لم يكن عام 2014 عادياً في تاريخ روسيا الحديث، حيث شهد انتزاعها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، في خطوةٍ شكّلت منعطفاً لعلاقة أكبر دولة في العالم من حيث المساحة مع الغرب، وأسفرت عن وابل من العقوبات، بما أثقل كاهل اقتصاد البلاد.
لكن الغرب عند فرضه لهذه العقوبات، مع عدم تطبيقها بفعالية، لم يكن مدركاً أنه هيّأ بذلك موسكو مسبقاً لمواجهة موجة العقوبات الثانية عام 2022، عندما شنّت حرباً على أوكرانيا، وسيطرت على مناطق شاسعة فيها. ورغم أن العقوبات الجديدة كانت أكثر شدّةً وتطبيقاً، إلاّ أن الاقتصاد الروسي حافظ على تماسكه.
بدأت رحلة روسيا مع العقوبات، التي تجاوز عددها حالياً 20 ألف عقوبة، عندما شنّت حملتها لضم شبه جزيرة القرم في 2014، إثر احتجاجات واسعة في أوكرانيا أدّت إلى سقوط الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو.
رأت روسيا في هذا الأمر تهديداً استراتيجياً، ورد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإرسال قوات لشبه جزيرة القرم، والدعوة إلى استفتاء على الانضمام إلى روسيا، وهو ما وصفه الغرب بأنه غير قانوني. ثم ضمت موسكو شبه الجزيرة في 18 مارس 2014.
لم تتأخر الدول الغربية كثيراً للرد، ففي الثالث من مارس أعلنت الولايات المتحدة وقف محادثات التجارة والاستثمار مع روسيا، كما جمّدت التعاون العسكري مع موسكو.
بعد أيام، وقّع الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أوامر تنفيذية لحظر ممتلكات أشخاص «يسهمون في الأزمة في أوكرانيا، ويهددون وحدة الأراضي الأوكرانية». كما بدأ الاتحاد الأوروبي بالتحرك، إذ أعلن في 17 مارس عقوبات على 21 مسؤولاً روسياً وأوكرانياً داعماً للانفصال.
بدأت لائحة العقوبات الأمريكية والأوروبية بالتوسع مع مرور الأيام، وأصبحت أكثر تركزاً واستهدافاً. ففي 27 مارس أقدمت واشنطن على حظر رخص التصدير لأي معدات أو منتجات أو خدمات دفاعية إلى روسيا. في حين أوقف الاتحاد الأوروبي، في 23 يونيو، دخول البضائع المنتجة في شبه جزيرة القرم إلى أراضيه.
ونظراً إلى عدم تراجع روسيا عن خطوتها، بدأ الغرب باستهداف كيانات تعمل في قطاعات رئيسية، ففرضت واشنطن عقوبات على اثنين من أكبر بنوك البلاد وهما «غازبروم بنك» و«في إيه بي»، بالإضافة إلى قيود على شركتي «نوفاتيك» و«روسنفت» للطاقة.
يوم 17 يوليو 2014 كان مفصلياً في مسلسل العقوبات، بعدما تمّ إسقاط طائرة مدنية تابعة للخطوط الماليزية قرب مناطق الصراع في منطقة دوناتسك. واتُهمت روسيا بمسؤوليتها عن إسقاط الطائرة التي كانت متوجهة من أمستردام إلى كوالالمبور.
دفعت هذه الحادثة واشنطن إلى فرض عقوبات على قطاع النفط الروسي بشكل مباشر للمرة الأولى. وفي 29 يوليو فرضت عقوبات إضافية مرتبطة بقطاعات التسليح والتمويل والطاقة. كما وسعت هذه العقوبات في 6 أغسطس بفرضها قيوداً على تصدير عدة تكنولوجيات مرتبطة بالنفط والغاز إلى روسيا.
منذ بداية الأزمة، كان الرد الروسي على العقوبات الغربية «رمزياً» إلى حد كبير، على غرار حظر 9 مسؤولين أمريكيين من دخول روسيا، من بينهم مسؤولان في الإدارة ونواب وأعضاء في مجلس شيوخ.
لكن في نفس اليوم الذي استهدفت فيه واشنطن تكنولوجيات النفط والغاز، عدّلت موسكو طريقة تجاوبها، فحظرت استيراد معظم منتجات الغذاء من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول الأخرى التي فرضت عقوبات عليها.
كان هذا الحظر بمثابة عقوبة مضادة، لكنه كان أيضاً جزءاً من سياسة أوسع وأكثر استراتيجية لاستبدال الواردات عبر تعزيز الإنتاج المحلي خاصةً في القطاعين الزراعي والغذائي، وإعادة هيكلة الاقتصاد الروسي وتقليل اعتماده على الغرب، وبالتالي الحد من قدرة العقوبات على التأثير عليها مستقبلاً.
ولتحقيق هذه الأهداف، أنشأت الحكومة «صندوق التنمية الصناعية» لتمويل المشاريع المحلية في مراحل ما قبل الإنتاج.
تابعت واشنطن مسيرة العقوبات التي تستهدف قطاعي النفط والغاز، ولو أنها اتسمت بالتقنية وليس العملية التجارية. في 12 سبتمبر 2014 منعت وزارة الخزانة الأمريكية الشركات من تزويد المنتجات والتكنولوجيا لشركات «غاز بروم»، و«لوك أويل»، و«ترانسنفت»، و«سورغوت»، و«نوفاتيك»، و«روسنفت».
بحلول ديسمبر من العام ذاته، كان الاتحاد الأوروبي قد وسّع أيضاً العقوبات التي تطال الشخصيات الروسية والأوكرانية الداعمة للانفصال إلى 132 شخصاً، فضلاً عن تجميد ممتلكات 28 كياناً.
تواصلت العقوبات الغربية على روسيا حتى مع انطلاق محادثات «مينسك 2» لحل الأزمة في 11 فبراير 2015. وبين هذا التاريخ وديسمبر 2016، عاقب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أكثر من 89 شخصاً وكياناً، كما تم تمديد العقوبات التي سبق وفُرضت.
التداعيات المباشرة لتلك العقوبات تمثلت في تراجع النشاط الاقتصادي وانخفاض الاستهلاك بصورة ملحوظة، وخصوصاً مع تراجع قيمة الروبل. وللمرة الأولى منذ 2003، انخفضت القيمة المضافة الإجمالية في قطاع الخدمات المالية، ولم يُسهم قطاعا الزراعة والتعدين والمحاجر إسهاماً إيجابياً كبيراً في نمو الناتج المحلي الإجمالي، وفق البنك المركزي الروسي.
كما سجلت تلك الفترة ارتفاعاً سريعاً للتضخم ليبلغ ذروته عند 16.9% في مارس 2015، ما استدعى رفع البنك المركزي أسعار الفائدة إلى 17% في محاولة لوقف انهيار قيمة العملة الروسية.
أما الأثر المالي، فعبّر عنه بوضوح وزير المالية -آنذاك- أنطون سيلوانوف، بتصريحه أن العقوبات الغربية أدّت إلى خسارة روسيا نحو 40 مليار دولار في 2014، في حين أدّى انخفاض أسعار النفط إلى خسارة البلاد نحو 100 مليار دولار.
العملة الروسية لم تكن بمنأى أيضاً عن هذه التأثيرات، ففي 2013 كان سعر صرف الدولار يساوي نحو 35 روبلاً، لتبدأ العملة الروسية مسيرة الانحدار ليتراوح سعر صرفها ما بين 60 و70 روبلاً للدولار بين 2015 و2019.
رغم ذلك، فإن روسيا تمكنت من تحقيق نمو ضخم بنسبة 5.9% في عام 2021، ما يشير إلى أنها تمكنت من تجاوز الآثار المباشرة للعقوبات بشكلٍ مرحلي.
الموجة الثانية من العقوبات
النمو الذي حققته البلاد في 2021، تحوّل إلى انكماش بنسبة 1.4% في العام التالي، وذلك بعدما أطلقت موسكو حربها الشاملة ضد أوكرانيا، ما أدى إلى الموجة الثانية من العقوبات.
الموجة الثانية كانت أشد عنفاً وأكثر تنسيقاً، وطالت قطاعات محددة وأساسية للاقتصاد الروسي مثل النفط والغاز.
هدفت الموجة الجديدة أيضاً إلى عزل روسيا فعلياً عن النظام المالي العالمي، والحد من تدفقات الخام الروسي إلى الأسواق العالمية، في محاولة لـ«وقف تمويل آلة الحرب الروسية».
بالإضافة إلى ذلك، جمّد الغرب ما يزيد على 330 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي الروسي في الخارج، قبل أن تتوسع العقوبات لتشمل فصل عدد من البنوك الروسية عن نظام المدفوعات «سويفت»، ما عزلها فعلياً عن النظام المصرفي العالمي. وفي هذا السياق، أشارت وزارة الخزانة الأمريكية إلى أن العقوبات الأمريكية والدولية شملت أكثر من 80% من أصول القطاع المصرفي الروسي.
العقوبات لم تتوقف عند هذا الحد، بل شملت تصدير التكنولوجيا المتقدمة والتي يمكن أن تستخدم في الصناعات العسكرية والمدنية في آن، وهو ما بات يعرف باسم التكنولوجيا «مزدوجة الاستخدام».
باقي الدول الغربية، لاسيما الأوروبية، وسعت لائحة العقوبات أيضاً، لتطال شركات وكيانات في دول ثالثة تتعامل تجارياً مع روسيا، أو تساعدها على التهرب من العقوبات، كما تمّ استهداف آلاف الشخصيات والكيانات الروسية، من بينها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف.
قطاع الطاقة الهدف الأهم للعقوبات
لكن الهدف الأهم لموجة العقوبات الجديدة كان قطاع الطاقة، إذ فرضت واشنطن حظراً على واردات الخام والفحم الروسي، وقامت بهندسة ما بات يعرف باسم «السقف السعري» للخام مع «مجموعة السبع».
ويمنع السقف السعري للخام الروسي المشغلين في دول «مجموعة السبع» من تقديم خدمات النقل والتأمين للخام الروسي الذي يباع فوق السعر المحدد من قبل المجموعة.
ذهب الاتحاد الأوروبي إلى أبعد من ذلك، متعهداً بإنهاء واردات الغاز الروسي بحلول نهاية 2027، كما ناقش عملية مصادرة أصول المركزي الروسي لإعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب، وهو ما أثار غضب روسيا التي أصبحت فعلياً أكثر دولة تم فرض عقوبات عليها في العالم.
إجراءات روسية لتخفيف أثر العقوبات
الموجة الجديدة من العقوبات كانت أكثر حدّة من سابقتها، ما دفع موسكو إلى اتخاذ إجراءات رئيسية للتخفيف من أضرارها.
عززت روسيا من علاقاتها مع دول لم تفرض عليها عقوبات، وحاولت الترويج لشبكة بديلة عن «سويفت» للتخفيف من انعزالها عن النظام المصرفي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك