تجاوزت حاجز الزمان والمكان وباتت مظهرا دائما في بعض الشوارع
الاختناقات المروية تنعكس سلبا على الإنتاجية واستقطاب الاستثمارات والتنمية الاقتصادية
بعض المدن تخسر 11 مليار دولار سنويا بسبب نقص الإنتاجية الناجمة عن الاختناقات
تقرير «الرقابة»: 13 طريقا رئيسيا فـي البحرين يتجاوز حجم الحركة المرورية فيها طاقتها الاستيعابية
لا متابعة دورية لتوصيات «تحسين انسيابية الحركة المرورية».. ولا دراسات لبعض مشاريع تطوير الطرق
في استعراضه لعمليات تحسين انسيابية الحركة المرورية وتطوير المواصلات العامة، أشار تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية 2023 إلى وجود 13 طريقا رئيسيا في البحرين يتجاوز حجم الحركة المرورية فيها طاقتها الاستيعابية في أوقات الذروة.
ورصد التقرير عدم وجود متابعة دورية لاحقة للتوصيات الواردة في الدراسة الاستشارية المعنية بدراسة تحسين انسيابية الحركة المرورية وذلك على الرغم من مرور خمس سنوات على اعتمادها، الأمر الذي ترتب عليه عدم تنفيذ العديد من التوصيات والحاجة إلى تعزيز الجهود المبذولة لتنفيذها.
من جانب آخر، أكد تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية عدم وجود دراسات مرورية مسبقة لبعض مشاريع تطوير الطرق التي نفذتها وزارة الاشغال مشروع تطوير شارع سار ومشروع إعادة تأهيل تقاطع الجسرة بحيث يتم تحديد الخيارات المتاحة والتأثيرات المرورية المتوقعة من كل خيار في تحسسين مستوى الخدمة على الطرق. وعلى الوتيرة ذاتها كشف التقرير عن اقتصار استخدام الكاميرات الذكية على رصد مخالفات السرعة وتجاوز الإشارات الضوئية دون غيرها من المخالفات التي قد تسبب تعطيل حركة المرور، فضلا عن تعطل 34 كاميرا ذكية في عدد من المناطق. بالطبع كان رد الجهات المعنية وكالعادة بانها تبذل قصارى جهدها في اعداد الدراسات ووضع السياسات المتكاملة لحل مشكلة الاختناقات المرورية وضمان انسيابية حركة المرور.
ما تشهده شوارع البحرين من جهود كبيرة لتوسعة شبكة الطرق دليل على وجود توجه جاد للتعامل مع هذه المشكلة. والامثلة كثيرة وشاهدة على هذه الجهود منها شارع الفاتح ومخرج سار الذي عالج مشكلة كبيرة بالفعل، وكذلك الحال في إشارة الخارطة سابقا وتقاطع الفاروق وغيرها من المناطق التي عولجت مشكلة الاختناقات المرورية فيها بشكل ملفت.
ولكن يبقى السؤال مطروحا: هل تتناسب هذه الجهود مع حجم الزيادة السنوية في اعداد المركبات وتزايد عدد السكان بين مواطنين ومقيمين؟
ربما الواقع يؤكد العكس في مناطق كثيرة. فمشكلة الاختناقات لم تعد مقتصرة على ساعات الذروة او مناطق معينة، بل تخطت حاجز الزمان والمكان وباتت سمة غالبة على الكثير من الطرقات في كل أغلب الأوقات. حيث بتنا نفاجأ باختناقات في أوقات ومناطق غير متوقعة، بل بات من المستغرب أحيانا ألا تجد طوابير سيارات عندما تخرج في مشوار ما! ومع تحول الكثير من القرى والشوارع الداخلية إلى طرقات تجارية، أصبحت البنى التحتية والطاقة الاستيعابية عاجزة كل العجز عن استيعاب الحركة المرورية. ولا مثال أكثر وضوحا من شارع البديع الذي يئن طوال اليوم من طوابير السيارات المتراصة في أغلب اجزائه.
في عام 2004 اعدت اخبار الخليج تحقيقا حول هذا الموضوع، ومن المعلومات المهمة التي خرجنا بها أن عدد السيارات كان يزيد كل عام بنسبة 9%، وهي نسبة لا تواكبها التوسعة والزيادة السنوية في شبكة الطرق التي كانت تبلغ آنذاك 2768 كيلومترا. وبالتأكيد هذه الأرقام تضاعفت بعد مرور عشرين عاما، وبلغ طول شبكة الطرق المعبدة مثلا 4,543 عام 2022 (وفقا لبيانات هيئة المعلومات والحكومة الالكترونية). ووفقا للإحصائيات الرسمية، بلغ عدد المركبات المسجلة لدى الإدارة العامة للمرور حتى أكتوبر 2023 (750341) مركبة.
مشكلة عالمية
الاختناقات المرورية تعتبر مشكلة عالمية تعاني منها الكثير من المدن. وتختلف حدتها وتتفاوت أسبابها من منطقة لأخرى، ولكن تبقى هناك مسببات مشتركة في مقدمتها: تزايد عدد السيارات بشكل عشوائي، عدم استخدام وسائل النقل العام بالشكل المطلوب بسبب ضعف الخدمات أو عدم تنظيمها، ضيق شبكة الطرق وعدم تناسبها مع الزيادة في عدد السكان والمركبات، قلّة الأماكن المخصصة لركن السيارات، التصرفات والعادات السيئة التي يقوم بها بعض السائقين.
وأمام ذلك، يبقى التفاوت بين المدن والدول في خطط وسياسات التعامل مع هذه المشكلة. فمثلا اتجهت الكثير من الدول إلى تطوير شبكة المواصلات العامة والنقل الذكي بشكل أسهم في تخفيف الاعتماد على المركبات الخاصة. ومدن أخرى خصصت مسارات خاصة للنقل العام، غيرها عمدت إلى إعادة تأهيل كامل لشبكة الطرق. وهذا ما اتضح جليا في دول مثل تايلند والهند والبرازيل التي كانت معروفة بالاختناقات المرورية، حيث اعتمدت تلك الدول برامج وميزانيات ضخمة لمعالجة المشكلة بعد أن لمست ما تمثله من تهديد، ونجح بعضها إلى حد كبير في ذلك.
وهنا نعود إلى تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية مرة أخرى، حيث أكد التقرير وجود تأخير في تنفيذ مشروع مترو البحرين مما يعطل من تحقيق الأهداف المرجوة، واظهر التقرير عدم وجود مسارات خاصة لحافلات النقل الجماعي ومنح أولوية العبور لها على الرغم من ادراج ذلك ضمن المخطط الاستراتيجي للنقل المعد عام 2003.
مشكلة مؤرقة
في استطلاع سابق أعدته «أخبار الخليج» شارك فيه (4967) مواطنا ومقيما، أكد 97% من المشاركين أن الاختناقات المرورية باتت تمثل بالنسبة لهم مشكلة كبيرة ومقلقة بشكل يومي. وقال 0.5% (نصف بالمائة) انهم لا يعانون من مشكلة الاختناقات المرورية.
وخلص الاستطلاع إلى أن 54% من السائقين يقضون فترات تصل إلى ساعتين في اليوم في قيادة مركباتهم بسبب الاختناقات. فيما أقر (27%) أنهم يقضون ما بين 2-3 ساعات يوميا في الاختناقات. وطالب مشاركون بحلول طوية المدى و(أكثر حداثة) مثل القطارات ووسائل المواصلات المتطورة.
آثار سلبية
انعكاسات مشكلة الاختناقات لا تقتصر على ضياع الوقت وتأخر الوصول إلى الجهة المستهدفة، بل تتجاوز ذلك بكثير.
ويؤكد الاختصاصيون هنا أن الامر يرتبط قطاع المواصلات وبالبنية التحتية، وأن سرعة الوصول إلى الوجهات المطلوبة بات من المعايير الأساسية للنمو الاقتصادي، ما يعني ان أي شيوع للاختناقات المروية في أي دولة لا يمثل عامل جذب للاستثمارات الأجنبية أو تحسين البيئة الاستثمارية. في حين أن تطوير المواصلات والتغلب على مشكلة الاختناقات يساعد على تحقيق النمو ويجذب الاستثمارات ويخفض من الكلفة الإنتاجية ويسهم في دعم عوامل الإنتاج بما في ذلك العمالة والسلع والمواد الخام.
فضلا عن الانعكاسات على السياحة البينية والتنقل الداخلي، وانخفاض الإنتاجية، حيث تشير الدراسات إلى ان «أحد أهم تأثيرات الاختناقات المرورية على الشركات هو انخفاض الإنتاجية» ووجدت دراسة أجراها معهد تكساس للنقل أن الازدحام المروري في الولايات المتحدة تسبب في خسارة حوالي 9.3 مليارات ساعة من الإنتاجية عام 2019. كما تسبب الازدحامات المرورية زيادة التكاليف على الشركات خاصة الصغيرة، حيث اكدت دراسة لشركة «INRIX» الأمريكية والمتخصصة في الدراسات التحليلية أن الازدحام المروري في مدينة لوس انجلوس وحدها يتسبب بنحو 11 مليار دولار سنويا من فقدان الإنتاجية وزيادة استهلاك الوقود.
وأشارت دراسة بجامعة «هارفارد» إلى أن الاختناقات المرورية في مدن الولايات المتحدة مسؤولة عما يزيد على 2200 حالة وفاة مبكرة في السنة. وأن السائقين يمضون في الازدحام المروري أكثر من 100 ساعة في السنة في أوقات الذروة فقط، وهو ما يضيف مليارات الدولارات من الخسائر.
وهذا ما يقودنا إلى الاستفهام حول الاثار الصحية والنفسية للاختناقات المرورية.
مشاكل لا تحمد عقباها
يؤكد الاختصاصيون هنا ان أبرز اثار هذه المشكلة هو الشعور بالتوتر بسبب طول فترات الوقوف والانتظار. ويزداد التوتر بسبب القلق من التأخر على العمل أو المواعيد، وهنا تتفاوت القدرة على التعامل مع هذا التوتر من شخص إلى آخر. ومع وجود حالة توتر عامة بين السواق، تظهر بعض السلوكيات مثل الاستعجال واستخدام «الهرن» والقيادة المتهورة في محاولة للهروب من الاختناقات، وهذا بحد ذاته قد يزيد من حالة التوتر العام ويضاعف من حدة المشكلة.
وعندما يتوتر الشخص يزداد إفراز الأدرينالين والكورتيزون، وهذا ما يجعل الإنسان في حالة تحفز قد يقود إلى ارتفاع الضغط ويقلل من التركيز، الامر الذي يضاعف من فرص وقوع الحوادث خاصة مع وجود صفة الاستعجال عند البعض، وعلميا هناك ما يسمى (Road rage accidents) وهي الحوادث التي تسببها حالات الغضب في الطرق، ومن أسبابها الاختناقات المرورية.
والملفت هنا ان الخروج من الاختناق المروري لا يعني نهاية المطاف، بل ربما بداية لمشاكل أخرى، لأن هذا التوتر لا ينتهي فورا، وانما يحتاج الشخص المتوتر إلى ما لا يقل عن ساعة من اجل أن يعود إلى طبيعته، حيث يفرز الجسم نور أدرينالين للتهدئة، وإذا وصل الفرد إلى الدوام يبقى أداؤه الوظيفي متأثرا بالتوتر الذي يعاني منه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى علاقاته الاجتماعية وتعامله مع المراجعين.
فضلا عن ان التوترات المتكررة تصيب الأفراد باضطرابات عديدة تنعكس على النوم والاستقرار النفسي وقد تتطور إلى حالات نفسية مثل الاكتئاب والقلق المزمن والغضب وعدم القدرة على الاسترخاء والشعور بالوحدة والتأثير على الشهية. لذلك تؤكد الدراسات أن الكثير من الأفراد الذين يعانون من الاختناقات المرورية يعانون من أعراض الضغط والسكر وأمراض القلب، وقد يصل إلى القرحة في المعدة ومشاكل في الهضم بسبب التوتر المستمر، بل قد تظهر حتى أمراض جلدية. فالأكزيما والصدفية تتأثر بشكل كبير بالوضع النفسي. وبنفس الوقت يؤثر الضغط النفسي على جهاز المناعة وبالتالي يكون الإنسان عرضة للأمراض الأخرى بما فيها الزكام والالتهابات. وقد تتأثر الصحة الإنجابية وحتى الدورة الشهرية عند النساء اللواتي يعانين بشكل مستمر من هذه المشكلة.
هذا عدا التلوث البيئي الذي يؤثر على الجانب الصحي، والجلوس فترات طويلة في السيارة قد يسبب مشاكل في الجهاز الحركي على المدى البعيد مثل آلام الظهر والرقبة. وتزاد نسبة التدخين لدى المدخنين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك