العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقالات

من جحيم غزة: كيف يتحايل الفلسطينيون على الموت

بقلم: هيّا فريج

الأحد ٠٥ نوفمبر ٢٠٢٣ - 02:00

,, نستيقظ مرة أخرى.. ونطلع مع الصباح من تحت الركام والدمار.. باقون رغم بطش الغزاة ,,

 

يخترع‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬أساليبَ‭ ‬مبتكرة؛‭ ‬لحماية‭ ‬أبنائهم‭ ‬الأبرياء‭ ‬من‭ ‬الهجمات‭ ‬الصاروخية‭ ‬الجوية‭ ‬والبحرية‭ ‬والبريّة،‭ ‬بعض‭ ‬العائلات‭ ‬تقترح‭ ‬نوم‭ ‬أفرادها‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬الصالون‭. ‬أمي‭ ‬دائمًا‭ ‬تصرّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أنام‭ ‬في‭ ‬الصالون؛‭ ‬ظناً‭ ‬منها‭ ‬أنه‭ ‬المكان‭ ‬الأكثر‭ ‬أمانًا،‭ ‬أعلل‭ ‬رفضي‭ ‬لها‭ ‬بأني‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أنام‭ ‬على‭ ‬سريري‭ ‬وحدي،‭ ‬وأريد‭ ‬أن‭ ‬أموت‭ ‬وحيدة،‭ ‬وأن‭ ‬أُبعث‭ ‬وحدي‭ ‬دون‭ ‬إزعاج‭. ‬

والحقيقة‭ ‬أنّ‭ ‬الأمان‭ ‬خدعة،‭ ‬لكن‭ ‬الأمهات‭ ‬يخترعن‭ ‬حِيَلَهنّ‭ ‬لحماية‭ ‬أبنائهنّ‭... ‬ففي‭ ‬بلد‭ ‬الموت‭ ‬والشقاء‭ ‬تخترقُ‭ ‬الصواريخ‭ ‬الجدران،‭ ‬وتفتّت‭ ‬العمارات،‭ ‬وتهدّ‭ ‬البيوت‭ ‬على‭ ‬الرؤوس‭ ‬إن‭ ‬شاءت‭. ‬

عائلاتٌ‭ ‬أخرى‭ ‬تقرر‭ ‬أن‭ ‬توزّع‭ ‬أفراد‭ ‬عائلتها‭ ‬في‭ ‬الغرف؛‭ ‬كي‭ ‬تكتب‭ ‬النجاة‭ ‬لسعداء‭ ‬الحظ‭ ‬من‭ ‬بينهم،‭ ‬آخرون‭ ‬يظنون‭ ‬النجاة‭ ‬في‭ ‬الجلوس‭ ‬على‭ ‬الأدراج،‭ ‬مقترحين‭ ‬أنه‭ ‬المكان‭ ‬الأكثر‭ ‬حصانة‭ ‬ضد‭ ‬الصواريخ‭! ‬

لكنّ‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الطرائق‭ ‬لا‭ ‬تمنع‭ ‬قضاء‭ ‬الله،‭ ‬ولا‭ ‬تعني‭ ‬توفير‭ ‬الحماية‭ ‬لأصحابها،‭ ‬فآلة‭ ‬الحرب‭ ‬الهمجية‭ ‬تسحق‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬في‭ ‬البيوت،‭ ‬وتنسف‭ ‬الدور،‭ ‬وتحطم‭ ‬الزجاج،‭ ‬وتهدّ‭ ‬العمارات‭ ‬فوق‭ ‬رؤوس‭ ‬ساكنيها،‭ ‬ولا‭ ‬يبقى‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يلاطم‭ ‬بكفّه‭ ‬المخرز‭. ‬

ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أحدد‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬حظّه‭ ‬سعيدًا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬ناجيًا‭ ‬على‭ ‬المجزرة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬شقاءه‭ ‬سيكون‭ ‬أبديًّا‭ ‬حين‭ ‬يخرج‭ ‬ناجيًا‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬فقدان‭ ‬عائلته،‭ ‬ووحيدًا‭ ‬دون‭ ‬أهله‭ ‬وبيته‭ ‬وذكرياته‭.‬‮ ‬

في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر‭ ‬كنت‭ ‬أسخر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المحاولات؛‭ ‬لكنني‭ ‬تأكدت‭ ‬متأخرًا‭ ‬أنها‭ ‬وسيلة‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬ونوعه،‭ ‬إنها‭ ‬غريزة‭ ‬البقاء‭.‬‮ ‬

من‭ ‬المحاولات‭ ‬العجيبة‭ ‬للإنسان‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬بقائه‭ ‬هو‭ ‬تحويل‭ ‬الحزن‭ ‬والألم‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬آخر،‭ ‬أنا‭ ‬أحترف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬صنع‭ ‬الضحك،‭ ‬الضحك‭ ‬من‭ ‬اللاشيء،‭ ‬بديلًا‭ ‬عن‭ ‬البكاء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬‮ ‬

لا‭ ‬تستغربوا،‭ ‬نحن‭ ‬نصنع‭ ‬الكوميديا‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬التراجيديا،‭ ‬نحن‭ ‬نبكي،‭ ‬ونخاف،‭ ‬لكننا‭ ‬نأكل‭ ‬ونضحك‭!‬‮ ‬

ونحن‭ ‬تحت‭ ‬النار،‭ ‬نتعجب‭ ‬كيف‭ ‬يكيل‭ ‬العالم‭ ‬بمكيالين،‭ ‬وكيف‭ ‬تتعامل‭ ‬الدول‭ ‬معنا،‭ ‬فالعالم‭ ‬يتهمنا‭ ‬بالإرهاب؛‭ ‬لأنّ‭ ‬غزة‭ ‬فكرت‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬جدار‭ ‬مقام‭ ‬على‭ ‬أرضها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬عاماً،‭ ‬ولأنهم‭ ‬فكروا‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يتخذوا‭ ‬خطوة‭ ‬الهجوم،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يكتفوا‭ ‬بالدفاع،‭ ‬وتلقي‭ ‬الصدمات‭.‬

وأكثر‭ ‬ما‭ ‬جعلنا‭ ‬نضحك‭ ‬الكذبة‭ ‬المفتراة‭ ‬على‭ ‬غزة‭ ‬بالاغتصاب،‭ ‬والقتل،‭ ‬والحرق،‭ ‬وكأنّ‭ ‬غزة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النازيين،‭ ‬الذين‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬المتحضر‭ ‬ألّا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالامتناع‭ ‬عن‭ ‬المطالبة‭ ‬بوقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬عليهم،‭ ‬وإنما‭ ‬أن‭ ‬يوافق‭ ‬المحتل‭ ‬على‭ ‬حرقهم‭ ‬وإبادتهم‭.‬

‮ ‬لكنّ‭ ‬هذا‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المصرّ‭ ‬على‭ ‬الحياة،‭ ‬المواجه‭ ‬لكلّ‭ ‬طغاة‭ ‬العصر،‭ ‬صار‭ ‬الموقف‭ ‬العربي‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬الأكثر‭ ‬استفزازًا،‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬الذي‭ ‬يعمّق‭ ‬الإهانة‭ ‬للفلسطيني‭ ‬المدافع‭ ‬عن‭ ‬كرامة‭ ‬الأمة‭.‬

‮ ‬

كيف‭ ‬تتشكل‭ ‬مشاعرك‭ ‬تحت‭ ‬القصف؟

ونحن‭ ‬تحت‭ ‬القصف‭ ‬نتلقى‭ ‬القنابل‭ ‬والصواريخ‭ ‬مقطوعين‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬تعتمل‭ ‬مشاعرنا‭ ‬وتختلط؛‭ ‬فإن‭ ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬أضعنا‭ ‬حساب‭ ‬الأيام‭ ‬والتواريخ‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬لنا‭ ‬سوى‭ ‬إحصاء‭ ‬ضحايانا‭ ‬وجرحانا،‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تختلط‭ ‬مشاعري‭ ‬الى‭ ‬حد‭ ‬يضيع‭ ‬فيه‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الخطأ‭ ‬والصواب‭. ‬رغم‭ ‬أصداء‭ ‬التضامن‭ ‬التي‭ ‬تصلنا،‭ ‬أتمنى‭ ‬ان‭ ‬أكون‭ ‬مخطئة‭ ‬عندما‭ ‬اشعر‭ ‬أن‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬باتت‭ ‬سواء‭ ‬للعرب‭ ‬أو‭ ‬العالم‭- ‬قضية‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وحدهم،‭ ‬وهم‭ ‬مصدر‭ ‬قلق‭ ‬وإزعاج‭ ‬للمنطقة،‭ ‬وينبغي‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يبحثوا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬للاستسلام،‭ ‬يضمن‭ ‬للعرب‭ ‬نومًا‭ ‬هانئًا،‭ ‬لا‭ ‬يقطعه‭ ‬صراخ‭ ‬طفل‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض،‭ ‬ولا‭ ‬ولولة‭ ‬أمّ‭ ‬على‭ ‬جثة‭ ‬ابنها،‭ ‬ولا‭ ‬رثاء‭ ‬أبٍ‭ ‬لابنه،‭ ‬ولا‭ ‬نحيب‭ ‬طفلة‭ ‬على‭ ‬أخيها‭..‬‮ ‬هذا‭ ‬يزيد‭ ‬الألم‭ ‬أضعافًا‭ ‬مضاعفةً‭.‬

إنّ‭ ‬العدوان المستمر‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬لا‭ ‬توقفه‭ ‬بيانات‭ ‬الدول،‭ ‬ولا‭ ‬تقارير‭ ‬منظمات‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬رغم‭ ‬تقديرنا‭ ‬العالي‭ ‬لنوايا‭ ‬اصحابها،‭ ‬إذ‭ ‬يزداد‭ ‬عنفًا‭ ‬وشراسة‭ ‬وضراوة،‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬البيوت‭ ‬بتنا‭ ‬لا‭ ‬نحصل‭ ‬على‭ ‬دقيقة‭ ‬واحدة‭ ‬دون‭ ‬قصف‭ ‬مدفعي‭ ‬أو‭ ‬جوي‭ ‬أو‭ ‬بحري،‭ ‬حتى‭ ‬الهواء‭ ‬الذي‭ ‬نتنفسه‭ ‬صار‭ ‬ملوثًا‭ ‬وخانقًا‭ ‬ومليئًا‭ ‬بالغبار‭ ‬والأتربة‭ ‬بفعل‭ ‬القصف‭ ‬المتواصل‭ ‬على‭ ‬البيوت‭ ‬والأراضي‭ ‬الزراعية،‭ ‬والجو‭ ‬صار‭ ‬يعبق‭ ‬برائحة‭ ‬البارود‭ ‬القاتلة،‭ ‬والفوسفور‭ ‬الأبيض‭ ‬الحارق‭ ‬الذي‭ ‬نشُمّه‭ ‬ونراه‭.‬‮ ‬

الكل‭ ‬ينظر‭ ‬مستمتعًا‭ ‬للمسرحية‭ ‬المعروضة‭ ‬بالبكاء‭ ‬والحزن،‭ ‬أبطالها‭ ‬الأراجوزات‭ ‬في‭ ‬غزة‭! ‬وآخرون‭ ‬يظنون‭ ‬في‭ ‬مأساة‭ ‬غزة‭ ‬وكارثتها‭ ‬مسلسلًا‭ ‬دمويًّا‭ ‬أو‭ ‬فيلم‭ ‬أكشن‭ ‬يتفاعلون‭ ‬معه،‭ ‬ويندمجون‭ ‬وفي‭ ‬أيديهم‭ ‬صنوف‭ ‬المُتَع‭...!‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العدوان‭ ‬البغيض‭ ‬السافر‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الأبرياء‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬تتصاعد‭ ‬وتيرته‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬ويدفع‭ ‬ثمنه‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬من‭ ‬دمهم‭ ‬وأولادهم‭ ‬وأبنائهم‭ ‬وبيوتهم‭ ‬وأرزاقهم‭.‬‮ ‬

ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬الجميع‭ -‬شعوبًا‭ ‬وحكومات‭- ‬أمام‭ ‬مسؤوليتهم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والدينية‭ ‬والقومية،‭ ‬وأن‭ ‬يجبروا‭ ‬هذا‭ ‬المحتل‭ ‬على‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار،‭ ‬ثم‭ ‬محاسبة‭ ‬المجرمين‭ ‬على‭ ‬الجرائم‭ ‬المرتكبة،‭ ‬رحمةً‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬مليوني‭ ‬فلسطيني‭ ‬تحت‭ ‬لهيب‭ ‬النار،‭ ‬ومجازر‭ ‬الإبادة،‭ ‬ومحاولات‭ ‬التجويع‭ ‬والتركيع‭ ‬والاقتلاع‭.‬

 

الهروب‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬تحت‭ ‬القصف

وسط‭ ‬النار،‭ ‬يلتزم‭ ‬الرجال‭ ‬الصمت،‭ ‬حاملين‭ ‬مسبحتهم،‭ ‬يسبحون‭ ‬ويحوقلون‭ ‬ويتحسبون،‭ ‬وفي‭ ‬الليل‭ ‬يرفعون‭ ‬أيديهم‭ ‬بالصلاة‭ ‬والدعاء،‭ ‬أما‭ ‬النساء‭ ‬فينشغلن‭ ‬في‭ ‬أعمالهن‭.‬‮ ‬

يبدو‭ ‬أننا‭ ‬نحن‭ ‬النساء‭ ‬نتجه‭ ‬إلى‭ ‬أشغال‭ ‬البيت؛‭ ‬تخفيفًا‭ ‬من‭ ‬الوطأة‭ ‬الثقيلة‭ ‬لمشاعر‭ ‬الخوف،‭ ‬وهربًا‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬بالجزع‭ ‬والقنوط‭. ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الأعمال‭ ‬تتفرغ‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬لتلاوة‭ ‬القرآن‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬حتى‭ ‬ساعات‭ ‬الليل،‭ ‬أسمع‭ ‬دعاءهن‭ ‬بستر‭ ‬العورات،‭ ‬وأمن‭ ‬الروعات،‭ ‬وحماية‭ ‬الأبناء،‭ ‬والأمان‭ ‬في‭ ‬البيوت‭ ‬والأوطان‭.‬‮ ‬

‮ ‬آمل‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يمنحني‭ ‬إيمانهن‭ ‬وقنوتهن‭ ‬الذي‭ ‬يصبّرهن‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النوازل‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نعهدها‭ ‬يومًا‭.‬‮ ‬

‮ ‬أما‭ ‬أنا،‭ ‬فمنذ‭ ‬فترةٍ‭ ‬ليست‭ ‬بالقصيرة‭ ‬صرت‭ ‬أشبه‭ ‬الأمهات‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأشياء،‭ ‬منها‭: ‬القلق‭ ‬الدائم،‭ ‬والشعور‭ ‬بالمسؤولية‭.‬

أستيقظ‭ ‬لأطمئن‭ ‬على‭ ‬العائلة،‭ ‬أصنع‭ ‬الفطور‭ ‬والشاي،‭ ‬أنظف‭ ‬البيت،‭ ‬أتذمر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬ومن‭ ‬غبار‭ ‬القصف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التخلص‭ ‬منه‭ ‬رغم‭ ‬التنظيف‭ ‬المستمر،‭ ‬أهرب‭ ‬من‭ ‬تنخيل‭ ‬العجين،‭ ‬وإيقاد‭ ‬النار،‭ ‬وأتحجج‭ ‬بأني‭ ‬أكره‭ ‬النار،‭ ‬وأعاني‭ ‬من‭ ‬الصداع‭.‬‮ ‬

أنزوي‭ ‬في‭ ‬مطبخي؛‭ ‬لأصنع‭ ‬طعام‭ ‬الغداء‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬مع‭ ‬فنجان‭ ‬قهوتي،‭ ‬الذي‭ ‬أتجرعه،‭ ‬وأنا‭ ‬أسمع‭ ‬القصف‭ ‬المستمر،‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬أعرف‭ ‬خبرًا‭ ‬بعد‭ ‬انقطاع‭ ‬الإنترنت‭ ‬والكهرباء‭.‬‮ ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬عندي‭ ‬مهام‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭: ‬أن‭ ‬أقف‭ ‬على‭ ‬دوري‭ ‬في‭ ‬شحن‭ ‬هاتفي،‭ ‬وسط‭ ‬شواحن‭ ‬جوالات‭ ‬الحارة،‭ ‬وأن‭ ‬أنتظر‭ ‬شحن‭ ‬البطاريات‭ ‬على‭ ‬الموتور؛‭ ‬ليتسنى‭ ‬لي‭ ‬تشغيل‭ ‬التلفاز‭ ‬عليها؛‭ ‬لمشاهدة‭ ‬نشرات‭ ‬الأخبار‭ ‬التي‭ ‬تنقل‭ ‬مشاهد‭ ‬الدم‭ ‬والركام‭.‬

كما‭ ‬أتسلى‭ ‬بغسيل‭ ‬الملابس‭ ‬على‭ ‬اليد،‭ ‬فالغسّالات‭ ‬أصبحت‭ ‬رفاهية‭ ‬لا‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬أبناء‭ ‬الذوات‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬والصعود‭ ‬إلى‭ ‬السطح‭ ‬في‭ ‬الطابق‭ ‬الرابع؛‭ ‬لنشرها‭ ‬على‭ ‬الحبال‭. ‬أمي‭ ‬توصيني‭ ‬بتغطية‭ ‬شعري،‭ ‬بالترغيب‭ ‬والترهيب‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬دون‭ ‬غطاء،‭ ‬وأنا‭ ‬أقول‭ ‬لها‭ ‬إنّهم‭ ‬قد‭ ‬ستروا‭ ‬الأسيرات،‭ ‬حتمًا‭ ‬سيغطيني‭ ‬الشباب‭ ‬بعد‭ ‬موتي‭.‬‮ ‬

يحاولون‭ ‬تخويفي‭ ‬من‭ ‬القناصة‭ ‬المتمركزين‭ ‬على‭ ‬البنايات‭ ‬العالية‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬‮«‬التوام‮»‬‭ ‬غرب‭ ‬جباليا،‭ ‬بعد‭ ‬الاجتياح‭ ‬البري،‭ ‬لكنّني‭ ‬لا‭ ‬أخاف،‭ ‬وأقول‭ ‬مازحة‭: ‬‮«‬قناصة‭ ‬مش‭ ‬قناصة؛‭ ‬ارجع‭ ‬ورا‭ ‬خلي‭ ‬حماس‭ ‬تطخني‮»‬،‭ ‬في‭ ‬تذكير‭ ‬ساخر‭ ‬بفيديو‭ ‬دحلان‭ ‬الشهير‭ ‬أيام‭ ‬انقلاب‭ ‬غزة‭ (‬محمد‭ ‬دحلان؛‭ ‬المسؤول‭ ‬الأمني‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬الفلسطينية‭).‬‮ ‬والحق‭ ‬أقول‭ ‬لكم‭ ‬إن‭ ‬طلوعي‭ ‬على‭ ‬السطح‭ ‬يعني‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أخبار‭ ‬الباقين‭ ‬من‭ ‬الحيّ‭:‬‮ ‬

قُصِف‭ ‬منزل‭ ‬جارنا‭ ‬المقابل‭ ‬لنا،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يعودوا‭ ‬إليه‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬مازال‭ ‬غسيلهم‭ ‬باقيًا‭ ‬على‭ ‬الحبال‭.‬‮ ‬

‮ ‬جاري‭ ‬في‭ ‬العمارة‭ ‬المقابلة‭ ‬يصلح‭ ‬بعض‭ ‬الأسلاك‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬يحاول‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬إشارة‭ ‬التلفاز‭.‬‮ ‬

جارتي‭ ‬تنشر‭ ‬ملابس‭ ‬ملوّنة‭ ‬وكثيرة‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬العادة،‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬أهلها‭ ‬قد‭ ‬جاء‭ ‬نازحًا‭.‬‮ ‬

جاري‭ ‬في‭ ‬المبنى‭ ‬الخلفي‭ ‬يتفقد‭ ‬خزّانات‭ ‬المياه،‭ ‬نأمل‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬أصابتها‭ ‬الشظايا؛‭ ‬لأن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬صار‭ ‬أصعب‭ ‬من‭ ‬التنقيب‭ ‬عن‭ ‬النفط‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭.‬

جارتي‭ ‬في‭ ‬المبنى‭ ‬نفسه‭ ‬مازالت‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬تشرب‭ ‬قهوتها‭ ‬على‭ ‬الشرقة،‭ ‬وملامح‭ ‬وجهها‭ ‬تشي‭ ‬بالخوف‭ ‬والحزن،‭ ‬كلنا‭ ‬نشترك‭ ‬في‭ ‬الخوف‭ ‬نفسه‭.‬‮ ‬

جاراتي‭ ‬في‭ ‬المبنى‭ ‬المجاور‭ ‬غادرن‭ ‬إلى‭ ‬الجنوب،‭ ‬لم‭ ‬أعدْ‭ ‬أسمع‭ ‬شتائمهن‭ ‬لأبنائهن،‭ ‬ولا‭ ‬خلافاتهنّ‭ ‬مع‭ ‬أزواجهن‭.‬

صعودي‭ ‬إلى‭ ‬السطح‭ ‬يعني‭ ‬أيضًا‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أخبار‭ ‬أماكن‭ ‬القصف،‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الأحياء‭ ‬مثل‭ ‬وائل‭ ‬الدحدوح‭ (‬مراسل‭ ‬قناة‭ ‬الجزيرة‭ ‬في‭ ‬غزة‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬تصفني‭ ‬أختي،‭ ‬وأدلهم‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬تبعًا‭ ‬للرصد‭!‬‮ ‬

تتعجب‭ ‬أختي‭ ‬من‭ ‬معرفتي،‭ ‬أعلّل‭ ‬ذلك‭ ‬بالذكاء‭ ‬المكاني،‭ ‬والموهبة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أستغلها،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬صحفية‭ ‬لولا‭ ‬معارضة‭ ‬الأهل،‭ ‬وهذه‭ ‬وسيلة‭ ‬منّي‭ ‬لاستعراض‭ ‬القوة‭ ‬على‭ ‬أخواتي،‭ ‬ونبش‭ ‬الماضي‭ ‬وتذكير‭ ‬أهلي‭ ‬ببقية‭ ‬الحلم‭ ‬الذي‭ ‬راح‭ ‬منّي‭ ‬في‭ ‬غمرة‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭.‬‮ ‬

الحقيقة‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬غزة‭ ‬بكتلها‭ ‬الإسمنتية‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬البلاد‭ ‬هي‭ ‬شبر‭ ‬ونصف،‭ ‬يمكن‭ ‬للمقيم‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬أخبارها،‭ ‬وأماكنها،‭ ‬وأسماء‭ ‬أحيائها،‭ ‬والعوائل‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬فيها‭.‬

أعترف‭ ‬أن‭ ‬لدي‭ ‬طاقة‭ ‬سلبية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتفرغ،‭ ‬وإلا‭ ‬وزعتُها‭ ‬على‭ ‬الحيّ‭ ‬الذي‭ ‬سيسمع‭ ‬صراخي‭ ‬وبكائي؛‭ ‬لذلك‭ ‬أنا‭ ‬مثل‭ ‬أسدٍ،‭ ‬يعملُ‭ ‬بجدٍّ،‭ ‬ولا‭ ‬يخاف‭ ‬شيئًا‭ ‬في‭ ‬النهار‭ ‬فقط،‭ ‬وإذا‭ ‬حلّ‭ ‬الليل‭ ‬فإنني‭ ‬ألف‭ ‬جسدي‭ ‬الذي‭ ‬يصبح‭ ‬قنفذًا‭ ‬يتكوّر‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬خوفًا،‭ ‬ويندبُ‭ ‬حال‭ ‬غزة‭ ‬بصمت‭ ‬الباكي‭ ‬المترقّب‭ ‬المتوجّس‭ ‬خيفةً‭.‬

‮ ‬لم‭ ‬نعهد‭ ‬حربًا‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬ولم‭ ‬نخف‭ ‬يومًا‭ ‬كما‭ ‬صرنا‭ ‬نخاف‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬لكننا‭ ‬عفاريت‭ ‬نستيقظ‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬ونطلع‭ ‬مع‭ ‬الصباح‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الركام‭ ‬والدمار،‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬غزة‭ ‬المعهود‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬رغم‭ ‬بطش‭ ‬الغزاة‭.‬

وهذه‭ ‬الحرب،‭ ‬تثقل‭ ‬القلب،‭ ‬وتُصدئ‭ ‬الروح،‭ ‬وتذيب‭ ‬الجسد‭.‬‮ ‬وهذه‭ ‬الحكاية‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬إذا‭ ‬كتبت‭ ‬لنا‭ ‬الحياة‭.‬

 

 

‮ ‬{‭ ‬باحثة‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬غزة‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا