في عالم الكرة الطائرة الحالية، بات الطول معيارا ومطلبا رئيسيا لدى المدربين في عملية الانتقاء والاصطفاء والتشكيل، ولا يخفى على عشاق ومتابعي اللعبة أن طول القامة يوفر ميزات طبيعية مهمة لا يوفرها قصار القامة، وخصوصا في تشكيل حوائط الصد والهجوم، ما جعل المدربين يتجهون في المقام الأول نحو البحث عن اللاعبين الأطول باعتبارهم «المادة الخام» القابلة للتطوير.
لكن هذا التوجه قد أثار عدة تساؤلات وجيهة: هل الطول وحده يكفي لصناعة لاعب متكامل؟ وأين موقع المهارة المكتسبة عبر التدريب من الإعراب في معادلة النجاح؟ سنحاول نناقش هذا الأمر، من زوايا هي أقرب إلى التحليل منه إلى التنظير.
أولا: مكاسب الطول
لا يختلف أهل الفهم على أن طول القامة يمثل تفوقا بدنيا واضحا، ويمنح اللاعب نقطة ارتكاز أعلى عند تنفيذ الضرب الهجومي أو تشكيل حوائط الصد، وهذا ما يزيد من فرص التفوق على الخصم.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل أن اللاعب الذي يتوافر على قامة طويلة، يكون له تأثير نفسي على المنافس، من خلال فرض هيبته على الشبكة، فضلا عن هز الثقة في لاعبي الفريق المقابل.
واتجاه الكشافين الفنيين والمدربين إلى وضع اللاعب الطويل في مقدمة أولوياتهم، هذا الاتجاه لم يكن بدعة أو موضة تأخذ وقتها وتزول، إنما هو اتجاه عالمي، فليس من الغرابة أن نرى منتخبات عالمية كروسيا وبولندا وصربيا على سبيل التمثيل تشتهر بإنتاج لاعبين طوال القامة، ويعد ذلك أحد أسباب تفوقها في مهارتي حوائط الصد والضرب الهجومي الساحق.
لكن هذه الميزة الطبيعية المتمثلة في وجود (طول القامة) تتحول أحيانا إلى سلاح ناقص المفعول إن لم تدعم بالمهارات المطلوبة.
ثانيا: حدود الطول ومخاطره
وعندما نرى في طول القامة من امتيازات، لا يعني أن أصحابها لا يخلون من نواقص، بل نجد بعض لاعبي متوسط الشبكة أنهم يفتقرون إلى المرونة، وهذا يجعلهم يعانون من صعوبة في التغطية الدفاعية أو التحركات السريعة، وهذا من شأنه يجعلهم مستهدفين من المنافسين.
ومن اللافت أننا نجد اللاعبين الذين يتوافرون على قامة طويلة، يعولون بشكل مبالغ فيه على القوة البدنية، ولنا في الضاربين الأوربيين أمثلة على ذلك، إذ سرعان ما يتراجعون عندما يصطدمون بدفاعات منظمة وذكية.
وربما نرى تفاوتا في مراكز اللعب من ناحية الأطوال، ففي مركز صانع الألعاب والمدافع الحر (الليبرو) قد يكون الطول هنا ثانويا، بينما المهارة والذكاء التكتيكي هما الأساس.
ثالثا: المهارة كعامل حاسم
المنتخب الياباني يمثل هنا نموذجا، إذ يعد منتخبهم من أقصر المنتخبات في معدل الطول، ومع ذلك ينافس بفضل المهارة العالية التي يتحلى بها لاعبوه في الاستقبال والدفاع، إلى جانب سرعة اللعب، اللاعب يوكي إيشيكاوا مثلا (طوله نحو 1.91م) ولكنه يعد من أبرز المهاجمين رغم أن طوله أقل من المعدل العالمي في مركزه.
والمنتخب البرازيلي نموذج للمنتخب المتكامل، إذ لطالما عرف المنتخب البرازيلي بتركيزه على المهارة، إذ يبلغ طول نجمه لاعب مركز 4 السابق جيبا (1.92م) وصانع ألعابه المخضرم برونو ريزيندي (1.90م) إذ يتميز هذا الثنائي بذكاء تكتيكي وقدرة على صنع الفارق حتى أمام فرق أطول قامة.
وهناك ليبروات قصار أمثال الأمريكي «أريك شوجي» يثبتون أن المهارة والدفاع يمكن أن يمنحا الفريق بعدا مختلفا لا علاقة له بالطول.
رابعا: المعادلة المتوازنة
ويمثل المنتخب الإيطالي مثالا حيا في هذا الاتجاه «التوازن» بوجود مهاجم مثل إيفان زايستيف (2.04م) إلى جانب صانع ألعاب من ذوي المهارة العالية، فالمنتخب الإيطالي يوازن بين الطول والمهارة، ما جعله دائما من القوى المنافسة الكبرى.
المنتخبات الناجحة لا تعتمد على الطول وحده، بل تبني فلسفتها على الدمج بين العنصرين، بحيث يتم استثمار الطول كقاعدة، وتطوير المهارة كشرط للتفوق.
خامسا: اقتراحات
- المدربون: يتطلب من المدربين أن يتجاوزوا التركيز الأحادي على الطول وحده، وأن يخصصوا برامج لصقل المهارات منذ المراحل المبكرة خلال فرق الفئات العمرية.
- المواهب الصغيرة ينبغي ألا يتعرضوا للإحباط بسبب قصر قامتهم، بل يحفزوا على تعويض ذلك عبر التخصص في مراكز من شأنها تناسبهم.
- على الاتحادات والأندية وضع خطط متوازنة لاختيار المواهب وفق معايير مزدوجة (بدنية + فنية)، بدل الاقتصار على بعد واحد.
وفي الختام علينا ألا ننظر الى الكرة الطائرة على أنها لعبة قامات فحسب، بل لعبة تكامل أدوار، فالطول يفتح الأبواب، لكن المهارة هي التي تقرر من يعبر منها بجدارة، والفرق التي نجحت في الدمج بينهما – مثل البرازيل وإيطاليا – أثبتت أن الطريق إلى البطولات يمر عبر المزج الذكي بين القامة والمهارة، بين ما يعطى وما يكتسب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك