العدد : ١٧٠٥٤ - الأحد ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٤ - الأحد ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الاسلامي

مـعـركـة «طـوفـان الأقـصـى» وسـنـن الله فـي تـحـقـيــق الـنـصـر

بقلم: د. مجدي قويدر *

الجمعة ٠٥ يوليو ٢٠٢٤ - 02:00

للنصر‭ ‬والهزيمة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الأمم‭ ‬والشعوب‭ ‬سنن‭ ‬وقوانين‭ ‬لا‭ ‬تتبدل‭ ‬ولا‭ ‬تتخلف‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المبحث‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬معركة‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الآتي‭:‬

ورد‭ ‬لفظ‭ ‬النصر‭ ‬ومشتقّاته‭ ‬مائة‭ ‬وثماني‭ ‬وخمسين‭ ‬مرّة‭ ‬في‭ ‬سبع‭ ‬وأربعين‭ ‬سورة،‭ ‬منها‭ ‬إحدى‭ ‬وثلاثون‭ ‬سورة‭ ‬مكّيّة،‭ ‬وستّ‭ ‬عشرة‭ ‬سورة‭ ‬مدنيّة،‭ ‬وكثر‭ ‬ذكر‭ ‬النصر‭ ‬وتعدّدت‭ ‬صيغه‭ ‬حتّى‭ ‬سمّيت‭ ‬سورة‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬بسورة‭ ‬النصر‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬أهمّيّته‭ ‬كقانون‭ ‬وسُنَّة،‭ ‬وضرورة‭ ‬الاحتفاء‭ ‬به‭ ‬لما‭ ‬يحمله‭ ‬من‭ ‬بشرى‭ ‬للمؤمنين‭ ‬وشفاء‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬صدورهم‭ ‬وذهاب‭ ‬لغيظ‭ ‬قلوبهم،‭ ‬وطمأنة‭ ‬لنفوسهم،‭ ‬قال‭ ‬سبحانه‭: ‬‮«‬وَمَا‭ ‬جَعَلَهُ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬إِلَّا‭ ‬بُشْرَى‭ ‬وَلِتَطْمَئِنَّ‭ ‬بِهِ‭ ‬قُلُوبُكُمْ‭ ‬وَمَا‭ ‬النَّصْرُ‭ ‬إِلَّا‭ ‬مِنْ‭ ‬عِنْدِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬إِنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬عَزِيزٌ‭ ‬حَكِيمٌ‮»‬‭ (‬الأنفال‭: ‬10‭)‬،‭ ‬وقوله‭: ‬‮«‬وَاذْكُرُوا‭ ‬إِذْ‭ ‬أَنْتُمْ‭ ‬قَلِيلٌ‭ ‬مُسْتَضْعَفُونَ‭ ‬فِي‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬تَخَافُونَ‭ ‬أَنْ‭ ‬يَتَخَطَّفَكُمُ‭ ‬النَّاسُ‭ ‬فَآوَاكُمْ‭ ‬وَأَيَّدَكُمْ‭ ‬بِنَصْرِهِ‭ ‬وَرَزَقَكُمْ‭ ‬مِنَ‭ ‬الطَّيِّبَاتِ‭ ‬لَعَلَّكُمْ‭ ‬تَشْكُرُونَ‮»‬‭ (‬الأنفال‭: ‬26‭)‬،‭ ‬وقوله‭: ‬‮«‬وَإِن‭ ‬يريدوا‭ ‬أَن‭ ‬يَخْدَعُوكَ‭ ‬فَإِنَّ‭ ‬حَسْبَكَ‭ ‬الله‭ ‬هُوَ‭ ‬الذي‭ ‬أَيَّدَكَ‭ ‬بِنَصْرِهِ‭ ‬وبالمؤمنين‮»‬‭ (‬الأنفال‭:‬62‭)‬،‭ ‬وقوله‭: ‬‮«‬وَإِنْ‭ ‬تَوَلَّوْا‭ ‬فَاعْلَمُوا‭ ‬أَنَّ‭ ‬اللهَ‭ ‬مَوْلَاكُمْ‭ ‬نِعْمَ‭ ‬الْمَوْلَى‭ ‬وَنِعْمَ‭ ‬النَّصِيرُ‮»‬‭ (‬الأنفال‭:‬40‭) ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الآيات‭ ‬كثير‭.‬

كشفت‭ ‬الآيات‭ ‬عن‭ ‬سُنَّة‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬نصر‭ ‬عباده‭ ‬المؤمنين‭ ‬وتأييده‭ ‬للمجاهدين‭ ‬على‭ ‬أعدائه‭ ‬الكافرين،‭ ‬وسنن‭ ‬الله‭ ‬مطّردة،‭ ‬فمع‭ ‬وجوب‭ ‬الأخذ‭ ‬بالأسباب‭ ‬وإعداد‭ ‬القوّة‭ ‬الممكنة‭ ‬من‭ ‬الوسائل‭ ‬المادّيّة‭ ‬والمعنويّة‭ ‬والتعبئة‭ ‬الروحيّة؛‭ ‬لتحقيق‭ ‬النصر،‭ ‬فالأسباب‭ ‬الظاهرة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلّا‭ ‬ابتلاء‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬لعباده‭ ‬واختباره‭ ‬لهم؛‭ ‬ليعملوا‭ ‬بمقتضى‭ ‬التكليف،‭ ‬ويلتزموا‭ ‬بالسنن‭ ‬الإلهيّة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الأسباب‭ ‬بمسبّباتها،‭ ‬ويوقنوا‭ ‬بأنّ‭ ‬الأسباب‭ ‬لا‭ ‬تترتّب‭ ‬عليها‭ ‬نتائجها‭ ‬إلّا‭ ‬بإذن‭ ‬الله،‭ ‬وأنّ‭ ‬الأمر‭ ‬كلّه‭ ‬بيد‭ ‬الله‭ ‬وحده،‭ ‬فلا‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬ملكه‭ ‬إلّا‭ ‬ما‭ ‬أراد،‭ ‬ولحكمة‭ ‬يعلمها‭ ‬الله؛‭ ‬ليستقرّ‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬قلب‭ ‬المؤمن‭ ‬أنّ‭ ‬النصر‭ ‬بيد‭ ‬الله،‭ ‬يمنحه‭ ‬من‭ ‬يشاء‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يشاء،‭ ‬فهو‭ ‬وحده‭ ‬الناصر،‭ ‬وأنّ‭ ‬الوسائل‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬كثيرة‭ ‬ووفيرة،‭ ‬فلا‭ ‬تعدو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ستارًا‭ ‬لقدر‭ ‬الله،‭ ‬فالله‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يأذن‭ ‬بإعمال‭ ‬الأسباب‭ ‬وترتّب‭ ‬النتائج،‭ ‬فقال‭ ‬سبحانه‭: ‬‮«‬وَمَا‭ ‬النَّصْرُ‭ ‬إِلَّا‭ ‬مِنْ‭ ‬عِنْدِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬إِنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬عَزِيزٌ‭ ‬حَكِيمٌ‮»‬‭ (‬الأنفال‭: ‬10‭) ‬والتعبير‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬من‭ ‬أقوى‭ ‬أساليب‭ ‬الحصر‭ ‬وهو‭ ‬النفي‭ ‬بـ‭(‬ما‭) ‬المتبوع‭ ‬بالاستثناء‭ ‬بـ‭(‬إلّا‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬يفيد‭ ‬هنا‭ ‬حصر‭ ‬النصر‭ ‬في‭ ‬الله‭ ‬وحده،‭ ‬فالنّصر‭ ‬يتنزّل‭ ‬بإذنِه‭ ‬سبحانه‭ ‬وحده،‭ ‬لا‭ ‬بعدد‭ ‬ولا‭ ‬عدّة‭ ‬حتّى‭ ‬يتعلّق‭ ‬قلب‭ ‬المؤمن‭ ‬بالله‭ ‬وحده،‭ ‬ويستشعر‭ ‬طلاقة‭ ‬القدرة‭ ‬الربّانيّة‭ ‬وفاعليّتها‭ ‬الكاملة‭ ‬في‭ ‬الكون،‭ ‬وأنّ‭ ‬الأسباب‭ ‬لا‭ ‬تفعل‭ ‬بذاتها،‭ ‬وهذا‭ ‬يحفظ‭ ‬على‭ ‬المسلم‭ ‬عقيدته‭ ‬وإيمانه،‭ ‬ويبصّره‭ ‬بحقيقة‭ ‬السُّنن‭ ‬الإلهيّة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬حركة‭ ‬الحياة‭.‬

وإذا‭ ‬تخلّفت‭ ‬الأسباب‭ ‬أو‭ ‬ضعفت،‭ ‬فالله‭ ‬يمنحها‭ ‬مسبباتها،‭ ‬ويرتّب‭ ‬عليها‭ ‬نتائجها‭ ‬امتنانًا‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يشاء‭ ‬من‭ ‬عباده،‭ ‬فينصر‭ ‬الضعفاء‭ ‬على‭ ‬الأقوياء،‭ ‬والفئة‭ ‬القليلة‭ ‬على‭ ‬الفئة‭ ‬الكثيرة‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬ينقض‭ ‬سننه‭ ‬الثابتة،‭(‬58‭) ‬فالله‭ ‬أيّد‭ ‬المسلمين‭ ‬وساعدهم‭ ‬على‭ ‬بلوغ‭ ‬الهدف‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬بدر،‭ ‬وأنزل‭ ‬ملائكته‭ ‬تقاتل‭ ‬معهم،‭ ‬وتثبّت‭ ‬أقدامهم،‭ ‬‮«‬إِذْ‭ ‬تَسْتَغِيثُونَ‭ ‬رَبَّكُمْ‭ ‬فَاسْتَجَابَ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬أَنِّي‭ ‬مُمِدُّكُمْ‭ ‬بِأَلْفٍ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْمَلائِكَةِ‭ ‬مُرْدِفِينَ‮»‬‭ (‬الأنفال‭: ‬9‭)‬،‭ ‬وغشّاهم‭ ‬النعاس‭ ‬ليهدئ‭ ‬روعهم،‭ ‬ويذهب‭ ‬خوفهم،‭ ‬وأغاثهم‭ ‬بالمطر؛‭ ‬ليطهّرهم‭ ‬من‭ ‬رجز‭ ‬الشيطان،‭ ‬ويثبّت‭ ‬الأرض‭ ‬تحت‭ ‬أقدامهم،‭ ‬وأفاض‭ ‬على‭ ‬نفوسهم‭ ‬بالسّكينة،‭ ‬وهذا‭ ‬المدد‭ ‬من‭ ‬عنده‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلّا‭ ‬وسيلة‭ ‬للبشرى‭ ‬وطمأنة‭ ‬القلوب‭ ‬بوعده‭ ‬بالنّصر،‭ ‬‮«‬وَمَا‭ ‬جَعَلَهُ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬إِلَّا‭ ‬بُشْرَى‭ ‬وَلِتَطْمَئِنَّ‭ ‬بِهِ‭ ‬قُلُوبُكُمْ‮»‬‭ (‬الأنفال‭: ‬10‭)‬،‭ ‬فسخّر‭ ‬الله‭ ‬السنن‭ ‬الكونيّة‭ ‬لنصرة‭ ‬عباده،‭ ‬وأنزل‭ ‬جنوده؛‭ ‬لتثبيت‭ ‬المؤمنين،‭ ‬وإلقاء‭ ‬الرعب‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الكافرين،‭ ‬وضرب‭ ‬رقابهم؛‭ ‬وأتاهم‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يحتسبوا،‭ ‬ولم‭ ‬تغنِ‭ ‬عنهم‭ ‬كثرتهم‭ ‬العدديّة‭ ‬وقوّتهم‭ ‬العسكريّة،‭ ‬وهزموا‭ ‬شرّ‭ ‬هزيمة‭ ‬بتدبير‭ ‬الله‭ ‬للمعركة‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬أعدائهم‭ ‬والرمي‭ ‬عنهم‭ ‬‮«‬وَمَا‭ ‬رَمَيْتَ‭ ‬إِذْ‭ ‬رَمَيْتَ‭ ‬وَلَكِنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬رَمَى‮»‬‭ (‬الأنفال‭: ‬17‭)‬،‭ ‬وخذل‭ ‬الله‭ ‬الكافرين،‭ ‬وأوهن‭ ‬كيدهم،‭ ‬وأضعف‭ ‬تدبيرهم،‭ ‬‮«‬ذَلِكُمْ‭ ‬وَأَنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬مُوهِنُ‭ ‬كَيْدِ‭ ‬الْكَافِرِينَ‮»‬‭ (‬الأنفال‭: ‬18‭)‬،‭ ‬فالذين‭ ‬كفروا‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يعجزوا‭ ‬الله،‭ ‬أو‭ ‬يعجزوا‭ ‬عباده‭ ‬المؤمنين،‭ ‬والله‭ ‬معهم‭ ‬وناصرهم‭ ‬‮«‬وَلاَ‭ ‬تَحْسِبَنَّ‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬كَفَرُوا‭ ‬سَبَقُوا‭ ‬إِنَّهُمْ‭ ‬لاَ‭ ‬يُعْجِزُونْ‮»‬‭ (‬الأنفال‭ ‬60‭) ‬فالله‭ ‬يتولّى‭ ‬الصالحين‭ ‬بالنّصرة‭ ‬والتأييد،‭ ‬ويخذل‭ ‬من‭ ‬يناوئهم‭ ‬من‭ ‬الكافرين‭ ‬‮«‬ذَلِكَ‭ ‬بِأَنَّ‭ ‬الله‭ ‬مَوْلَى‭ ‬الذين‭ ‬آمَنُواْ‭ ‬وَأَنَّ‭ ‬الكافرين‭ ‬لاَ‭ ‬مولى‭ ‬لَهُمْ‮»‬‭ (‬محمد‭: ‬11‭) ‬فلا‭ ‬تفكّروا‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬أحد،‭ ‬ولا‭ ‬تطلبوا‭ ‬النصرة‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الله،‭ ‬فهو‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬نصركم‭ ‬وهو‭ ‬خير‭ ‬ناصر‭ ‬ومعين،‭ ‬‮«‬بَلِ‭ ‬الله‭ ‬مَوْلاَكُمْ‭ ‬وَهُوَ‭ ‬خَيْرُ‭ ‬الناصرين‮»‬‭ (‬آل‭ ‬عمران‭: ‬150‭)‬،‭ ‬ولن‭ ‬يقوى‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬هزيمتكم‭ ‬ما‭ ‬دمتم‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬الله،‭ ‬وتقاتلون‭ ‬معتمدين‭ ‬على‭ ‬نصرة‭ ‬الله،‭ ‬فهو‭ ‬نعم‭ ‬المولى‭ ‬ونعم‭ ‬النصير‭.‬

والآيات‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الأنفال‭ ‬للتعقيب‭ ‬على‭ ‬غزوة‭ ‬بدر‭ ‬تقرّر‭ ‬دستور‭ ‬النصر‭ ‬والهزيمة،‭ ‬وتكشف‭ ‬عن‭ ‬أسباب‭ ‬النصر‭ ‬وأسباب‭ ‬الهزيمة؛‭ ‬الأسباب‭ ‬الحقيقيّة‭ ‬لا‭ ‬الأسباب‭ ‬الظاهرة‭ ‬المادّية،‭ ‬وغزوة‭ ‬بدر‭ ‬بأحداثها‭ ‬وتفاصيلها‭ ‬تشكّل‭ ‬كتابًا‭ ‬مفتوحًا‭ ‬تقرؤه‭ ‬الأجيال‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬زمان‭ ‬وفي‭ ‬كلّ‭ ‬مكان،‭ ‬لا‭ ‬تتبدّل‭ ‬دلالتها‭ ‬ولا‭ ‬تتغير‭ ‬طبيعتها،‭ ‬فهي‭ ‬آية‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬اللّه،‭ ‬وسنّة‭ ‬من‭ ‬سننه‭ ‬الجارية‭ ‬في‭ ‬خلقه،‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭.‬

وسُنَّة‭ ‬النصر‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬ذات‭ ‬البعد‭ ‬العقديّ،‭ ‬تحرّر‭ ‬المسلم‭ ‬من‭ ‬الارتهان‭ ‬للقوى‭ ‬الأرضيّة،‭ ‬والتعلّق‭ ‬بالأسباب‭ ‬المادّيّة‭ ‬الظاهرة،‭ ‬وتحرّره‭ ‬من‭ ‬ربقة‭ ‬الاستسلام‭ ‬لواقع‭ ‬الضعف،‭ ‬أو‭ ‬القبول‭ ‬بالذّلّ‭ ‬والتبعيّة،‭ ‬أو‭ ‬الانهزام‭ ‬أمام‭ ‬قوى‭ ‬البغي؛‭ ‬لكثرة‭ ‬عددها‭ ‬وقوّة‭ ‬عتادها،‭ ‬وتربطه‭ ‬بالقوّة‭ ‬العظمى‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تهزم،‭ ‬والإرادة‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقاوم،‭ ‬والقدرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يصمد‭ ‬أمامها‭ ‬شيء؛‭ ‬ليطلب‭ ‬العون‭ ‬والمدد‭ ‬منها،‭ ‬ويستجلب‭ ‬النصر‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬وحده،‭ ‬‮«‬إِنْ‭ ‬يَنْصُرْكُمُ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬فَلا‭ ‬غَالِبَ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬وَإِنْ‭ ‬يَخْذُلْكُمْ‭ ‬فَمَنْ‭ ‬ذَا‭ ‬الَّذِي‭ ‬يَنْصُرُكُمْ‭ ‬مِنْ‭ ‬بَعْدِهِ‮»‬‭ (‬آل‭ ‬عمران‭: ‬160‭).‬

كما‭ ‬أنّها‭ ‬تصحّح‭ ‬التصوّر‭ ‬للحياة،‭ ‬والنظر‭ ‬للقوانين‭ ‬الكونيّة،‭ ‬والأسباب‭ ‬المادّيّة،‭ ‬وكأنّها‭ ‬تعمل‭ ‬مستقلّة‭ ‬بذاتها،‭ ‬أو‭ ‬منفصلة‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬الله،‭ ‬فيتعلّق‭ ‬القلب‭ ‬بالوسائل‭ ‬والأدوات،‭ ‬ويغفل‭ ‬عن‭ ‬الفاعل‭ ‬الحقيقيّ‭ ‬وهو‭ ‬الله،‭ ‬فالكثرة‭ ‬العدديّة‭ ‬والقوّة‭ ‬المادّيّة‭ ‬مؤثّرة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬المعركة،‭ ‬وهو‭ ‬جزء‭ ‬مهمّ‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬القوّة،‭ ‬لكنّها‭ ‬لا‭ ‬تحسم‭ ‬نتيجة‭ ‬المعركة‭ ‬لصالح‭ ‬الأقوياء،‭ ‬فهي‭ ‬غير‭ ‬فاعلة‭ ‬بذاتها،‭ ‬فالقوّة‭ ‬المعنويّة،‭ ‬والعناية‭ ‬الربّانيّة،‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬بها‭ ‬القوّة‭ ‬الروحانّيّة،‭ ‬أحقّ‭ ‬بالنّصر‭ ‬من‭ ‬القوّة‭ ‬المادّيّة‭.‬

وقد‭ ‬تجلّت‭ ‬سُنَّة‭ ‬النصر‭ ‬للمؤمنين‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى‭ ‬يوم‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬2023م،‭ ‬حيث‭ ‬أثخنت‭ ‬المقاومة‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬العدوّ‭ ‬قتلًا‭ ‬وأسرًا،‭ ‬وأسقطت‭ ‬منظومته‭ ‬الأمنيّة‭ ‬وهيبته‭ ‬العسكريّة،‭ ‬وأذاقتهم‭ ‬مرارة‭ ‬الهزيمة،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬العدو‭ ‬بكل‭ ‬قوته‭ ‬وترسانته‭ ‬العسكرية‭ ‬وجبروته‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬المقاومة‭ ‬وتفكيك‭ ‬قواها،‭ ‬أو‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬قادة‭ ‬المقاومة،‭ ‬وعجز‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬أسراه‭ ‬الذين‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬المقاومة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الآلة‭ ‬العسكرية،‭ ‬وهو‭ ‬بالمناسبة‭ ‬أكثر‭ ‬ملف‭ ‬ضاغط‭ ‬على‭ ‬عصب‭ ‬حكومة‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬وحتى‭ ‬على‭ ‬الادارة‭ ‬الامريكية‭ ‬التي‭ ‬أرسلت‭ ‬فرقة‭ ‬دلتا‭ ‬المتخصصة‭ ‬بتحرير‭ ‬الرهائن‭ ‬والأسرى‭ ‬دون‭ ‬حدوث‭ ‬أي‭ ‬فارق‭ ‬يُذكر‭.‬

وهذا‭ ‬النصر‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬للمقاومة‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بقوتها‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬تهديد‭ ‬العدو،‭ ‬وتثبيت‭ ‬وضعيتها‭ ‬السياسية‭ ‬وشرعيتها‭ ‬وإفشال‭ ‬العدو‭ ‬ومخططاته،‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬خوض‭ ‬معارك‭ ‬المدن‭ ‬والشوارع‭ ‬باقتدار‭ ‬وإبداع،‭ ‬وأعادت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة‭ ‬ومكانتها‭ ‬التي‭ ‬تستحقها‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الأمة‭ ‬وضميرها،‭ ‬ومقدمة‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬الانتصار‭ ‬لها‭ ‬والتضحية‭ ‬في‭ ‬سبيلها،‭ ‬وأثبتت‭ ‬إمكانية‭ ‬هزيمة‭ ‬هذا‭ ‬العدو،‭ ‬وأن‭ ‬التحرير‭ ‬ممكن،‭ ‬والنصر‭ ‬عليهم‭ ‬ليس‭ ‬مستحيلا‭.‬

إن‭ ‬المعركة‭ ‬الطوفان‭ ‬هي‭ ‬بداية‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬التحرير‭ ‬الذي‭ ‬تلوح‭ ‬بشائره‭ ‬في‭ ‬الآفاق،‭ ‬ومقدّمة‭ ‬الزحف‭ ‬نحو‭ ‬تطهير‭ ‬المسجد‭ ‬الأقصى‭ ‬من‭ ‬دنس‭ ‬الصهاينة،‭ ‬فوعد‭ ‬الله‭ ‬قائم‭ ‬وسنّته‭ ‬ماضية،‭ ‬ونصره‭ ‬أكيد‭ ‬لعباده‭ ‬المؤمنين،‭ ‬وهزيمته‭ ‬لأعدائه‭ ‬من‭ ‬المجرمين‭.‬

وفي‭ ‬الختام‭: ‬إنّ‭ ‬معركة‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى‭ ‬قد‭ ‬أضاءت‭ ‬فجرًا‭ ‬جديدًا،‭ ‬وفتحت‭ ‬آفاقًا‭ ‬بعيدة‭ ‬لمستقبل‭ ‬الأمّة،‭ ‬وبدّدت‭ ‬القتام‭ ‬الذي‭ ‬يحجب‭ ‬مستقبل‭ ‬التحرّر،‭ ‬ووضّحت‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬استعادة‭ ‬المسجد‭ ‬الأقصى‭.‬

بعد‭ ‬هذه‭ ‬القراءة‭ ‬لمعركة‭ ‬الطوفان‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬السنن‭ ‬الإلهيّة‭ ‬نأمل‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نتيجة‭ ‬هذه‭ ‬المعركة‭ ‬إيذانًا‭ ‬ببدء‭ ‬معركة‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين‭ ‬ونهاية‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬وتتبير‭ ‬علوّه‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬وتطهير‭ ‬المسجد‭ ‬الأقصى‭ ‬من‭ ‬رجس‭ ‬المحتلين،‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬علينا‭ ‬الوعي‭ ‬به‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭:‬

1-‭ ‬ضرورة‭ ‬الوعي‭ ‬بالسنن‭ ‬الإلهيّة‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الحق‭ ‬والباطل،‭ ‬فهي‭ ‬تبشّر‭ ‬بقرب‭ ‬زوال‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬المحتلّ،‭ ‬وتبعث‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الأجيال‭ ‬بأنّ‭ ‬النصر‭ ‬قريب،‭ ‬وهزيمة‭ ‬العدوّ‭ ‬ممكنة،‭ ‬برغم‭ ‬قلّة‭ ‬العتاد‭ ‬والزّاد،‭ ‬فالنّصر‭ ‬منحة‭ ‬إلهيّة،‭ ‬وسنّة‭ ‬حتميّة‭ ‬لمن‭ ‬أخذ‭ ‬بمعاييرها،‭ ‬وسلك‭ ‬دروبها،‭ ‬وأخذ‭ ‬بأسبابها‭ ‬متوكّلًا‭ ‬على‭ ‬الله،‭ ‬معتمدًا‭ ‬عليه،‭ ‬متسلّحًا‭ ‬بالصبر‭ ‬والثبات،‭ ‬ملتجئًا‭ ‬إلى‭ ‬معيّته،‭ ‬فهو‭ ‬ملاذ‭ ‬المجاهدين،‭ ‬وحصن‭ ‬المدافعين‭ ‬عن‭ ‬حرمة‭ ‬الأوطان‭ ‬والدين،‭ ‬لا‭ ‬يتركهم‭ ‬وحدهم‭ ‬دون‭ ‬ظهير‭ ‬أو‭ ‬نصير،‭ ‬يمكر‭ ‬لهم‭ ‬كما‭ ‬يبطل‭ ‬مكر‭ ‬عدوّهم‭ ‬وهو‭ ‬خير‭ ‬الماكرين،‭ ‬ولن‭ ‬تغني‭ ‬عنهم‭ ‬قوّتهم‭ ‬ولا‭ ‬جيوشهم،‭ ‬وستبوء‭ ‬جهودهم‭ ‬بالفشل‭ ‬والهزيمة‭ ‬فريقًا‭ ‬تقتلون‭ ‬وتأسرون‭ ‬فريقًا‭.‬

2-إنّ‭ ‬اكتشاف‭ ‬السنن‭ ‬الإلهيّة،‭ ‬وكيفيّة‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬وتسخيرها،‭ ‬وقراءة‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬ضوئها،‭ ‬ضرورة‭ ‬ملحة،‭ ‬وواجب‭ ‬دينيّ،‭ ‬خاصّة‭ ‬سنن‭ ‬الصّراع‭ ‬بين‭ ‬الحقّ‭ ‬والباطل،‭ ‬وكيفيّة‭ ‬عملها‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬كفيل‭ ‬بحسم‭ ‬مادّة‭ ‬الشرّ،‭ ‬وتقليم‭ ‬أظافر‭ ‬الباطل‭.‬

3-‭ ‬كل‭ ‬الأمم‭ ‬والمجتمعات‭ ‬عبر‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬الطويل‭ ‬وما‭ ‬جرى‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬تحولات‭ ‬وتغييرات‭ ‬إيجابية‭ ‬كان‭ ‬لأخذها‭ ‬بسنن‭ ‬النهوض‭ ‬الحضاري،‭ ‬وما‭ ‬تعرضت‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬سقوط‭ ‬وانهيار‭ ‬كان‭ ‬بسبب‭ ‬غفلتها‭ ‬وسيرها‭ ‬عكس‭ ‬السنن‭.‬

4‭- ‬ضرورة‭ ‬حشد‭ ‬الطاقات‭ ‬والإمكانات‭ ‬المادية‭ ‬لمواصلة‭ ‬تطوير‭ ‬أداء‭ ‬المقاومة‭ ‬ومراكمة‭ ‬القوة‭ ‬والخبرة‭ ‬العسكرية؛‭ ‬لمدافعة‭ ‬مشروع‭ ‬العدو‭ ‬الصهيوني،‭ ‬وأن‭ ‬واجب‭ ‬الإعداد‭ ‬والإمداد‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الأمة‭ ‬بأسرها،‭ ‬ولا‭ ‬يعفى‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬العاجز‭.‬

*‭ ‬داعية‭ ‬إسلامي‭ ‬من‭ ‬فلسطين

وأستاذ‭ ‬في‭ ‬أصول‭ ‬الفقه

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا