لقد فطر الله سبحانه الناسَ على فُهُومٍ مختلفة، وجعل بينهم تفاوتا في استيعاب الأمور، وتقديرات المواقف، وقد مضت سنته سبحانه في خلقه، أنهم يختلفون، ويحصل التنوع بينهم، ويكون لكل فرد منهم رؤيته، وفهمه للأحداث، ولا عيب في ذلك، بل هو تكامل مطلوب لتسير حياة الناس في الأرض.
ولما نزلت شريعة الله للناس أقرت هذا الاختلاف، وأعطت مساحة للناس تسمح بالخلاف في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، ومن هنا نُدرك حكمة الشارع إذ اعترف باختلاف البيئات، وتنوع البشر فأعطاهم حرية في ظل الضوابط الشرعية للخلاف في فهم نصوص محددة، وقد عَزز ذلك الشارع الحكيم بتعدد قراءات القرآن تيسيراً ورحمة، وفهم الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة») رواه البخاري)؛ قال النووي: وأما اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم بأن الصلاة مأمور بها في الوقت، مع أن المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم): لا يصلين أحد الظهر أو العصر إلا في بني قريظة المبادرة بالذهاب إليهم، وألا يشتغل عنه بشيء، لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث إنه تأخير، فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظراً إلى المعنى لا إلى اللفظ، فصلوا حين خافوا فوت الوقت، وأخذ آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته فأخروها، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين لأنهم مجتهدون.
وعلى هذا النسق قامت المذاهب الإسلامية فكل مذهب اعتمد نصوص الوحيين في قواعده وأسسه، لكن الخلاف يرد في فهم هذه النصوص، وتقديم بعضها على بعض حسب الصحة، وما يتبع ذلك من نسخ، وعمل وتنزيل لها في واقع حياة الناس.
ومن العجيب أنه ظهرت في عصورنا المتأخرة جماعات إسلامية اعتمدت الرأي الواحد، وأذابت الفرد في الجماعة، واعتمدت خطاً متطرفا يلغي المخالف.
بل شذ بعض أبناء هذه المدرسة ليطعنوا في رجال كان لهم القدح المعلى في نشر الإسلام وتفقيه الناس، فإنك تجد في زماننا من يسفه الإمام الأعظم أبا حنيفة، ومنهم من استطال في السفه فأصبح يرمي أئمة الإسلام بكل نقيصة، فلم يسلم منهم الكبار من أمثال النووي وابن حجر والسيوطي وغيرهم.
هؤلاء تلقوا من رؤوسهم، ومن المطالعات الحرة أفكارا واتجاهات لا تعرف إلا الرأي الواحد، واعتبروا أن كلّ مخالف لهم على الخطأ، وهذا أحد أسباب انتشار التطرف والغلو!
وما علم هؤلاء أن المخالفة أو الموافقة في الرأي لا تمحو حقاً ولا تثبت باطلاً.
وبالنظر الأوسع إلى حالة البشرية اليوم نجد أن التفرد وإلغاء الآخر ومحو هويته مآله الفشل والتخلف، بخلاف النظم التي تتبنى التنوع السياسي، والجغرافي، والتاريخي؛ في العادات، والتقاليد.
وما يعنينا في عالمنا الإسلامي أننا ذقنا مرارة التفرد، والرأي الواحد، فكانت النتائج تشتيت المجتمعات الإسلامية، وظهور التطرف الفكري الرافض للآخر حتى ولو كانت المنطلقات واحدة، والخلاف يسيراً، بل ظاهرياً فقط في بعض الأحايين.
تقول الكاتبة بشرى كنوز: حالة من الانقسام الحاد والاستقطاب المرضي، أصبحت السمة السائدة بين الناس على مستويات عدة في القرى والمدن، بين أفراد الأسرة والأصدقاء والمعارف، الجميع أصبح يمارس نوعا من الرذيلة الحوارية، ليصبحوا مجرد قوافل ردود وقذف على كل ما يتحرك لمجرد خلاف في الرأي.
وهم بردودهم النمطية قد تعدوا على المنطق السليم، وابتعدوا عن الحوار بمفهومه ومضمونه الذي طالما تمنيناه كثيرا، وبفضل الإعلام الأصفر الكاذب والطابور الخامس الذين لا همٌ لهم إلا خلق الفتن والاحقاد والنخب منزوعة الضمير ساد المجتمع مناخ من الخصومة المريرة والعداء والكراهية الممسوسة شرقا وغربا.
هذا النوع التفردي في التفكير وفق نهج «ما أريكم إلا ما أرى»، لا يخدم البشرية أبداً بل الناس أوجدهم ربهم لهم تطلعات، وبيئات؛ تحكم تصرفاتهم، وطرق تفكيرهم، فالأولى أن يترك الناسُ لبعضهم مساحات التنوع والخلاف، حتى تتلاقح الثقافات، ويتم تبادل الخبرات، وتكون الحكمة ضالة الناس، مَن وجدها هُدي بها، وساعتها ستجد البشرية في ظلال الإسلام غايتها، وتفيء إلى ما يُوافق فطرتها، ويُسعد سيرها وعيشها في الحياة.
فأعقل الناس من جمع إلى عقله عقول الناس، ذلك لأن العقول كالمصابيح إذا اجتمعت ازداد النور، ووضح السبيل؛ ولأن لكل عقل نوعاً من التفكير، وبعداً خاصاً، مما يجعل الفرد يستفيد من تلك الآراء والنقاشات كما تقول الكاتبة بشرى كنوز.
ولقد أصدر الكاتب الكبير عباس محمود العقاد كتابا شهيرا لتأكيد حرية التفكير بعنوان: «التفكير فريضة إسلامية».
إذن خلاف الرأي ظاهرة إنسانية، فيها من الإيجابيات، أضعاف ما فيها السلبيات، لو فُهمت على الوجه الصحيح، لكانت مدعاة للإثراء، والتنوع، والتجانس بين بني البشر، فمشيئة الله اقتضت أن يكون التنوع صفة ملازمة لوجود البشر، وأن الخلاف في وجهات النظر يجلب التوسع، والتيسير للإنسان حتى يسلك مناكب الأرض معمراً لها، ومستخلفاً فيها بالخير ونشر الوئام والسلام.
ولذلك لم يقف الإسلام عند حدّ إعطاء حق الاجتهاد والبحث والتعبير عن ذلك، بل أغرى بذلك إغراء وشجّع عليه تشجيعاً، وحسبنا في ذلك أن نتأمل حديث الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلّى اللهُ عليه وسلّم قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.
والحديث كما هو واضح لم يكتف بإباحة الاجتهاد - وهو اجتهاد في الدين وأحكامه، وفيه من الخطورة والحرج ما لا يُخفَى- ولم يكتف بتقرير الأجر للمجتهد المصيب، بل قرّر الأجر للمجتهد المخطئ أيضاً. وهذا معناه ألاّ يبقى على المجتهد خوف أو حرج حتى وهو معرَّض للخطأ.
بل هو في خطئه معذور وعلى اجتهاده مأجور، ويتضاعف الأجر بإدراك الصواب، تشجيعاً على تحريه والحرص عليه؛ ولذلك ظلّ المسلمون منذ عصر الصحابة -بل منذ العصر النبوي- يجتهدون ويختلفون، ويصيبون ويخطئون، ويردّ بعضهم على بعض، ويخطّئ بعضهم بعضاً، ويعذر بعضهم بعضاً، إلا في حالات نادرة من التعصّب والجمود.
سار عهد الخلفاء الراشدون على سنن العهد النبوي وهديه، فكان الخلفاء العظام رضي الله عنهم تجسيداً آخر لحرية القول والتعبير وحرية الاختلاف والمراجعة، ورحى النقد والمراجعة.
ولقد كان من أولى الكلمات التي أعلنها أبوبكر الصديق رضي الله عنه بعد مبايعته خليفة لرسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم قوله في خطبته الشهيرة: «فإنّ أحسنتُ فأعينوني وإن أسأت فقوموني».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك