العدد : ١٧٠٥٤ - الأحد ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥٤ - الأحد ٠١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

هوامش

عبدالله الأيوبي

ayoobi99@gmail.com

البراجماتية التركية في العلاقات الدولية

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الأخطاء‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬فيها‭ ‬السياسة‭ ‬التركية‭ ‬الخارجية،‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الإقليمي‭ ‬وتحديدا‭ ‬علاقات‭ ‬تركيا‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬دول‭ ‬الجوار‭ (‬سوريا‭ ‬والعراق‭) ‬وانغماس‭ ‬تركيا‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بـ«الربيع‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬واتخاذها‭ ‬موقفا‭ ‬مؤيدا‭ ‬وداعما‭ ‬لجماعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬وخاصة‭ ‬‮«‬جماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‮»‬‭ ‬التي‭ ‬انخرطت‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأحداث،‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬التركي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تأزم‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬مصر،‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬المحورية،‭ ‬وأدى‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬تصدع‭ ‬علاقات‭ ‬أنقرة‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬العواصم‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬الإقرار‭ ‬بأن‭ ‬السياسة‭ ‬التركية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬اتسمت‭ ‬بالبراجماتية‭ ‬والعقلانية،‭ ‬آخذة‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬المصالح‭ ‬الوطنية‭ ‬التركية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬واستقلالية‭ ‬القرار‭ ‬الوطني‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أكسب‭ ‬أنقرة‭ ‬حضورا‭ ‬دوليا‭ ‬مميزا‭ ‬وقويا‭.‬

أيًّا‭ ‬تكن‭ ‬المبررات‭ ‬التي‭ ‬ساقتها‭ ‬أنقرة‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬مواقفها‭ ‬تجاه‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬الإقليمية،‭ ‬مثل‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬وليبيا،‭ ‬أو‭ ‬موقفها‭ ‬من‭ ‬تطورات‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬الإطاحة‭ ‬بنظام‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬حسني‭ ‬مبارك‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬إزاحة‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬أيضا‭ ‬محمد‭ ‬مرسي،‭ ‬فإن‭ ‬العقلانية‭ ‬والبراجماتية‭ ‬السياسية‭ ‬التركية‭ ‬أسهمت‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬الترطيب‭ ‬والتطبيع‭ ‬المتفاوت‭ ‬لعلاقات‭ ‬أنقرة‭ ‬مع‭ ‬جميع‭ ‬العواصم‭ ‬الإقليمية‭ ‬تقريبا،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬دمشق‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬أنقرة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬القطيعة‭ ‬التامة،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬تركيا‭ ‬تحتل‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬أراضي‭ ‬الشمال‭ ‬السوري‭ ‬تحت‭ ‬ذريعة‭ ‬محاربة‭ ‬الجماعات‭ ‬الكردية‭ ‬الانفصالية‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬تركيا‭ ‬إنها‭ ‬تهدد‭ ‬أمنها‭ ‬الوطني‭.‬

الاختبار‭ ‬الأكثر‭ ‬جدية‭ ‬الذي‭ ‬واجهته‭ ‬العقلانية‭ ‬والبراجماتية‭ ‬السياسية‭ ‬التركية،‭ ‬نشأ‭ ‬بعد‭ ‬انطلاق‭ ‬العملية‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬حيث‭ ‬سارعت‭ ‬دول‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬والدول‭ ‬الغربية‭ ‬الأخرى‭ ‬إلى‭ ‬الزج‭ ‬بجزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬إمكانياتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمالية‭ ‬والعسكرية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تبني‭ ‬سياسة‭ ‬الدعم‭ ‬اللامحدود‭ ‬للجانب‭ ‬الأوكراني‭ ‬وكذلك‭ ‬فرض‭ ‬عقوبات‭ ‬اقتصادية‭ ‬وسياسية‭ ‬ومالية‭ ‬وثقافية‭ ‬ورياضية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬على‭ ‬روسيا،‭ ‬وهي‭ ‬السياسة‭ ‬التي‭ ‬رفضت‭ ‬تركيا‭ ‬الانخراط‭ ‬فيها‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬أنقرة‭ ‬هي‭ ‬عضو‭ ‬مؤثر‭ ‬في‭ ‬حلف‭ ‬شمال‭ ‬الأطلسي،‭ ‬حيث‭ ‬قاومت‭ ‬أنقرة‭ ‬كل‭ ‬الضغوطات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والغربية‭ ‬لفك‭ ‬علاقات‭ ‬الصداقة‭ ‬والتعاون‭ ‬الاقتصادي‭ ‬التي‭ ‬تربطها‭ ‬مع‭ ‬موسكو،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتخلى‭ ‬عن‭ ‬موقفها‭ ‬السياسي‭ ‬الرافض‭ ‬للعملية‭ ‬العسكرية‭ ‬الروسية‭.‬

هذا‭ ‬الموقف‭ ‬العقلاني‭ ‬لأنقرة‭ ‬والنابع‭ ‬من‭ ‬المصلحة‭ ‬الوطنية‭ ‬الخالصة‭ ‬والتمسك‭ ‬المبدئي‭ ‬باستقلالية‭ ‬القرار‭ ‬الوطني،‭ ‬أعطى‭ ‬لتركيا‭ ‬ميزة‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بقنوات‭ ‬اتصال‭ ‬قوية‭ ‬وموثوقة‭ ‬أيضا‭ ‬مع‭ ‬طرفي‭ ‬الصراع‭ (‬روسيا‭ ‬وأوكرانيا‭) ‬وقادت‭ ‬عملية‭ ‬وساطة‭ ‬كادت‭ ‬تحقق‭ ‬نجاحا‭ ‬كبيرا‭ ‬حين‭ ‬جمعت‭ ‬الطرفين‭ ‬المتصارعين‭ ‬حول‭ ‬طاولة‭ ‬مفاوضات‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬تركيا،‭ ‬لكن‭ ‬تدخل‭ ‬أطراف‭ ‬غربية‭ ‬أفشل‭ ‬هذه‭ ‬المفاوضات،‭ ‬ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬حافظت‭ ‬أنقرة‭ ‬على‭ ‬علاقات‭ ‬قوية‭ ‬ومتطورة‭ ‬مع‭ ‬موسكو‭ ‬وكييف‭ ‬وأبقت‭ ‬على‭ ‬قنوات‭ ‬الاتصالات‭ ‬السياسية‭ ‬المباشرة‭ ‬مع‭ ‬العاصمتين‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬مستوياتها‭ ‬السياسية‭. ‬

قبل‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬مضت‭ (‬الخميس‭ ‬الماضي‭) ‬شارك‭ ‬الرئيسان‭ ‬الروسي‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين‭ ‬والتركي‭ ‬رجب‭ ‬طيب‭ ‬أردوجان،‭ ‬عبر‭ ‬تقنية‭ ‬الفيديو،‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬تحميل‭ ‬الوقود‭ ‬النووي‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬الطاقة‭ ‬النووية‭ ‬‮«‬أكويو‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬أول‭ ‬محطة‭ ‬نووية‭ ‬في‭ ‬تركيا‭ ‬تنشئها‭ ‬روسيا،‭ ‬وقال‭ ‬بوتين‭: ‬إن‭ ‬العلاقات‭ ‬الروسية‭ ‬التركية‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى،‭ ‬فمثل‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬تركيا‭ ‬مع‭ ‬روسيا‭ ‬لم‭ ‬يلق‭ ‬ترحيبا‭ ‬لدى‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬التي‭ ‬طالبت‭ ‬أنقرة‭ ‬بالحد‭ ‬من‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬روسيا،‭ ‬بل‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬العقوبات‭ ‬المفروضة‭ ‬على‭ ‬موسكو،‭ ‬لكن‭ ‬أنقرة‭ ‬ترفض‭ ‬ذلك‭ ‬وتؤكد‭ ‬أن‭ ‬مصالحها‭ ‬الوطنية‭ ‬ومصالح‭ ‬شعبها‭ ‬واستقلالية‭ ‬قراراتها‭ ‬الوطنية‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬الاعتبارات‭.‬

هذه‭ ‬السياسة‭ ‬التركية‭ ‬تعكس‭ ‬بصدق‭ ‬مدى‭ ‬ما‭ ‬تتمتع‭ ‬به‭ ‬أنقرة‭ ‬من‭ ‬استقلالية‭ ‬حقيقية‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بقراراتها‭ ‬ومواقفها‭ ‬السياسية‭ ‬تجاه‭ ‬القضايا‭ ‬المختلفة،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تعتبر‭ ‬فيه‭ ‬عضوا‭ ‬مؤثرا‭ ‬ومحوريا‭ ‬في‭ ‬حلف‭ ‬شمال‭ ‬الأطلسي‭ (‬الناتو‭)‬،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬ترفض‭ ‬الانسياق‭ ‬وراء‭ ‬سياسة‭ ‬انزلاق‭ ‬دول‭ ‬الحلف‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬الروسي‭ ‬الأوكراني،‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أن‭ ‬موقفا‭ ‬كهذا‭ ‬سينعكس‭ ‬سلبا‭ ‬على‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬جارتها‭ ‬الكبيرة‭ ‬روسيا،‭ ‬وسيكون‭ ‬لذلك‭ ‬مردود‭ ‬سلبي‭ ‬على‭ ‬المصالح‭ ‬الوطنية‭ ‬التركية،‭ ‬حيث‭ ‬ترتبط‭ ‬موسكو‭ ‬وأنقرة‭ ‬بعلاقات‭ ‬اقتصادية‭ ‬قوية،‭ ‬إذ‭ ‬وصل‭ ‬حجم‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬30‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬سنويا‭ ‬وهناك‭ ‬توقعات‭ ‬برفع‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬إلى‭ ‬مائة‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭. ‬

إقرأ أيضا لـ"عبدالله الأيوبي"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا