في ظل تصاعد التوترات التجارية وتنامي السياسات الحمائية على الساحة الدولية، جذبت القمة الثلاثية الأولى بين رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ومجلس التعاون الخليجي والصين، التي عقدت تحت رئاسة ماليزيا لرابطة آسيان لعام 2025، اهتمامًا عالميًا واسعًا. وتمثل هذه القمة خطوة إضافية على طريق تعزيز التعاون بين دول الجنوب العالمي، بما لذلك من آثار على التنمية الإقليمية والنمو العالمي.
أسس متينة للشراكة
ترتبط الأطراف الثلاثة بعلاقات تاريخية واقتصادية عميقة الجذور. فمنذ قرون، أسهم طريق الحرير في تبادل ثقافي وتجاري واسع بين شعوب هذه المناطق. واليوم، تظل الصين شريكًا تجاريًا محوريًا لكل من آسيان ودول مجلس التعاون الخليجي. ويُعد الانتهاء من مفاوضات منطقة التجارة الحرة بين الصين وآسيان (المرحلة 3.0) دليلًا على الجهود المستمرة نحو تعميق التكامل الاقتصادي. وقد شكلت العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف أرضية صلبة لتوسيع مجالات التعاون.
رؤية مشتركة لنمو شامل
جددت الأطراف الثلاثة خلال القمة التزامها بالأسواق المفتوحة وبالعمل ضمن إطار التعددية، في وقت تتجه فيه الدول النامية في الجنوب العالمي من دور المتلقي إلى دور الفاعل المؤثر في صياغة النظام الاقتصادي الدولي. وأكدت النقاشات أهمية نظام تجاري عالمي قائم على القواعد، يركز على التنمية العادلة بدلاً من التنافس الصفري. وتتقاطع هذه الرؤية مع الدعوات المتزايدة نحو عولمة شاملة تعود بالنفع على الجميع.
تكامل في الموارد والمزايا
تتمتع كل منطقة بمزايا تنافسية فريدة: لدى آسيان قاعدة شبابية كبيرة وموارد طبيعية، فيما تمتلك دول الخليج ثروات طاقوية ورؤوس أموال مالية ضخمة، أما الصين فتملك سوقًا استهلاكية ضخمة وقدرات تصنيعية متقدمة. ومن خلال استثمار هذه المزايا المتكاملة، يمكن تحقيق تخفيض في التكاليف المرتبطة بالطاقة والموارد، وتحسين الكفاءة في الخدمات اللوجستية والمالية. وسيُسهم هذا التعاون في تعزيز القدرة التنافسية والمرونة لجميع الأطراف، ويُعد أمرًا حيويًا في مواجهة تقلبات الأسواق العالمية واستمرار النمو في ظل الاضطرابات التجارية.
تكامل يُحقق قيمة مضاعفة
وقد بدأت ثمار التعاون الثلاثي بالظهور. إذ أعلن رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ خلال القمة منح تأشيرات دخول متعددة لخمس سنوات للمواطنين المؤهلين من دول آسيان لأغراض الأعمال وغيرها، بالإضافة إلى منح إعفاء كامل من التأشيرات لجميع مواطني دول مجلس التعاون الخليجي. كما يجري الإعداد لتأسيس مجلس أعمال إقليمي مشترك، في إطار مسار موحد للتعاون في مجالات متنوعة تشمل: التكامل الاقتصادي، ربط البنية التحتية، أمن الطاقة واستدامتها، التحول الرقمي والابتكار، الأمن الغذائي والزراعة، وتوسيع التبادلات الثقافية والإنسانية.
ويُشكل التحالف الثلاثي ما يقارب ربع سكان العالم ونحو ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مما يجعله قوة محركة باتجاه إقليمية منفتحة وتعاونية لمواجهة التحديات المشتركة، كالحروب التجارية واضطرابات سلاسل الإمداد. وبفضل تحسين الربط اللوجستي وتيسير التجارة، يمكن لهذا التعاون أن يحقق تكاملًا يتجاوز مجرد جمع قدرات الأطراف الثلاثة.
نموذج يُحتذى لتعاون الجنوب – الجنوب
في خضم الحروب التجارية والتعريفات الجمركية المتصاعدة، تبدو أفضل طريقة لتجاوز هذه العقبات هي تعزيز وحدة الصف بين دول الجنوب العالمي. وقد أثبت هذا النموذج الثلاثي أن التعاون العابر للأقاليم يمكّن من التصدي للآثار السلبية للسياسات الأحادية، عبر فتح آفاق جديدة للتجارة والاستثمار، وتنويع الشركاء التجاريين، وتقليص الاعتماد على الأسواق التقليدية.
ويمثل هذا السوق الموحد بين الأطراف الثلاثة أحد أكبر الأسواق الإقليمية في العالم، بما يسمح بمشاركة الفوائد مع دول أخرى، ويضخ جرعة من الاستقرار في الاقتصاد العالمي. فمن خلال توحيد جهود ثلاث قوى عالمية رئيسية، يقدم هذا النموذج المتجدد والشامل والعملي التزامًا صريحًا بنظام تجاري دولي قائم على القواعد، تتوسطه منظمة التجارة العالمية، ويُعد خطوة ملموسة نحو مستقبل يسوده السلام والازدهار والعدالة.
دفعة قوية للعولمة
في عالم مترابط مليء بالتحديات المشتركة، لا تزال العولمة تحتفظ بإمكاناتها التحويلية – لكن بشرط أن تختار الدول التعاون بدلًا من الانعزال. وتجسد قمة آسيان – مجلس التعاون الخليجي – الصين مثالًا مبتكرًا على آلية تعاون بين شركاء من الجنوب العالمي، تُظهر كيف يمكن لمناطق متنوعة توحيد مصالحها لدعم الأطر المتعددة الأطراف وتعزيز التجارة العادلة.
وقد أرسلت القمة رسالة واضحة: إن التضامن لا يتطلب تطابقًا كاملاً، بل يزدهر حين تجسر الدول اختلافاتها عبر تعاون منظم. ومن خلال إعطاء الأولوية للحوار والترابط الاقتصادي، يمكن للدول تحويل التباينات إلى فرص وتعزيز التقدم المشترك. ففي عالم يعاني من الاضطرابات، لا يُعد هذا النوع من التعاون مثاليًا فقط، بل ضرورة حتمية لبناء مستقبل أكثر توازنًا وقدرة على الصمود.
مراقبة للشؤون الدولية من بكين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك