العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٥ - الاثنين ٠٢ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠١ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقالات

تاريخ ونشأة التخطيط الاستراتيجي

بقلم: د. حمد إبراهيم العبدالله.

الأحد ١٥ أكتوبر ٢٠٢٣ - 02:00

لعب‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬دورًا‭ ‬مهما‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬وقد‭ ‬تشكلت‭ ‬مفاهيمه‭ ‬وتطورت‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬المعارك‭ ‬والصراعات‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬بين‭ ‬الأمم،‭ ‬وكان‭ ‬عاملًا‭ ‬حاسمًا‭ ‬في‭ ‬نهضتها‭ ‬وبلوغها‭ ‬لأهدافها،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الخطط‭ ‬التي‭ ‬رسمت‭ ‬مسار‭ ‬الحروب‭ ‬والنزاعات‭ ‬شهدت‭ ‬معها‭ ‬تطور‭ ‬التفكير‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬الذي‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬حسم‭ ‬هذه‭ ‬الصراعات‭ ‬لمصلحة‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬مفاتيح‭ ‬وأسرار‭ ‬التفكير‭ ‬الاستراتيجي‭.‬

وتعود‭ ‬جذور‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الاستراتيجية‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬العسكرية‭ ‬وتحديدًا‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬قدامى‭ ‬الإغريق‭ ‬في‭ ‬أثينا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬ستراتيجوس‮»‬‭ ‬بالمفرد‭ ‬و«ستراتيجوي‮»‬‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الجمع،‭ ‬يرمز‭ ‬لقائد‭ ‬الجيش،‭ ‬وتوجد‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الشواهد‭ ‬التي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المصطلح‭ ‬كان‭ ‬شائعًا‭ ‬منذ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬الرتبة‭ ‬العسكرية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬والعسكري،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬صاحبها‭ ‬له‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬منصبٍ‭ ‬سياسيٍ‭ ‬كحاكمٍ‭ ‬عسكري،‭ ‬ومن‭ ‬أبرز‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بيريكليس‭ ‬من‭ ‬أثينا‭ ‬الذي‭ ‬جمع‭ ‬بين‭ ‬السياسة‭ ‬والعسكرية‭.‬

واليوم‭ ‬يُعرف‭ ‬الخبراء‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬ستانلي‭ ‬كي‭. ‬ريدجلي‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬دريكسل‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الاستراتيجية‮»‬‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬طريقةٌ‭ ‬أو‭ ‬خطةٌ‭ ‬نُصممها‭ ‬لتحقيق‭ ‬المستقبل‭ ‬المنشود‭ ‬مثل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬هدفٍ‭ ‬بعينه‭ ‬أو‭ ‬حل‭ ‬مشكلةٍ‭ ‬ما،‭ ‬حيث‭ ‬تقوم‭ ‬بتقييم‭ ‬الموارد‭ ‬اللازمة‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تخصيصها‭ ‬للاستخدام‭ ‬الأمثل‭ ‬والأكثر‭ ‬فعالية‭ ‬وكفاءة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬توقع‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬المنافسين‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬عرفها‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬فن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬بيئةٍ‭ ‬مُتغيرةٍ‭ ‬باستمرار،‭ ‬سواءً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستجابة‭ ‬لتلك‭ ‬البيئة‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهدافنا‭ ‬أو‭ ‬محاولة‭ ‬تغيير‭ ‬تلك‭ ‬البيئة‭ ‬لمصلحتنا‭ ‬حيثما‭ ‬أمكن‭ ‬ذلك‮»‬‭.‬

وتعود‭ ‬جذور‭ ‬وأساسيات‭ ‬علم‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للعسكرية،‭ ‬فقد‭ ‬غدا‭ ‬علم‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬اليوم‭ ‬جزءًا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬صنع‭ ‬السياسة،‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬والرياضة،‭ ‬وإدارة‭ ‬المؤسسات،‭ ‬وقد‭ ‬برع‭ ‬عبر‭ ‬مر‭ ‬الأزمنة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬القديم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القادة‭ ‬العسكريين‭ ‬الذين‭ ‬أثبتوا‭ ‬جدارتهم‭ ‬في‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬العسكري‭ ‬مثل‭ ‬القائد‭ ‬القرطاجي‭ ‬هانيبال‭ (‬247‭ ‬‭ ‬181‭ ‬ق‭.‬م‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬لقبه‭ ‬المؤرخ‭ ‬الأمريكي‭ ‬ثيودور‭ ‬ايرولت‭ ‬دودج‭ ‬بلقب‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الاستراتيجية‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬بزغ‭ ‬نجمه‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬معارك‭ ‬عسكرية‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أبرزها‭ ‬معركة‭ ‬كاناي‭ ‬عام‭ ‬216‭ ‬ق‭.‬م‭ ‬ضد‭ ‬الرومان‭.‬

كما‭ ‬لمع‭ ‬نجم‭ ‬القائد‭ ‬الروماني‭ ‬الشهير‭ ‬يوليوس‭ ‬قيصر‭ (‬100‭ ‬‭ ‬44‭ ‬ق‭.‬م‭) ‬في‭ ‬عدة‭ ‬مواقع‭ ‬عسكريةٍ‭ ‬خاصةً‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الرومانية‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬جاليونيوس‭ ‬بومينيوس،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬تفوق‭ ‬الأخير‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬والعتاد،‭ ‬وغدت‭ ‬خططه‭ ‬المُتبعة‭ ‬أثناء‭ ‬ذلك‭ ‬النزاع‭ ‬تُدرس‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬

ومن‭ ‬أوائل‭ ‬من‭ ‬قام‭ ‬بتدوين‭ ‬أبرز‭ ‬التكتيكات‭ ‬المُتبعة‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يعتبره‭ ‬البعض‭ ‬تأسيسًا‭ ‬لما‭ ‬عُرف‭ ‬بعلم‭ ‬أو‭ ‬فن‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬كان‭ ‬الصيني‭ ‬سون‭ ‬زو،‭ ‬والذي‭ ‬يُنسب‭ ‬إليه‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الحرب‮»‬،‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬حتى‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬وهناك‭ ‬مجموعةٌ‭ ‬من‭ ‬المُتخصصين‭ ‬الذي‭ ‬شككوا‭ ‬في‭ ‬هوية‭ ‬سون‭ ‬زو‭ ‬وطرحوا‭ ‬عدة‭ ‬تساؤلاتٍ‭ ‬حوله،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فمن‭ ‬الأرجح‭ ‬أن‭ ‬سون‭ ‬زو‭ ‬شخصيةٌ‭ ‬حقيقيةٌ‭ ‬جابت‭ ‬الأرض،‭ ‬ويُعتقد‭ ‬أنه‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬العسكرية‭ ‬لصالح‭ ‬حاكم‭ ‬منطقةٍ‭ ‬عُرفت‭ ‬حينها‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬وو‮»‬،‭ ‬وتقع‭ ‬شرق‭ ‬الصين‭.‬

والكتاب‭ ‬سبق‭ ‬زمانه‭ ‬في‭ ‬المحتوى،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬أشهر‭ ‬أقواله‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الفن‭ ‬الأسمى‭ ‬للحرب‭ ‬هو‭ ‬إخضاع‭ ‬العدو‭ ‬دون‭ ‬قتال‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يُركز‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬المنسوب‭ ‬إليه‭ ‬على‭ ‬مسألة‭ ‬استخدام‭ ‬ذكاء‭ ‬الفرد‭ ‬لهزيمة‭ ‬عدوه‭ ‬بدلًا‭ ‬من‭ ‬القوة،‭ ‬وبين‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬الخطط‭ ‬الموضوعة‭ ‬مبدئية‭ ‬وقابلة‭ ‬للتغيير‭ ‬بحسب‭ ‬الظروف،‭ ‬فغدا‭ ‬علم‭ ‬الحرب‭ ‬فلسفةً‭ ‬ينهل‭ ‬من‭ ‬علمها‭ ‬من‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬الذات‭ ‬واكتساب‭ ‬تفوقٍ‭ ‬على‭ ‬خصمه‭.‬

ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬بعدها‭ ‬عن‭ ‬المؤرخ‭ ‬الإغريقي‭ ‬ثيوسيديدس‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬إسهاماتٌ‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬اللبنات‭ ‬الأولى‭ ‬لعلم‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬فلم‭ ‬يكتفِ‭ ‬بسرد‭ ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬وتدوينها‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬سعى‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬تحليلها،‭ ‬ويُعتبر‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬تبنى‭ ‬منهجًا‭ ‬علميًا‭ ‬للتحقيق‭ ‬في‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية‭ ‬أثناء‭ ‬تناوله‭ ‬الحرب‭ ‬البلويونيزية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬شاهدًا‭ ‬عليها‭ ‬بين‭ ‬أثينا‭ ‬وسبارتا‭ ‬وحلفائهم‭ ‬في‭ ‬الثلث‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ (‬431‭ ‬‭ ‬404‭ ‬ق‭.‬م‭).  ‬

لم‭ ‬يأخذ‭ ‬ثيوسيديدس‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬بالمُسلمات‭ ‬بل‭ ‬قام‭ ‬بتمحيص‭ ‬الروايات‭ ‬التاريخية،‭ ‬فُعرف‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬أرسى‭ ‬قواعد‭ ‬‮«‬نظرية‭ ‬الواقعية‭ ‬السياسية‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬اللافت‭ ‬للانتباه‭ ‬تساؤله‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬فاعلية‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬عُمل‭ ‬بها‭ ‬آنذاك،‭ ‬فهل‭ ‬يتم‭ ‬بدايةً‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬عاصمة‭ ‬العدو‭ ‬بشكلٍ‭ ‬مباشرٍ‭ ‬أو‭ ‬الانقضاض‭ ‬على‭ ‬حلفائهم‭ ‬الضعاف‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬التفرغ‭ ‬للنيل‭ ‬من‭ ‬الخصم‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬المعركة؟‭ ‬

وتُعتبر‭ ‬معركة‭ ‬دليوم‭ ‬424‭ ‬ق‭.‬م‭ ‬بين‭ ‬قوات‭ ‬بيوتيا‭ ‬وأثنيا‭ ‬مولد‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬العسكرية‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬كما‭ ‬نعرفها‭ ‬اليوم‭ ‬بقيادة‭ ‬باغونداس‭ ‬حيث‭ ‬تعمد‭ ‬أثناء‭ ‬المعركة‭ ‬إبقاء‭ ‬قوات‭ ‬احتياط‭ ‬عند‭ ‬الهجوم‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬استخدامها‭ ‬لحسم‭ ‬المعركة،‭ ‬والعبرة‭ ‬من‭ ‬المعركة‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬استراتيجي‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬يُمكن‭ ‬للابتكارات‭ ‬المفاجئة‭ ‬أن‭ ‬تقلب‭ ‬مجرى‭ ‬أي‭ ‬صراعٍ‭ ‬مُتساوٍ‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬وتحديدًا‭ ‬فترة‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬بزغ‭ ‬نجم‭ ‬نيكولو‭ ‬مكيافيلي‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬أعمدة‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬وقد‭ ‬وُلد‭ ‬مكيافيلي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬فلورنسا‭ ‬التابعة‭ ‬لجمهورية‭ ‬فلورنسا‭ ‬عام‭ ‬1469م،‭ ‬واشتغل‭ ‬مُنذ‭ ‬شبابه‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬وتأثر‭ ‬بحال‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الإيطالية‭ ‬التي‭ ‬مزقتها‭ ‬الحروب،‭ ‬وعُين‭ ‬مستشارًا‭ ‬وسكرتيرًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬لجمهورية‭ ‬فلورنسا‭ (‬1494‭ ‬‭ ‬1512م‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬صاحب‭ ‬المقولة‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬الغاية‭ ‬تُبرر‭ ‬الوسيلة‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬وعكس‭ ‬المتوقع‭ ‬ففي‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬فإن‭ ‬الكتب‭ ‬الأمثل‭ ‬له‭ ‬للقراءة‭ ‬هو‭ ‬كتابه‭ ‬المعنون‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الحرب‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1521م،‭ ‬وليس‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الأمير‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬طبق‭ ‬فيه‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬الغاية‭ ‬تُبرر‭ ‬الوسيلة‮»‬‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬المعركة‭.‬

وقد‭ ‬طرح‭ ‬مكيافيلي‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬مُصطلحين‭ ‬وهما‭ ‬‮«‬فيرتو‮»‬‭ ‬و«فورتونا‮»‬،‭ ‬ويُمثلان‭ ‬العناصر‭ ‬الداخلية‭ ‬والخارجية‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬والتخطيط،‭ ‬فكلمة‭ ‬‮«‬فيرتو‮»‬‭ ‬تشمل‭ ‬عدة‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬تبنيها‭ ‬وصقلها‭ ‬مثل‭ ‬المرونة،‭ ‬والفردية،‭ ‬والقدرة،‭ ‬والطاقة،‭ ‬والبراعة‭ ‬السياسية،‭ ‬والقوة‭ ‬الحيوية؛‭ ‬التي‭ ‬يُمكن‭ ‬لنا‭ ‬وصفها‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬الاستراتيجية‭ ‬المرنة‮»‬،‭ ‬ويستطيع‭ ‬أي‭ ‬فردٍ‭ ‬تطويرها‭ ‬وصقلها‭.  ‬

أما‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬فورتونا‮»‬،‭ ‬فيُقصد‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬القدرة‭ ‬في‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬الحظ‭ ‬العاثر‭ ‬وسرعة‭ ‬الاستجابة‭ ‬للتقلبات‭ ‬المفاجئة،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬يقول‭ ‬مكيافيلي‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الحظ‭ ‬عاثرًا‭ ‬مُتقلبًا،‭ ‬لكن‭ ‬نصف‭ ‬إرادتنا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬حرة،‭ ‬وإذا‭ ‬كنا‭ ‬جريئين‭ ‬فقد‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬عليه‮»‬‭.  ‬

ومع‭ ‬دخول‭ ‬نابليون‭ ‬بونابرت‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬وأوائل‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬الميلاديين‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬السياسية‭ ‬والعسكرية‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تحولاتٍ‭ ‬هائلةٍ‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬وتأسيس‭ ‬قواعد‭ ‬علم‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬كما‭ ‬نعرفها‭ ‬اليوم،‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬كلٍ‭ ‬من‭ ‬الألماني‭ ‬كارل‭ ‬فون‭ ‬كلاوزفيتز‭ ‬والسويسري‭ ‬أنطوان‭ ‬هنري‭ ‬جوميني،‭ ‬حيث‭ ‬تأثر‭ ‬الاثنان‭ ‬بسياسات‭ ‬واستراتيجية‭ ‬نابليون‭ ‬وكتبوا‭ ‬عنها،‭ ‬فيما‭ ‬أثرت‭ ‬أعمالهم‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬التخطيط‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬ويُكتب‭ ‬لجومنيني‭ ‬الفضل‭ ‬أنه‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬قام‭ ‬بتعريف‭ ‬المصطلحات‭ ‬الآتية‭ ‬مثل‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬والتكتيكات،‭ ‬واللوجستية،‭ ‬وقد‭ ‬ألف‭ ‬جوميني‭ ‬كتابًا‭ ‬أسماه‭ ‬هو‭ ‬أيضًا‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الحرب‮»‬‭. ‬

طُبقت‭ ‬أفكار‭ ‬جومنيني‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الحروب‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الأمريكية‭ (‬1861‭ ‬‭ ‬1865م‭)‬،‭ ‬والحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ (‬1914‭ ‬‭ ‬1918م‭)‬،‭ ‬فيما‭ ‬قام‭ ‬فون‭ ‬كلاوزفيتز‭ ‬بتأليف‭ ‬كتابٍ‭ ‬أسماه‭ ‬‮«‬عن‭ ‬الحرب‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1842م‭.‬

وآمن‭ ‬فون‭ ‬كلاوزفيتز‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ثلاثة‭ ‬أساسيات‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬على‭ ‬مُتخصصي‭ ‬علم‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬أن‭ ‬يسعوا‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬التوازن‭ ‬بينها،‭ ‬وهي‭ ‬العنف،‭ ‬والفرص،‭ ‬والغايات‭ ‬السياسية؛‭ ‬وركز‭ ‬بشكلٍ‭ ‬مُحددٍ‭ ‬على‭ ‬مسألة‭ ‬اقتناص‭ ‬الفرص‭ ‬التي‭ ‬أسماها‭ ‬بالفرنسية‭ ‬‮«‬كو‭ ‬دوي‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المصطلحات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالتخطيط‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬وتعني‭ ‬النظرة‭ ‬الثاقبة‭ ‬أو‭ ‬الفراسة‭ ‬أو‭ ‬دقة‭ ‬الملاحظة‭ ‬أو‭ ‬المَلكة‭ ‬واقتناص‭ ‬الفرص،‭ ‬والتي‭ ‬تُسهم‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬بلوغ‭ ‬الهدف‭ ‬الأسمى‭.‬

وفي‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الميلادي‭ ‬برز‭ ‬السير‭ ‬باسيل‭ ‬هنري‭ ‬ليدل‭ ‬هارت،‭ ‬وهو‭ ‬عسكريٌ‭ ‬بريطانيٌ‭ ‬سابق،‭ ‬عاصر‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ (‬1914‭ ‬‭ ‬1918م‭)‬،‭ ‬ويُعتبر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬مُنظري‭ ‬علم‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الميلادي،‭ ‬وهو‭ ‬صاحب‭ ‬فكرة‭ ‬‮«‬النهج‭ ‬غير‭ ‬المباشر‮»‬،‭ ‬نظرًا‭ ‬لما‭ ‬لمسه‭ ‬من‭ ‬خسائر‭ ‬هائلةٍ‭ ‬في‭ ‬الأرواح‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬التقليدية‭ ‬أي‭ ‬حروب‭ ‬الخنادق‭ ‬التي‭ ‬تميزت‭ ‬بها‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬وقد‭ ‬استفادت‭ ‬ألمانيا‭ ‬النازية‭ ‬من‭ ‬أطروحاته‭ ‬فطبقوا‭ ‬استراتيجية‭ ‬الحرب‭ ‬الخاطفة‭ ‬أي‭ ‬‮«‬البلتزجريغ‮»‬‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ (‬1939‭ ‬‭ ‬1945م‭).‬

وقد‭ ‬قام‭ ‬اليوم‭ ‬مُتخصصون‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬لانكشاير‭ ‬للأعمال‭ ‬بتصميم‭ ‬قاعدةٍ‭ ‬لأبرز‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬صياغة‭ ‬أية‭ ‬استراتيجيةٍ‭ ‬وتُعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬تامبيلز‮»‬،‭ ‬والعوامل‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬رصدها‭ ‬هي‭ ‬كالآتي‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬والسوق،‭ ‬والسياسات،‭ ‬والقانون،‭ ‬والأخلاق‭ ‬المهنية،‭ ‬والمجتمع‭.‬

كما‭ ‬تم‭ ‬تطوير‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬النية‭ ‬الاستراتيجية‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مصطلحٌ‭ ‬أسسه‭ ‬كلٌ‭ ‬من‭ ‬الاقتصاديين‭ ‬الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬جاري‭ ‬هامل،‭ ‬والأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬سي‭. ‬كيه‭. ‬براهالاد،‭ ‬وهو‭ ‬مصطلح‭ ‬مستخدم‭ ‬لوصف‭ ‬الخطط‭ ‬الطموحة‭ ‬أو‭ ‬الغرض‭ ‬الشامل‭ ‬أو‭ ‬الاتجاه‭ ‬المقصود‭ ‬اللازم‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الرؤية‭ ‬التنظيمية،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يُسهم‭ ‬في‭ ‬التخطيط‭ ‬الواضح‭ ‬للمستقبل،‭ ‬ومثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬تطلع‭ ‬إحدى‭ ‬الشركات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمشروبات‭ ‬الغازية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يستطيع‭ ‬الجميع‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬منتجاتها،‭ ‬ومثال‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬هو‭ ‬إعلان‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬جي‭. ‬أف‭. ‬كندي‭ (‬1917‭ ‬‭ ‬1963م‭)‬،‭ ‬بأن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬تطمح‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬القمر‭ ‬خلال‭ ‬عقدٍ‭ ‬من‭ ‬الزمان‭.‬

إن‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬كعلمٍ‭ ‬وفن‭ ‬بدت‭ ‬كأداةٍ‭ ‬أساسيةٍ‭ ‬في‭ ‬حسم‭ ‬الصراعات‭ ‬التي‭ ‬شكلت‭ ‬خارطة‭ ‬العالم‭ ‬القديم‭ ‬وموازين‭ ‬القوة‭ ‬لذلك‭ ‬العالم،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬تعميم‭ ‬الدروس‭ ‬المستفادة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الانتصارات‭ ‬والإخفاقات‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬التخصصات‭ ‬والمجالات‭ ‬حتى‭ ‬أضحت‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬أداةً‭ ‬أساسيةً‭ ‬لنجاح‭ ‬أي‭ ‬فردٍ‭ ‬أو‭ ‬مؤسسة‭.‬

{‭ ‬المدير‭ ‬التنفيذي‭ ‬لمركز‭ ‬البحرين‭ ‬للدراسات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬والدولية‭ ‬والطاقة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا