العدد : ١٦٨٥٩ - الاثنين ٢٠ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٩ - الاثنين ٢٠ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

الاسلامي

جريمة الاحتكار في منظور الشرع الشريف (1/2)

الجمعة ٠٧ يوليو ٢٠٢٣ - 02:00

بقلم‭: ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬علي‭ ‬سليمان

نظَّم‭ ‬الله‭ -‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭- ‬الحياةَ‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬سليمة،‭ ‬فأوجب‭ ‬علينا‭ ‬أمورا،‭ ‬وحرَّم‭ ‬أخرى،‭ ‬وأباح‭ ‬أشياء؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تسير‭ ‬الحياة‭ ‬سيرا‭ ‬سليما‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬ربانية،‭ ‬وبما‭ ‬يضمن‭ ‬صيرورتها‭ ‬إلى‭ ‬الحق‭ ‬والعدل‭ ‬والرحمة‭... ‬وإلى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يرضي‭ ‬الله‭ ‬ويحقق‭ ‬للإنسان‭ ‬السعادتين‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة‭.‬

لذلك‭ ‬حرَّم‭ ‬الله‭ ‬ُ‭-‬عز‭ ‬وجل‭- ‬السرقة‭ ‬والربا‭ ‬والغش‭ ‬والنصب‭ ‬واكتناز‭ ‬الأموال‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يضر‭ ‬الإنسان‭ ‬أو‭ ‬يعرقل‭ ‬سير‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬سليم،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬تحريمه‭ ‬الاحتكار‭. ‬

ومادة‭ ‬‮«‬حكر‮»‬‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تعني‭ ‬احتكار‭ ‬الطعام‭ -‬وغيره‭- ‬أي‭ ‬جمعه‭ ‬وحبسه؛‭ ‬يُتَرَبَّص‭ ‬به‭ ‬الغلاء،‭ ‬وقيل‭: ‬جَمعُ‭ ‬الطَّعامِ‭ ‬ونَحْوِه‭ ‬واحتِباسُه،‭ ‬بهدف‭ ‬التحكم‭ ‬في‭ ‬السلعة‭ ‬ورفع‭ ‬سعرها‭. ‬والاحتكار‭ ‬في‭ ‬الاصطلاح‭: ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يَشتَريَ‭ ‬الشخصُ‭ ‬السِّلعةَ‭ ‬للتِّجارةِ‭ ‬الَّتي‭ ‬يَحتاجُ‭ ‬إلَيها‭ ‬النَّاسُ،‭ ‬ولا‭ ‬يَبيعُها‭ ‬في‭ ‬الحالِ،‭ ‬بَل‭ ‬يَحبِسُها‭ ‬مَعَ‭ ‬حاجةِ‭ ‬النَّاسِ‭ ‬إلَيها؛‭ ‬ليَغلوَ‭ ‬ثَمنُها‭ (‬مغني‭ ‬المحتاج‭ ‬للشربيني‭ (‬2/38‭. ‬وقيل‭: ‬هو‭ ‬إمساكُ‭ ‬السِّلعةِ‭ ‬ومَنعُها‭ ‬مِن‭ ‬الأسواقِ‭ ‬وادِّخارُها‭ ‬حتَّى‭ ‬يَزيدَ‭ ‬عليها‭ ‬الطَّلبُ‭ ‬والحاجةُ‭ ‬إليها،‭ ‬وحينئذٍ‭ ‬يَبِيعُها‭ ‬بأضعافِ‭ ‬ما‭ ‬كانتْ‭ ‬عليه‭ ‬وقْتَ‭ ‬شِرائِها؛‭ ‬ولهذا‭ ‬فإنَّ‭ ‬الاحتكارَ‭ ‬لا‭ ‬يكونُ‭ ‬إلَّا‭ ‬فيما‭ ‬يَضُرُّ‭ ‬بالنَّاسِ‭ ‬حَبْسُه،‭ ‬وأمَّا‭ ‬مُجرَّدُ‭ ‬ادِّخارِ‭ ‬الطَّعامِ‭ ‬للنَّفْسِ‭ ‬والعيالِ،‭ ‬أو‭ ‬شِراؤهُ‭ ‬لِيَبيعَه‭ ‬في‭ ‬وَقتِه،‭ ‬فليْس‭ ‬هو‭ ‬بالاحتكارِ‭ ‬المذمومِ‭. (‬موسوعة‭ ‬الأخلاق‭ -‬الدرر‭ ‬السنية‭).‬

والاحتكار‭ ‬يتسبب‭ ‬في‭ ‬تجميد‭ ‬المال‭ ‬والسلع،‭ ‬ويمثل‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬أسوأ‭ ‬أنواع‭ ‬الاستغلال،‭ ‬ويشتد‭ ‬نكير‭ ‬الشارع‭ ‬الحكيم‭ ‬للاحتكار‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الشيء‭ ‬المحتكَر‭ ‬من‭ ‬السلع‭ ‬الضرورية‭ ‬لحياة‭ ‬الناس‭ ‬كالماء‭ ‬والغذاء‭ ‬والكساء‭ ‬والغطاء‭ ‬والدواء‭ ‬والمستلزمات‭ ‬الطبية‭ ‬وأدوات‭ ‬التعقيم‭ ‬والعلاج‭...‬إلخ‭. ‬والاحتكار‭ ‬في‭ ‬الأوقات‭ ‬العادية‭ ‬حرام،‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الأزمات‭ ‬والأوبئة‭ ‬والجوائح‭ ‬يكون‭ ‬أشد‭ ‬حرمة‭ ‬وجرمًا‭ ‬وظلمًا‭... ‬وقد‭ ‬اتفقت‭ ‬آراء‭ ‬المذاهب‭ ‬الفقهية‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬يَحْرُمُ‭ ‬احتِكارُ‭ ‬قُوتِ‭ ‬النَّاسِ،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الاحتكار‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الظلم،‭ ‬وقد‭ ‬أكد‭ ‬النبي‭ ‬العظيم‭ (‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭) ‬على‭ ‬خطورة‭ ‬الاحتكار،‭ ‬وعلى‭ ‬مصير‭ ‬المحتكِر،‭ ‬فعن‭ ‬جابر‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬أن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬قال‭: ‬‮«‬اتَّقُوا الظُّلْمَ،‮ ‬فإنَّ‮ ‬الظُّلْمَ‮ ‬ظُلُماتٌ‮ ‬يَومَ‮ ‬القِيامَةِ،‭ ‬واتَّقُوا‭ ‬الشُّحَّ،‮ ‬فإنَّ‮ ‬الشُّحَّ‭ ‬أهْلَكَ‭ ‬مَن‭ ‬كانَ‭ ‬قَبْلَكُمْ،‭ ‬حَمَلَهُمْ‭ ‬علَى‭ ‬أنْ‭ ‬سَفَكُوا‭ ‬دِماءَهُمْ‭ ‬واسْتَحَلُّوا‭ ‬مَحارِمَهُمْ‮»‬‭ (‬أخرجه‭ ‬الإمام‭ ‬مسلم‭ ‬في‭ ‬صحيحه‭).‬

وعن‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭) ‬أن‭ ‬النبي‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬قال‭: ‬‮«‬المحتكِرُ‭ ‬ملعونٌ‮»‬‭ (‬أخرجه‭ ‬الإمام‭ ‬السيوطي‭ ‬في‭ ‬الجامع‭ ‬الصغير‭).‬

وعن‭ ‬معمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬نضلة‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬أن‭ ‬النبي‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬قال‭: ‬‮«‬لا‮ ‬يَحْتَكِرُ‮ ‬إلَّا‮ ‬خاطِئٌ‮»‬‭ (‬أخرجه‭ ‬الإمام‭ ‬مسلم‭ ‬في‭ ‬صحيحه‭).‬

وبون‭ ‬شاسع‭ ‬بين‭ ‬كلمتي‭: (‬الخاطئُ،‭ ‬والمخطِئُ‭)‬؛‭ ‬فالخاطئُ‭: ‬مَن‭ ‬تَعمَّدَ‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يَنْبغي‭. ‬والمخطِئُ‭: ‬مَن‭ ‬أرادَ‭ ‬الصَّوابَ‭ ‬فصارَ‭ ‬إلى‭ ‬غيرِه‭. ‬وخاطئٌ‭ (‬أي‭: ‬عاصٍ‭)‬،‭ ‬والمَعصيةُ‭ ‬مُحَرَّمةٌ،‭ ‬فيَكونُ‭ ‬الِاحتِكارُ‭ ‬مُحَرَّمًا،‭ ‬والمدقق‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭ ‬يجد‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬أطلق‭ ‬تحريمَ‭ ‬الاحتكارِ‭ ‬في‭ ‬أيِّ‭ ‬شَيءٍ‭ ‬ولم‭ ‬يقيِّدْ،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنَّ‭ ‬أي‭ ‬احتكار‭ ‬يخص‭ ‬الناس‭ ‬فهو‭ ‬داخل‭ ‬في‭ ‬الحديث‭.‬

ولعل‭ ‬الحكمة‭ ‬من‭ ‬تحريمِ‭ ‬الاحتِكارِ‭ ‬هو‭ ‬دَفْعُ‭ ‬الضَّرَرِ‭ ‬عن‭ ‬عامَّةِ‭ ‬النَّاسِ‭... ‬وهكذا‭ ‬ينهي‭ ‬الإسلام‭ ‬عن‭ ‬احتِكارِ‭ ‬الطَّعامِ‭ ‬والشراب‭ ‬والدواء‭ ‬والكساء‭ ‬ونحوِه‭ ‬مِمَّا‭ ‬يَحتاجُه‭ ‬النَّاسُ‭ ‬عموما،‭ ‬وفي‭ ‬وقتِ‭ ‬الشِّدَّةِ‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭.‬

إن‭ ‬المحتكِر‭ ‬الذي‭ ‬يحتكر‭ ‬السلع‭ ‬والأغذية‭ ‬والأدوية‭ ‬والمستلزمات‭ ‬الطبية‭ ‬وغيرها،‭ ‬يقوم‭ ‬بعدة‭ ‬جرائم‭ ‬مركبة‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬العباد‭ ‬والبلاد‭ ‬والدين،‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬من‭ ‬بينها‭: ‬

‭- ‬أن‭ ‬الاحتكار‭ ‬يتعلَّقُ‭ ‬بالسِّلعِ‭ ‬وهي‭ ‬حَقُّ‭ ‬العامَّةِ،‭ ‬وفي‭ ‬الامتناع‭ ‬عنِ‭ ‬البَيعِ‭ ‬إبطالُ‭ ‬لحَقِّهم‭ ‬وتضييقُ‭ ‬الأمرِ‭ ‬عليهم‭.‬

‭- ‬حصولُ‭ ‬الضَّرَرِ‭ -‬باحتِكارِ‭ ‬ما‭ ‬يَضُرُّ‭ ‬بالعامَّةِ‭- ‬والقواعد‭ ‬الفقهية‭ ‬تنص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الضرر‭ ‬يزال‭.‬

‭- ‬تعطيش‭ ‬السوق،‭ ‬بإخفاء‭ ‬السلع‭ ‬عن‭ ‬الناس؛‭ ‬حتى‭ ‬يشتاق‭ ‬إليها‭ ‬الناس‭ ‬بأي‭ ‬سعر‭.‬

‭- ‬التضييق‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬أرزاقهم،‭ ‬ورفع‭ ‬الأسعار‭ ‬عليهم‭. ‬

‭- ‬إرهاق‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬السلع؛‭ ‬مما‭ ‬يجعلهم‭ ‬يريدونها‭ ‬ولو‭ ‬بأي‭ ‬سعر‭!!. ‬

‭- ‬إظهار‭ ‬بعضها‭ ‬فجأة‭ ‬بعد‭ ‬اشتداد‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها،‭ ‬وكثرة‭ ‬الطلب‭ ‬عليها؛‭ ‬ليُظهِر‭ ‬نفسه‭ ‬كأنه‭ ‬المنقذ‭ ‬للناس‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬الحقيقة‭!.‬

‭-  ‬تسعير‭ ‬السلع‭ ‬كما‭ ‬يريد؛‭ ‬ليحقق‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الربح‭ ‬الحرام‭.‬

‭- ‬مخالفة‭ ‬تعاليم‭ ‬الدين‭ ‬الحنيف‭ ‬بشكل‭ ‬صريح‭.‬

وبالجملة‭ ‬فإن‭ ‬المحتكِر‭ ‬معدوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬منزوع‭ ‬الرحمة،‭ ‬كذَّاب،‭ ‬غشَّاش،‭ ‬مُستغِل،‭ ‬مُضيّع‭ ‬لأوقات‭ ‬الناس،‭ ‬وجهدهم،‭ ‬وأموالهم،‭ ‬لئيم،‭ ‬خسيس،‭ ‬ملعون‭ ‬في‭ ‬الدنيا،‭ ‬وأمام‭ ‬الأشهاد‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭... ‬احتكاره‭ ‬حرام‭.. ‬واستغلاله‭ ‬حرام‭.. ‬وكسبه‭ ‬حرام‭.. ‬وتضخم‭ ‬ثروته‭ ‬من‭ ‬الحرام‭ ‬والعياذ‭ ‬بالله‭.. ‬وللحديث‭ ‬بقية‭.‬

عضو‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للشؤون‭ ‬الإسلامية‭ - ‬مصر

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا