحبا ودورا اجتماعيا وتربويا نمارسه. وكانت لدينا صلاحيات الاب والام في التربية والتعليم. وكانت التربية فعلا تسبق التعليم.
كنا نندهش ونقف مشدوهين عندما نسمع خبرا عن مشاجرة بين طالب ومدرس. وكان الآباء يوبخون أبناءهم إذا ما بدا منهم أي تصرف مسيء تجاه المعلم.
ومع استمرار الكثير من العائلات على هذا النهج، الا اننا للأسف نجد ان العلاقة في كثير من الأحيان تحولت الى اشبه بالندية بين المدرس وأولياء الأمور.
من جانب اخر، شهدت الكتب والمناهج تطورات كبيرة. ولكنها باتت محشوة بالمعلومات التي تتعب الطالب منذ المرحلة الابتدائية. وتحوله الى آلة حفظ أكثر من استيعاب وفهم. وحتى مناهج الأول والثاني ابتدائي باتت تعج بالمعلومات التي ترهق الأطفال وتجعل الكثير منهم ينفرون من الصف الدراسي ومن المدرسة.
ولكننا أمام ذلك كله نقف احتراما للجهود التي تبذلها وزارة التربية والتعليم خاصة امام التحديات الجمة التي تواجهها، ومنها تزايد اعداد الطلبة بشكل كبير والضغط المتزايد على الخدمات التعليمية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك