دراسة لإعداد قانون مستقل للوساطة الجنائية والتوسع في حالات التطبيق
اعتماد سياسة تشريعية حديثة لإيجاد وسائل موازية للعدالة الجنائية
أجرى الحوار: إسلام محفوظ
تصوير: رضا جميل
في ظل التوجهات التشريعية الحديثة التي تنتهجها مملكة البحرين بقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم، وبمتابعة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، تواصل البحرين تعزيز منظومة العدالة الجنائية من خلال إدماج مفاهيم العدالة التصالحية، في مقدمتها نظام الوساطة الجنائية، حيث أصبح هذا النظام نموذجًا متقدمًا في تسوية النزاعات الجنائية بطرق سلمية وفعالة، تسهم في تحقيق التوازن بين حفظ حقوق المجني عليه، وتأهيل الجاني وإصلاحه، بما ينعكس إيجابًا على استقرار المجتمع وسرعة إنجاز العدالة.
«أخبار الخليج» التقت رئيس النيابة ناصر الشيب المعني بالعدالة التصالحية بالنيابة العامة حيث أجرت معه حوارا ألقى فيه الضوء على مفهوم الوساطة الجنائية، وأسس تطبيقها، وأهميتها كأحد أركان العدالة البديلة، إلى جانب الجهود الوطنية المبذولة لترسيخ هذا النظام في المنظومة القضائية البحرينية، مؤكدا أن تطبيق نظام الوساطة الجنائية في مملكة البحرين خطوة مهمة نحو تعزيز العدالة التصالحية، أسهمت في تحقيق العديد من الفوائد لمنظومة العدالة والمجتمع، فمن الناحية القضائية ساعد في تخفيف الأعباء عن المحاكم من خلال تقليل عدد القضايا المنظورة، مما أدى إلى تسريع إجراءات التقاضي وتحقيق العدالة بكفاءة أكبر، كما أنه وفر بديلاً فعالًا للعقوبات التقليدية من خلال التركيز على التسوية، مما يعزز فرص إعادة تأهيل الجاني وإصلاح الضرر الواقع على الضحية، وإلى نص الحوار..
{ في البداية نود أن تحدثنا عن فكرة إنشاء نظام الوساطة الجنائية؟
تتميز مملكة البحرين برؤية تشريعية متقدمة تحت قيادة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم، حيث تحرص المملكة على تعزيز حقوق الإنسان والحريات العامة، مما جعلها نموذجًا تشريعيًا يحظى بتقدير إقليمي ودولي، وذلك بمتابعة حثيثة من قبل صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء.
وانطلاقا من هذه الرؤية اعتمد المشرع سياسة تشريعية حديثة تهدف إلى إيجاد وسائل موازية للعدالة الجنائية، وكان التوسع في نظم العدالة التصالحية باستحداث نظام الوساطة الجنائية أهم هذه الوسائل، فالوساطة الجنائية تُعتبر آلية آمنة وفعالة لحل النزاعات، حيث تعتمد على مبدأ الرضائية بين الأطراف، وتهدف إلى تحقيق العدالة التصالحية من خلال الجبر الفوري للضرر الناشئ عن الجريمة وتأهيل الجاني وإصلاحه ليعود عضواً نافعاً في المجتمع، مما يؤدي إلى إعادة بناء العلاقات بين أطراف النزاع، وهو ما يسهم في استقرار المجتمع.
وقد تم إرساء نظام الوساطة لتسوية المنازعات من خلال المرسوم بقانون رقم 22 لسنة 2019، تلاه صدور قرار وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف رقم 32 لسنة 2020 بشأن تنظيم الوساطة في المسائل الجنائية في الجرائم التي يجوز فيها الصلح أو التصالح قانوناً، والتي توسع فيها المشرع بموجب القانون رقم (7) لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية، على النحو الذي يحقق العدالة التصالحية بين أطراف الدعوى الجنائية.
{ وما هو مفهوم الوساطة الجنائية؟
هي عملية يطلب فيها أطراف النزاع من شخص آخر يسمى الوسيط مساعدتهم على التوصل إلى اتفاق تسوية، وفقاً للأحكام والشروط المنصوص عليها في قانون الوساطة لتسوية المنازعات، وقرار وزير العدل بشأن تنظيم الوساطة في المسائل الجنائية.
وتعد الوساطة الجنائية نهجًا بديلًا للعدالة الجنائية التقليدية، يركز على حل النزاع بين الأطراف المتنازعة بطرق ودية وإصلاح الضرر الناجم عن الجريمة وإعادة دمج الجاني في المجتمع بدلاً من الاقتصار على تطبيق العقوبات الجنائية التقليدية.
{ وما هي أوجه الاختلاف بين الوساطة الجنائية والعدالة الجنائية التقليدية؟
تتمثل أهم الاختلافات بين الوساطة الجنائية والعدالة الجنائية التقليدية في نهج المعالجة، حيث إن العدالة الجنائية التقليدية تعتمد على تطبيق العقوبات، بينما الوساطة الجنائية تركز على التفاوض والتسوية.
كما يظهر الاختلاف في دور الأطراف حيث إنه في الوساطة الجنائية يكون للمجني عليه والجاني دور في تحديد الحلول، بينما في العدالة الجنائية التقليدية يقتصر دورهم غالبًا على الشكاية والدفاع.
- ما هي أنواع القضايا التي يمكن أن تخضع للوساطة الجنائية؟ وما أثرها على الدعوى الجنائية؟
الجرائم التي يجوز فيها الصلح أو التصالح أو التنازل، على النحو الذي يحقق العدالة التصالحية برضا المجني عليه، وبما لا يخالف النظام العام؛ حيث تنقضي الدعوى الجنائية بقوة القانون حال توافر شروطها القانونية.
ونص المشرع حصرا تلك الجرائم، وهي إساءة استعمال أجهزة المواصلات السلكية أو اللاسلكية، والامتناع عن إغاثة ملهوف، وأخذ جثة بغرض علمي أو تعليمي من دون موافقة صاحب الشأن، وخطف الصغير ممن حكم له بحضانته أو حفظه والاعتداء على سلامة جسم الغير (الاعتداء البسيط)، والتسبب بالخطأ في موت شخص، والمساس الخطأ بسلامة جسم الغير، والتعرض لأنثى على وجه يخدش حياءها، ودخول مسكن خلافا لإرادة صاحب الشأن، والتهديد بالسلاح، والتهديد بارتكاب جريمة كتابة أو شفاهة بواسطة شخص آخر، والنشـر علناً لصور تتعلق بأسرار الحياة الخاصة والعائلية، وفض رسالة أو برقية دون رضا من أرسلت إليه، والسـرقة البسيطة، واستعمال مركبة دون إذن صاحبها، والامتناع عن دفع الأجرة، والتهديد على تسليم نقود أو أشياء أخرى، وإفشاء أمور خادشة للشرف، والاحتيال، وخيانة الأمانة، واختلاس منقول مرهون لدى الغير أو الشروع فيه، والإتلاف العمدي، وإتلاف الأشجار، وقتل دابة من دواب الركوب أو الحمل أو الجر، وإتلاف العلامات المعدة لضبط المساحات، وتسوية الأراضي، وقتل حيوان مستأنس.
وأما بالنسبة للتصالح فهو إجراء يتم مع المتهم في كافة المخالفات والجنح المعاقب عليها بالغرامة فقط والجنح المعاقب عليها بالحبس الجوازي الذي لا يزيد حده الأقصـى على ستة أشهر، والتي لم يرد بشأنها نص خاص في القانون، بهدف إنهاء الدعوى الجنائية.
إلا أن هناك قوانين خاصة نصت على التصالح كقانون الضريبة الانتقائية، وقوانين تنظيم سوق العمل وتنظيم السياحة والبلديات.
{ وما هي القواعد التي تحكم الوساطة الجنائية؟
يتفق أطراف النزاع على القواعد التي تحكم الوساطة الجنائية والطريقة التي تجرى بها، وعند عدم الاتفاق يكون للوسيط الحق في إجراء الوساطة طبقًا للقواعد والطريقة التي يراها مناسبة وبما لا يخالف النظام العام.
{ في أي مرحلة يمكن اللجوء إلى الوساطة الجنائية؟
يمكن اللجوء إلى الوساطة في مرحلة الاستدلال، أو التحقيق، أو المحاكمة، أو عقب صدور حكم نهائي في الدعوى.
ويجوز التصالح أو الصلح بعد صدور الحكم الباتّ وفق الشروط المقرّرة عند إجرائه في مرحلة المحاكمة مضافا إليها سداد المحكوم عليه قيمة رسوم ومصاريف الدعوى، ويتم الإقرار به أمام قاضي تنفيذ العقاب، ويُصدر في هذه الحالة أمر بوقف تنفيذ العقوبة المقضي بها، وتسري في شأنه الأحكام المقررة في القانون بشأن وقف تنفيذ العقوبة.
{ من هو الوسيط؟ وما دوره في الوساطة الجنائية؟
الوسيط هو شخص طبيعي أو اعتباري أو أكثر يعهد إليه أطراف النزاع بالوساطة في المسائل الجنائية للتوصل إلى اتفاق تسوية فيما بينهم.
وينقسم الوسطاء إلى نوعين:
الوسيط المعتمد هو الوسيط المقيد في جدول الوسطاء المنشور على الموقع الإلكتروني لوزارة العدل والشؤون الإسلامية، والوسيط الخارجي هو الوسيط الذي يتفق عليه الأطراف من غير الوسطاء الجنائيين المعتمدين كأعضاء مجلس النواب والمحامين أو أي شخص له مكانة اجتماعية أو أسرية.
{ ما هو أثر تطبيق نظام الوساطة الجنائية على منظومة العدالة والمجتمع؟
يعد تطبيق نظام الوساطة الجنائية في مملكة البحرين خطوة مهمة نحو تعزيز العدالة التصالحية، حيث أسهم في تحقيق العديد من الفوائد لمنظومة العدالة والمجتمع، فمن الناحية القضائية ساعد في تخفيف الأعباء عن المحاكم من خلال تقليل عدد القضايا المنظورة، مما أدى إلى تسريع إجراءات التقاضي وتحقيق العدالة بكفاءة أكبر، كما أنه وفر بديلاً فعالًا للعقوبات التقليدية من خلال التركيز على التسوية، مما يعزز فرص إعادة تأهيل الجاني وإصلاح الضرر الواقع على الضحية.
أما على مستوى المجتمع فقد عزز نظام الوساطة الجنائية روح التسامح والمصالحة، وساهم في تقليل النزاعات، مما انعكس إيجابا على الاستقرار الاجتماعي كما أتاح للأطراف المتنازعة فرصة لحل الخلافات بطرق ودية تحافظ على العلاقات الاجتماعية، وتقلل من آثار النزاعات القانونية طويلة الأمد.
{ هل هناك خطط لتوسيع نطاق القضايا التي يمكن حلها بالوساطة الجنائية؟
نظام العدالة الجنائية التصالحية يشهد تطورًا مستمرًا، فقد تم توسيع نطاق الجرائم القابلة للصلح بموجب القانون رقم (7) لسنة 2020 بتعديل قانون الإجراءات الجنائية الذي أدرج (26) جريمة ضمن هذا الإطار وفقًا لنص المادة 21 مكرراً (أ) من القانون، كما أن هناك دراسات جارية للنظر في إمكانية توسيع نطاق القضايا المشمولة بالوساطة الجنائية مستقبلاً، بما يتوافق مع توجهات تعزيز العدالة التصالحية.
{ وما هي جهود النيابة العامة في دعم نظام العدالة التصالحية وتطبيق الوساطة الجنائية؟
في إطار تعزيز العدالة الجنائية التصالحية، نظّمت النيابة العامة مؤتمرًا حول هذا الموضوع بالتعاون مع وزارة الداخلية، وجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، ومعهد الدراسات القضائية والقانونية، وبمشاركة مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، في شهر يناير 2025، وقد تناول المؤتمر أهمية الوساطة الجنائية وأهدافها، بالإضافة إلى التوسع في نطاق جرائم الصلح والتصالح.
كما سبق للنيابة العامة أن عقدت ورشة عمل افتراضية بحضور سعادة النائب العام الدكتور علي بن فضل البوعينين في شهر ديسمبر 2020، والتي شهدت مشاركة نخبة من الخبراء والمتحدثين المتخصصين في هذا المجال.
وفي إطار جهودها المستمرة لنشر الوعي وتعزيز تطبيق العدالة التصالحية، أعدت النيابة العامة برنامجاً تدريبياً سنوياً يستهدف مديريات شرطة محافظات المحرق، العاصمة، الجنوبية، مع خطط مستقبلية لتنفيذ برنامج مماثل لمديرية شرطة المحافظة الشمالية. يهدف هذا البرنامج إلى تدريب أفراد قوات الأمن العام والباحثين القانونيين على آليات تطبيق نظم العدالة التصالحية، بما يسهم في تطوير إدارة وإنهاء الدعاوى الجنائية بفعالية.
إضافة إلى ذلك، نظّمت النيابة العامة العديد من ورش العمل التي استهدفت القضاة، وأعضاء النيابة العامة، والمحامين، والوسطاء الجنائيين، ومؤسسات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان، وغيرهم من المختصين في هذا المجال، وذلك بهدف تعزيز الفهم والتطبيق العملي لمبادئ العدالة التصالحية.
كما أن النيابة العامة تُعدّ جزءًا من الفريق المختص بالدورات التدريبية المتخصصة في معايير ومهارات ممارسة الوساطة الجنائية، والتي تُعدّ من الشروط الأساسية لقيد الوسيط الجنائي، ويتم تنفيذ هذه الدورات بالتعاون مع وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، ومعهد الدراسات القضائية والقانونية، لضمان إعداد كوادر مؤهلة في هذا المجال.
ويأتي هذا الاهتمام في إطار التعليمات المستمرة الصادرة من النائب العام الدكتور علي بن فضل البوعينين، الذي يؤكد أهمية تعزيز العدالة التصالحية كمسار بديل يحقق العدالة الناجزة ويخفف من تراكم القضايا أمام المحاكم. وقد أصدر تعميم رقم (17) لسنة 2020 بشأن الوساطة في المسائل الجنائية معني بتنظيم العمل في نظام الوساطة الجنائية ومبين فيه كيفية تطبيقه وشروط الصلح والتصالح لانقضاء الدعوى الجنائية، فضلاً عن التعليمات المستمرة لتعزيز برامج التدريب المتخصصة وتوسيع نطاق الجرائم القابلة للصلح والتصالح، علاوة على دعمه المستمر لتنفيذ مبادرات تهدف إلى نشر ثقافة الوساطة الجنائية بين الجهات المعنية وأفراد المجتمع وصولاً إلى إصدار قانون مستقل يعنى بالوساطة في المسائل الجنائية وفق لأحدث التجارب الدولية، فالنيابة العامة دائماً تنتهج أحدث السياسات الجنائية والعقابية والممارسات ذات الطابع التصالحي بما لا يتعارض مع سبل العدالة الجنائية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك