المفهوم الاستراتيجي المتقدم للقوة الذكية يجمع بين أدوات القوة الصلبة وأدوات القوة الناعمة
المعادلة إما أن تبني أدوات القوة والتأثير، وإما تصبح أنت أداة في يد من يملكها
القوة الناعمة(Soft Power) مفهوم مركزي في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، صاغه الأكاديمي والسياسي الأمريكي جوزيف ناي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وطوره في كتاباته في التسعينيات.
وتُعرّف القوة الناعمة بأنها القدرة على التأثير على الآخرين وجذبهم وكسب تأييدهم من خلال الجاذبية الثقافية، والقِيَم، والسياسات المشروعة، لا من خلال الإكراه، والتهديدات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية أو الدفع المالي (المساعدات، والرشاوى) التي تُعرف بـالقوة الصلبة (Hard Power).
في بداية الألفية الجديدة (2003) صاغ جوزيف ناي مصطلحا آخر اسمه القوة الذكية (Smart Power)، وطوره لاحقاً كرد على فشل السياسات الأمريكية التي اعتمدت بشكل منفرد إما على القوة الصلبة الخام (كما في حرب العراق) وإما على التفاؤل المفرط بالقوة الناعمة؛ إذ إن المفهوم الاستراتيجي المتقدم للقوة الذكية يجمع بين أدوات القوة الصلبة (العسكرية، الاقتصادية) وأدوات القوة الناعمة (الثقافة، الدبلوماسية، القيم)، وهو ليس كمجرد مزيج بل هو استخدام استراتيجي متكامل ومتناسق لهذه الأدوات مع بعض «الحكمة والذكاء»، لمعرفة متى وأين وكيف تستخدم كل منهما لتحقيق أهداف سياسية بأعلى فعالية وأقل كلفة.
مكونات القوة الذكية
وبحسب جوزيف ناي فالمكونات الثلاثة للقوة الذكية هي: 1- القوة الصلبة (سياسة العصا والجزرة)، مع 2- القوة الناعمة (بعض الجاذبية)، و3- قوة الذكاء (الحكمة الاستراتيجية)، مثال عدم استخدام القوة العسكرية المباشرة عندما يكفي دعم الجهود الدبلوماسية (استخدام المساعدات التنموية لبناء شراكات طويلة الأمد بدلاً من شراء الولاء المؤقت).
من أهم مميزات وفوائد نهج القوة الذكية هو أنها أعلى فعالية في معالجة المشكلة من عدة زوايا؛ ما يزيد من فرص النجاح، ويقلل الكلفة بمقارنة الحل الدبلوماسي بالتكاليف الباهظة للحروب المباشرة... إضافة إلى أن نتائجها أكثر استدامة، حيث الحلول القائمة على الإقناع والشراكة أكثر ديمومة من تلك المفروضة بالقوة، كما يمكن أن تكون نتائجها أكثر شرعية لأن المزج بين الأدوات يمنح السياسة مظهراً أكثر توازناً وتقبلاً دولياً.
التحديات والصعوبات
وكما في جميع أنواع القوة، تواجه القوة الذكية بعض التحديات والصعوبات في التطبيق، كصعوبة التنسيق عندما يحتاج الأمر إلى تعاون غير مسبوق بين المؤسسات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والثقافية (وزارات الدفاع، والخارجية، والثقافة)، وهو ما يصعب تحقيقه بيروقراطياً، إضافة إلى المفارقة في التوقيت، حيث القوة الناعمة بطيئة المفعول، بينما الضغوط السياسية تتطلب نتائج سريعة، ما يدفع إلى استخدام القوة الصلبة؛ بجانب بعض المعوقات الأخرى التي تُفقِد القوة الذكية مصداقيتها، وصلاحيتها للقياس.
علمياً؛ تعد القوة الذكية فنا سياسيا معقدا يتطلب تشخيصاً دقيقاً للواقع، ووضوحا في الأهداف، والتدرج في الأولويات، ومرونة تكتيكية لتحويل الأدوات بحسب تطوير الموقف؛ لذلك يمكن التأكيد أن الدول التي تتقن هذا الفن تزيد من نفوذها، بينما التي تفتقد هذا الفن تدفع ثمناً باهظاً حتى لو حققت مكاسب تكتيكية.
في العالم المتشابك الذي نعيشه، لم تعد القوة الصلبة وحدها كافية؛ والقوة الناعمة وحدها ضعيفة أمام مَن لا يتشاركون في القيَم، ما يضع الدول أمام سؤال صعب، هو: كيف تحقق أهدافك في عالم معقد، باستخدام كل ما في جعبتك بحكمة؟
والسؤال الأهم: ما مدى خسارة الدول التي لا تملك الكثير من القوتين، على المستوى الدولي؟
لربما يعد هذا السؤال العملي والاستراتيجي الأهم هو الأصعب في مشروع هذا المقال، إذ يتطلب التعرف على العواقب الواقعية للدول الضعيفة في منظومة القوة الدولية؛ وكيف تتعامل الدول الأضعف في نظام دولي تهيمن عليه القوى الكبرى؟ وماذا يحدث للدول التي لا تملك أدوات التأثير في العلاقات الدولية؟
بإيجاز، إن الدول التي تفتقر إلى القوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية)، والقوة الناعمة (الثقافية والسياسية)، تواجه مصيراً صعباً في النظام الدولي، حيث تصبح بشكل متزايد كائنات مُفعولا بها بدلاً من أن تكون فاعلة، وخسائرها ليست فقط مادية، بل وجودية واستراتيجية.
وتتفاوت مستويات الخسارة الاستراتيجية في الدول الضعيفة بين: 1- دول تتعرض لخسارة السيادة والقرار المستقل، بما تتعرض له من ابتزاز وضغط، وتأثير الوكلاء، والشروط المجحفة، مثال لبنان الذي تحول إلى ساحة صراع إقليمي، واليمن الذي أصبح دولة فاشلة وساحة حرب مباشرة، وفي الجانب الآخر دول إفريقيا المقيدة بقيود صندوق النقد الدولي القاسية على سياساتها الاقتصادية. 2- دول تتعرض للتهميش في النظام الدولي، وتغيب من طاولة المفاوضات، ولا يكون لها حضور واضح في التحالفات، مع عدم القدرة على حماية مصالحها، ولربما أكبر وأوضح مثال على هذه الحالة هي دولة فلسطين. 3- دول تُفرض عليها التبعية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال الاقتصاد وهجرة العقول والتبعية الثقافية. 4- دول تعاني من الضعف الأمني والهشاشة، لعدم قدرتها على الدفاع عن حدودها، مع انتشار الإرهاب والنزاعات على أراضيها، وانعدام الاستقرار الدائم لما تتعرض له من أزمات وجودية، كما هو حال العراق وسوريا والصومال والسودان بالتحديد.
بإيجاز، الدول التي تفتقر إلى القوتين تدخل في حلقة مفرغة، تبدأ بضعف سيادي، وتدهور اقتصادي، وهجرة الكفاءات، التي تكون محصلتها المزيد من الضعف، لتنتهي بالمزيد من الاعتماد على الخارج، لتتحول من دولة إلى كيان جغرافي تُدار شؤونه من عواصم أخرى، أو إلى منطقة فراغ تُملأ بالفوضى.
هل هناك مخرج؟
في استراتيجيات التعويض النسبي
حاولت البحث عن إجابة عن هذا السؤال الذي لا بد أنه يشغل أغلب الدول في عالمنا المعقد تحت وطأة التحولات وقوة الهيمنة، وكانت المحصلة بعض المعلومات المقتضبة، ولكن واضحة؛ هي أن بعض الدول تحاول تعويض النقص في القوتين، الصلبة والناعمة، عبر بعض المواقف والأفعال الأقل تأثيراً ولكنها تمثل نوعاً من الدبلوماسية الآمنة، منها: 1- القوة الذكية للضعفاء، وتعني التركيز على قوة ناعمة متخصصة، مثال دولة الفاتيكان بنفوذها الديني، أو سويسرا بمصداقيتها السياسية والمالية. 2- الدبلوماسية التحالفية؛ أي الانضمام إلى تحالفات إقليمية قوية، مثال دول الخليج في مجلس التعاون، رغم التفاوت بينها. 3- موقف الحياد الإيجابي؛ أي تحويل الدولة إلى منصة حيادية للحوار والوساطة، والأمثلة العربية المتنافسة في هذا المجال عديدة. وهناك أيضاً 4- التخصص في مجالات حيوية؛ أي أن تصبح الدولة لاعباً لا غنى عنه في مجال محدد، مثال دول الممرات البحرية، أو منتج لغذاء استراتيجي.
في عالم القوة.. الضعف ليس خيارا
حيث النظام الدولي لا يرحم، والدول التي لا تملك مقومات القوة تُفرض عليها أجندات الآخرين، وتُستهلك مواردها وكفاءاتها، وتُترك لتواجه مصيرها عند أول أزمة كبرى.
وهذا لا يعني أنها محكوم عليها بالفشل، لكن مسارها أصعب كثيراً مما لو كانت تملك القوة، وعليها أن تكون أذكى استراتيجياً لتعويض نقص القوة المادية، وغالباً ما يكون ذلك عبر التحالف مع قوي أو بيع موقعها الجيوسياسي كأهم أصولها المتبقية.
المعادلة القاسية هي إما أن تبني أدوات القوة والتأثير، وإما تصبح أنت أداة في يد من يملكها.
sr@sameerarajab.net

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك