العدد : ١٦٨٥٩ - الاثنين ٢٠ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٩ - الاثنين ٢٠ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

الاسلامي

القمع الناعم بالإقصاء

الجمعة ٢٨ يوليو ٢٠٢٣ - 02:00

بقلم‭: ‬عاطف‭ ‬الصبيحي

لا‭ ‬تنهض‭ ‬أمة‭ ‬ولا‭ ‬تقوم‭ ‬لها‭ ‬قائمة،‭ ‬وأفذاذها‭ ‬من‭ ‬أولي‭ ‬النُهى‭ ‬مقصيون،‭ ‬مهمشون،‭ ‬يضربون‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬لتحصيل‭ ‬قوت‭ ‬يومهم،‭ ‬ويتحصلون‭ ‬على‭ ‬رزق‭ ‬ذويهم،‭ ‬بينما‭ ‬غلاظ‭ ‬العقل‭ ‬يتيهون‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬متمتعين‭ ‬بأوفر‭ ‬الرزق‭ ‬وأرفه‭ ‬العيش،‭ ‬وهذه‭ ‬لعنة‭ ‬لم‭ ‬تسلم‭ ‬منها‭ ‬أمة‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬عبر‭ ‬محطاتها‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭.‬

لم‭ ‬يؤدِ‭ ‬القهر‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬القمع‭ ‬الفكري‭ ‬الناعم‭ ‬لتعطيل‭ ‬الإبداع‭ ‬الذهني‭ ‬ضلع‭ ‬الحضارة‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬البصر‭ ‬والنظر‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬المنظور،‭ ‬أو‭ ‬الكتاب‭ ‬المسطور‭ ‬المكنون‭ ‬القرآن‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تعطيل‭ ‬معظم‭ ‬الطاقات‭ ‬والاحتمالات‭ ‬المعرفية‭ ‬الإبداعية‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬الحضاري،‭ ‬فالفن‭ ‬ضلع‭ ‬الحضارة‭ ‬الثاني‭ ‬بكافة‭ ‬أشكاله‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬تجسيد‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬التأمل‭ ‬الشامل‭ ‬بما‭ ‬يحيط‭ ‬بنفس‭ ‬الفنان،‭ ‬وما‭ ‬وراء‭ ‬نفسه‭ ‬أوجدها‭ ‬المخيال‭ ‬المتجاوز‭ ‬للظواهر،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬له،‭ ‬كما‭ ‬العلوم‭ ‬على‭ ‬اختلافها‭ ‬باعتبارها‭ ‬الضلع‭ ‬الأول‭ ‬لمثلث‭ ‬الحضارة‭ ‬كما‭ ‬أسلفنا،‭ ‬فالمنتج‭ ‬العلمي‭ ‬بكافة‭ ‬فروعه،‭ ‬والإبداع‭ ‬الفني‭ ‬بمختلف‭ ‬تلاوينه‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والرسم‭ ‬والأدب‭ ‬بكافة‭ ‬مجالاته،‭ ‬دُفن‭ ‬جُله‭ ‬في‭ ‬صدور‭ ‬حامليه،‭ ‬وعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬أحد‭ ‬الشعراء‭ ‬الإنجليز‭ ‬وهو‭ ‬يتجول‭ ‬بين‭ ‬القبور‭ ‬قائلاً‭: ‬كم‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬فنان‭ ‬عاش‭ ‬ومات‭ ‬ولم‭ ‬يسمع‭ ‬به‭ ‬أحد،‭ ‬بسبب‭ ‬المنع‭ ‬والقمع‭ ‬المُعطل‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الطاقات‭ ‬التي‭ ‬دُفنت‭ ‬مع‭ ‬أصحابها‭ ‬في‭ ‬التراب،‭ ‬ولم‭ ‬تر‭ ‬النور،‭ ‬ولم‭ ‬يستفد‭ ‬منها‭ ‬الناس،‭ ‬أو‭ ‬يستمتعون‭ ‬بها‭.‬

منهج‭ ‬العبودية‭ ‬واستراتيجية‭ ‬الاستعباد‭ ‬حكمت‭ ‬بالمنع‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬أن‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬الكون‭ ‬وعلى‭ ‬الخيال‭ ‬من‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬جماليات‭ ‬الطبيعة‭ ‬الأخاذ،‭ ‬ونحن‭ ‬كأمة‭ ‬عبر‭ ‬تاريخها‭ ‬ليست‭ ‬بدعاً‭ ‬من‭ ‬الأمم،‭ ‬مررنا‭ ‬بمراحل‭ ‬صعود‭ ‬تلاها‭ ‬هبوط‭ ‬وانحدار،‭ ‬وكأنها‭ ‬سنة‭ ‬تاريخية‭ ‬وكونية‭ ‬لازبة‭ ‬لا‭ ‬يشبُّ‭ ‬عن‭ ‬قانونها‭ ‬الصارم‭ ‬أحد‭.‬

فالحسن‭ ‬بن‭ ‬الهيثم‭ ‬العالم‭ ‬الجهبذ‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬البصريات‭ ‬يفارق‭ ‬الحياة‭ ‬ضريراً‭ ‬لكثرة‭ ‬ما‭ ‬جلس‭ ‬لنسخ‭ ‬الكتب‭ ‬والمخطوطات،‭ ‬بهدف‭ ‬تحصيل‭ ‬قوته‭ ‬وقوت‭ ‬من‭ ‬يعول،‭ ‬إنسان‭ ‬يمتلك‭ ‬هذه‭ ‬العقلية‭ ‬الفذة‭ ‬يُترك‭ ‬لمصارعة‭ ‬ومكابدة‭ ‬النسخ‭ ‬حتى‭ ‬فقد‭ ‬بصره،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬لديه‭ ‬رؤية‭ ‬علمية‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬حدوده‭ ‬الجغرافية،‭ ‬وسابق‭ ‬لأقرانه،‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬اقترح‭ ‬بناء‭ ‬السد‭ ‬العالي‭ ‬في‭ ‬موضعه‭ ‬الحالي‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬مصر‭.‬

ولعل‭ ‬الفارابي‭ ‬أوفر‭ ‬حظاً‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬الهيثم،‭ ‬حيث‭ ‬ارتقى‭ ‬في‭ ‬سُلم‭ ‬العمل‭ ‬إلى‭ ‬حارس‭ ‬في‭ ‬مزرعة،‭ ‬ليستفيد‭ ‬من‭ ‬السراج‭ ‬الزيتي‭ ‬ليطفئ‭ ‬ظمأ‭ ‬شغفه‭ ‬العقلي‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬أجره‭ ‬عن‭ ‬درهم‭ ‬واحد،‭ ‬هذا‭ ‬الإقصاء‭ ‬أشد‭ ‬مضاضة‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬القتل‭ ‬الفيسيولوجي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬بتعبير‭ ‬أدق‭ ‬قتل‭ ‬دون‭ ‬القتل،‭ ‬قتل‭ ‬الطموحات،‭ ‬ودفن‭ ‬الأفكار‭ ‬النيرة‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬دهاليز‭ ‬العقول‭ ‬الكبيرة‭ ‬كعقل‭ ‬الفارابي‭ ‬وابن‭ ‬الهيثم‭ ‬وأمثالهم‭ ‬كثير،‭ ‬قتل‭ ‬الجوهر‭ ‬والإبقاء‭ ‬على‭ ‬المظهر‭ ‬يتجرع‭ ‬حسراته،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬المتنبي‭ ‬تُلقى‭ ‬عليه‭ ‬أكياس‭ ‬الذهب‭ ‬والفضة‭ ‬لقصيدة‭ ‬أولها‭ ‬نفاق‭ ‬لسيف‭ ‬الدولة‭ -‬لا‭ ‬أدري‭ ‬ماهية‭ ‬هذا‭ ‬السيف‭- ‬وآخرها‭ ‬كذب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السيف،‭ ‬ونحن‭ ‬هنا‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نقع‭ ‬في‭ ‬تناقض،‭ ‬لسنا‭ ‬ضد‭ ‬الفن‭ ‬الشعري،‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬الإنساني‭ ‬الوجداني،‭ ‬الذي‭ ‬أنتجه‭ ‬المتنبي‭ ‬وينتجه‭ ‬غيره،‭ ‬بل‭ ‬ضد‭ ‬المنهج‭ ‬الأعرج،‭ ‬منهج‭ ‬يُقصي‭ ‬عالماً‭ ‬ويُدني‭ ‬شاعرا،‭ ‬نعم‭ ‬لكل‭ ‬مجاله‭ ‬وعلى‭ ‬الراعي‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬كلا‭ ‬الطرفين‭ ‬بعين‭ ‬الاهتمام‭.‬

علومنا‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭ ‬حضارتنا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬علوما‭ ‬مؤسساتية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬علوم‭ ‬فردية،‭ ‬أنتجها‭ ‬أفراد‭ ‬ولم‭ ‬تنتظم‭ ‬ضمن‭ ‬مؤسسة‭ ‬راعية‭ ‬لتلك‭ ‬المنتجات‭ ‬المعرفية،‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬الجامعات‭ ‬التقنية‭ ‬الغربية‭ ‬الكبرى‭ ‬الحالية‭ ‬استحدثوا‭ ‬قسم‭ ‬فلسفة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجامعة،‭ ‬بعد‭ ‬طرح‭ ‬سؤال‭ ‬من‭ ‬ينظُم‭ ‬منتجات‭ ‬الأبحاث‭ ‬العلمية‭ ‬ويربطها‭ ‬في‭ ‬رابط‭ ‬متسق،‭ ‬فكان‭ ‬الاقتراح‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إنشاء‭ ‬قسم‭ ‬للفلسفة‭ ‬تُناط‭ ‬به‭ ‬هذه‭ ‬المهمة،‭ ‬إنه‭ ‬عمل‭ ‬مؤسساتي‭ ‬بحق‭.‬

يصعب‭ ‬وصف‭ ‬الخسائر‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬الأمة‭ ‬والأمم‭ ‬الأخرى‭ ‬والتي‭ ‬ستمر‭ ‬عليها،‭ ‬جراء‭ ‬الإقصاء‭ ‬والقمع‭ ‬والإهمال‭ ‬للعقول‭ ‬الجبارة‭ ‬التي‭ ‬حظيت‭ ‬بها‭ ‬الأمة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأمم،‭ ‬لذا‭ ‬تزخر‭ ‬جامعات‭ ‬الغرب‭ ‬ومعاهد‭ ‬البحث‭ ‬هناك‭ ‬بكوكبة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬هذه‭ ‬الأمة،‭ ‬يعملون‭ ‬ويبدعون‭ ‬تحت‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬سقف‭ ‬لها‭ ‬إلا‭ ‬السماء‭. ‬فإلى‭ ‬متى؟

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا