الصيرفة الإسلامية بين النمو والتحديات
ورش فنية متخصصة لتعزيز الحوكمة في المصارف الإسلامية
المجلس يسهم في صياغة السياسات وبناء القدرات لمواجهة تقلبات الاقتصاد الكلي والجيوسياسي
إنتاج المعرفة وبناء القدرات أدوات المجلس لدعم المصارف الإسلامية في مواجهة التحولات
حوار: نوال عباس
على الرغمِ من الضغوطِ الاقتصاديةِ الكليَّة، وحالةِ عدمِ الاستقرار الجيوسياسي، وتفاوتِ وتيرةِ التعافي الاقتصادي العالمي خلال هذا العام، لا تزال صناعةُ الخدماتِ الماليَّةِ الإسلاميَّة تُثبت قدرةً لافتة على الصمود، مقرونةً بتقدم متواصل على صعيد النمو. فقد شهدت الصناعةُ في عام 2024 توسعًا ملحوظًا لتصل أصولها إلى نحو 5.98 تريليونات دولار أمريكي، محققةً نموًا سنويًا قدره 21% في إجمالي الأصول، مع انتشار عملياتِها النشطة في 98 بلدا حول العالم. ولا تزال الصيرفةُ الإسلاميَّة تمثل العمودَ الفقري لهذه الصناعة، إذ تستحوذُ على ما يقارب 71.6% من إجمالي أصولها، «أخبار الخليج» تحاور حمزة باوزير الأمين العام للمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية للحديث حول الصيرفة الإسلامية والتحديات لمستقبل الصناعة المالية الإسلامية، وللتعرف على التطورات المتسارعة في قطاع الخدمات المالية الإسلامية عالميًّا وأهم التحديات وكيفيه التغلب عليها.
التحديات المصرفية
*بدايةً، كيف يقيّم المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية التطورات المتسارعة في قطاع الخدمات المالية الإسلامية عالميًّا في ظل التحولات الاقتصادية والجيوسياسية والتكنولوجية؟
-من خلال مشاركاتنا الدولية المستمرة ونتائج الاستبانة العالمية للمصرفيين الإسلاميين، الذي يعكس رؤى قادة المصارف الإسلامية في مختلف المناطق، يتضح أن الرؤساء التنفيذيين في البنوك الإسلامية يتمتعون بمستوى عالٍ من الثقة في مستقبل القطاع المالي الإسلامي. وتفوق هذه الثقة مستويات التفاؤل التي سادت القطاع المصرفي العالمي خلال العقد الماضي. ورغم الفروقات الإقليمية، تواصل المصارف الإسلامية إظهار ثقة واضحة في قدرتها على تعزيز نمو الإيرادات ومواجهة التقلبات الاقتصادية والجيوسياسية.
ويأتي هذا النمو بالتزامن مع بروز تحديات هيكلية جوهرية، من أبرزها:
*تقلبات الاقتصاد الكلي والأوضاع الجيوسياسية وما يترتب عليها من تأثيرات في مستويات السيولة واستراتيجيات تخصيص رأس المال.
* تسارع التحولات التنظيمية، بما يشمل متطلبات الاستدامة والإفصاح، والامتثال الرقمي، وتعزيز أطر مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
*التطورات التكنولوجية المتلاحقة التي تعيد تشكيل بيئة المنافسة وتُحدث تحولًا في أنماط سلوك العملاء عبر مختلف الأسواق.
* ولمساندة الصناعة في التكيف مع هذه المتغيرات، يواصل المجلس العام تنفيذ مجموعة من المبادرات الموجهة، من بينها تنظيم ورش فنية متخصصة في الحوكمة، وإصدار سلسلة من الموجزات التي تتناول الاستقرار المالي والاستدامة والحوكمة والتحول الرقمي. وتهدف هذه المبادرات إلى توفير رؤى عملية وإرشادات استراتيجية تساعد مؤسسات التمويل الإسلامي على تعزيز جاهزيتها ومواكبة المستجدات.
* ويؤكد المجلس العام أن المرحلة الراهنة تجمع بين تحديات متصاعدة وفرص واعدة، ما يستدعي مزيدًا من المرونة والابتكار، وتعميق التعاون الدولي، لضمان استدامة النمو طويل الأمد لصناعة الخدمات المالية الإسلامية.
صناعة التمويل الاسلامي
* من منظور المجلس العام، كيف يسهم الابتكار التكنولوجي بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والخدمات المصرفية الرقمية، والتكنولوجيا المالية في إعادة تشكيل صناعة التمويل الإسلامي وتعزيز كفاءتها وتطوير نماذج أعمالها؟
-لم تعد الابتكارات التكنولوجية خيارًا ثانويًا، بل أصبحت عنصرًا محوريًا في تعزيز القدرة التنافسية المستقبلية للمالية الإسلامية. ومن منظور المجلس العام، يسهم الذكاء الاصطناعي والصيرفة الرقمية والتكنولوجيا المالية في تسريع ثلاثة تحولات رئيسية:
1. التحول نحو تقديم خدمات رقمية بالكامل للعملاء: يشهد قطاع الصيرفة الإسلامية طلبًا متزايدًا على خدمات فورية، مخصصة، ومتوافقة مع الشريعة، عبر التطبيقات الذكية والاشتراك الرقمي ومنصات البنوك الرقمية.
2. تطوير العمليات والحد من المخاطر باستخدام الذكاء الاصطناعي: تشمل الاستخدامات نماذج الفرز الشرعي الآلي، وأنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والتقييم الائتماني، والأمن السيبراني، والتنبؤ بالسيولة.
3. نماذج شراكة وتمويل مبتكرة: مثل التمويل الجماعي الإسلامي، والمنصات الرقمية للصكوك، والبنوك المفتوحة، والأصول المرمّزة.
مبادرات رائدة
ولتمكين أعضائنا من مواكبة هذه التحولات، أطلق المجلس العام عددًا من المبادرات الرائدة، منها:
- برامج تدريبية متخصصة على غرار البرنامج التنفيذي بالتعاون مع كلية آيفي للأعمال حول قيادة التحول بالذكاء الاصطناعي في القطاع المصرفي.
- مجموعة عمل الابتكار والتكنولوجيا التي تعمل على تعزيز تبنّي التكنولوجيا المالية وتشجيع الابتكار المتوافق مع الشريعة.
- إرشادات التحول الرقمي وورش العمل الفنية حول الذكاء الاصطناعي والخدمات المصرفية المفتوحة والدمج الرقمي.
- بحوث وتقارير تتطرق للفرص والتحديات المرتبطة بمواضيع الرقمنة والتحول الرقمي
- خدمات استشارية لمواكبة التبني الفعال لأحدث التقنيات التكنولوجية ومساعدة الأعضاء في تطوير استراتيجيات التحول الرقمي
وتسهم هذه المبادرات في ضمان تطور الصناعة الرقمية للمالية الإسلامية بصورة مسؤولة، ومتوافقة مع الشريعة، ومستدامة على المدى الطويل.
أولويات استراتيجية
* ما الأولويات الاستراتيجية التي يضعها المجلس العام لتعزيز مرونة قطاع التمويل الإسلامي واستدامته وتنافسيته على المستوى العالمي خلال المرحلة المقبلة؟
-تعكس أولويات المجلس العام التزامه الراسخ بتعزيز مرونة صناعة الخدمات المالية الإسلامية واستدامتها وتنافسيتها عالميًا في ظل التحولات المتسارعة. وينطلق المجلس العام في ذلك من دوره المحوري كمظلة للصناعة، إذ يعمل بمسؤوليات متكاملة تشمل المناصرة والتمثيل الدولي، والمساهمة في صياغة السياسات والأطر التنظيمية، وتعزيز الوعي، وإنتاج المعرفة، وبناء القدرات، وتقديم خدمات استشارية وإرشادية لأعضائه، إلى جانب إطلاق مبادرات نوعية ذات قيمة مضافة تلبي احتياجاتهم المتجددة.
وفي جانب المناصرة والسياسات، يعمل المجلس العام على إيصال صوت الصناعة إلى الجهات الرقابية وصناع القرار والهيئات الدولية، والمشاركة الفاعلة في تطوير السياسات والمعايير التي تدعم الاستقرار المالي وتضمن نموًا متوازنًا للقطاع. ويتجلى ذلك في جهوده المستمرة لتوفير أطر قوية لإدارة المخاطر، وتحسين خطط السيولة، ورفع الجاهزية لمواجهة تقلبات الاقتصاد الكلي. كما يعمل على إعداد تقرير حول الصدمات الخارجية بهدف دعم قدرة الصناعة على التعامل مع الاضطرابات المفاجئة، الاقتصادية أو الجيوسياسية أو البيئية—وترسيخ نهج استباقي يعزز الجاهزية والمرونة.
أما على صعيد الاستدامة والتمويل المسؤول، فيواصل المجلس العام تطوير أدوات معرفية وتطبيقية تساعد الأعضاء على مواكبة المتطلبات العالمية دون الإخلال بالمبادئ الشرعية. ومن ذلك تقرير أداة قياس انبعاثات الغازات الدفيئة، وهي أداة عملية تُمكّن البنوك الإسلامية من قياس الانبعاثات على المستوى المؤسسي وتعزيز التوافق مع أطر الاستدامة الدولية.
ويستكمل المجلس العام هذه الأولويات عبر الأبحاث والدراسات وبرامج بناء القدرات، من خلال إنتاج دراسات وتقارير متخصصة، وتنظيم ورش عمل فنية وبرامج تدريبية وشراكات للتعليم التنفيذي، بما يرفع كفاءة الكوادر، ويعزز الحوكمة الفاعلة، ويطوّر الاستعداد للتحول الرقمي وتحسين الكفاءة التشغيلية. وإلى جانب ذلك، يحرص المجلس العام على تقديم خدمات استشارية وإرشادية موجهة للأعضاء لمساعدتهم في معالجة التحديات العملية وتبنّي أفضل الممارسات، فضلًا عن العمل على إطلاق مبادرات جديدة مبتكرة تخلق قيمة مباشرة للأعضاء وتدعم تنافسيتهم في الأسواق المحلية والدولية.
وبذلك، تترابط أولويات المجلس العام ضمن رؤية شاملة تجعل منه منصة عالمية للتنسيق والتطوير والتمكين، وتضمن للصناعة مسارًا مستدامًا للنمو قائمًا على المرونة والابتكار والمسؤولية.
التعاون مع الهيئات المعيارية
* كيف يعزّز المجلس العام تعاونه مع الهيئات المعيارية والجهات التنظيمية الدولية بهدف مواءمة الأطر التنظيمية، ودعم الامتثال، ورفع مستويات الحوكمة في الصناعة المالية الإسلامية؟
-يلعب المجلس العام دورًا محوريًا بصفته الصوت العالمي للمالية الإسلامية، حيث يتعاون بشكل فعّال مع أبرز الجهات الدولية المعنية بوضع المعايير والهيئات الرقابية، سعياً إلى تعزيز الاتساق التنظيمي، وترسيخ الحوكمة الرشيدة، وتوحيد الممارسات الإشرافية عبر مختلف الأسواق. ويحافظ المجلس العام على شراكات استراتيجية مستمرة مع جهات رائدة مثل مجلس الخدمات المالية الإسلامية، وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، ولجنة بازل للرقابة المصرفية، والبنك الدولي، ومجموعة البنك الإسلامي للتنمية، بما يضمن تمثيل المالية الإسلامية في المحافل الدولية.
ومن خلال عملنا في السياسات العامة والدفاع التنظيمي، يتم نشر تعليقات وتوصيات تمثل رأي الصناعة، وتسهم في انتشار المسودات التشاورية للأخذ بخصوصيات التمويل الإسلامي بعين الاعتبار، مع إصدار أبحاث وتقارير الاستدامة، والحوكمة المؤسسية، والتحول الرقمي.
وفي مجال تعزيز القدرات الإشرافية وتحقيق المواءمة الفنية بين الأسواق. نسعى من خلال البرامج التدريبية إلى التنظيم الاحترازي في سد الفجوات التنظيمية وضمان تطور الأطر الإشرافية بما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية.
كما نوفر منصات حوارية رفيعة المستوى، واجتماعات الطاولة المستديرة الإقليمية، وفرق العمل الفنية، حيث يجتمع صناع السياسات والجهات الرقابية وقادة الصناعة لبحث المخاطر الناشئة وأولويات التنظيم. ومن خلال هذه الجهود، نعمل بفاعلية في بناء منظومة أكثر انسجامًا وحوكمة واستقرارًا لصناعة المالية الإسلامية على المستوى العالمي.
رسالة للقطاع المصرفي
*ما الرسالة التي يودّ المجلس العام توجيهها إلى قادة القطاع وصنّاع السياسات والجمهور العام بشأن مستقبل التمويل الإسلامي وأولوياته واتجاهاته الاستراتيجية؟
-سيبقى مستقبل المالية الإسلامية مرهونًا بقدرتنا المشتركة على الابتكار بصورة فاعلة وكفؤة، وتعميق التعاون الدولي، والتمسك بأرقى معايير الحوكمة والنزاهة. وفي ظل تسارع الرقمنة وتنامي متطلبات الاستدامة وتحوّل تطلعات المجتمعات، تبرز أمام المالية الإسلامية فرصة استثنائية لتعزيز مكانتها كنظام مالي يقوم على الأخلاق والمرونة وإحداث أثر اجتماعي واقتصادي ملموس.
وانطلاقًا من رسالتنا السامية، نواصل الاضطلاع في توحيد الرؤى وتعزيز العمل المشترك بين مكوّنات الصناعة كافة. فالمجلس العام يعمل على تمكين المؤسسات الأعضاء ودعمها عبر بناء القدرات، وتطوير المعايير والإرشادات المهنية، وتوفير منصات الحوار والتشاور التي تجمع قادة الصناعة وصنّاع السياسات والجهات الرقابية والمؤسسات الدولية. كما يسهم في نقل صوت الصناعة وتطلعاتها إلى المحافل العالمية، بما يعزز حضور المالية الإسلامية ضمن أجندات الاستقرار المالي والتنمية المستدامة.
ويجدد المجلس العام تأكيد التزامه بدعم هذا المسار المستقبلي عبر مبادراته الفنية والمعرفية، وشراكاته الاستراتيجية، وجهوده الرامية إلى ترسيخ أفضل الممارسات وتعزيز التكامل بين الأسواق، بما يواكب التحولات التنظيمية والتكنولوجية ومتطلبات الاستدامة. ومع استمرار التعاون البنّاء بين قادة الصناعة والجهات المعنية على المستويين الإقليمي والدولي، يمكن للمالية الإسلامية أن ترسّخ موقعها كدعامة موثوقة للاستقرار المالي العالمي، ومحفز رئيسي للتنمية الشاملة والمستدامة، وجسر فعّال يربط بين القيم الأخلاقية والابتكار المالي لخدمة المجتمعات والاقتصادات على حد سواء.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك