مجمعات ناجحة.. وأخرى لم تصمد أمام التحولات الاقتصادية والرقمية وتغير توقعات المستهلك
المراكز ضعيفة النشاط تمثل استثمارات مجمدة تخفض من جاذبية المنطقة
تصوير - عبدالأمير السلاطنة
لم يعد دور المجمعات التجارية مقتصرا على كونها مراكز لتجارة التجزئة، أو جمع أشهر الأسماء التجارية العالمية تحت سقف واحد، بل باتت أحد عوامل الجذب الرئيسية التي تنشط حركة السياحة وتحفز النمو والنشاط الاقتصادي، بل يمتد دورها الى الجوانب الاجتماعية والترفيهية والعمرانية وخلق فرص عمل ورفع قيم العقارات في المنطقة التي توجد فيها.
في البحرين، ووفقا لشركتي الخدمات Smart scrapers وRentech Digital، هناك حوالي 483 مجمعًا تجاريا صغيرا ومتوسطا وكبيرا، بواقع 232 مجمعا في محافظة العاصمة، و119 في الجنوبية، و51 في المحرق.
الحديث هنا عن المجمعات الكبيرة ذات الأثر الواضح في جذب السياح وتنشيط الحركة التجارية. ففي الوقت الذي نرى فيه مجمعات تنعم بحركة نشاط متزايدة على مدار العام، نشاهد مجمعات تجارية أخرى تشهد تراجعا في الإقبال، وإغلاقا لمحلات بعضها كبيرة ومشهورة، بل إن بعض المجمعات الضخمة يمكن وصفها بأنها ولدت ميتة، واستمرت مهجورة. فجولة في هذه المجمعات كفيلة بعكس الواقع وهو ان نسبة الاشغال في عدد منها لا يتجاوز 10%. وتبقى مساحات شاسعة في تلك المباني الضخمة شاغرة، وكأنها أموال أو ملايين معطلة.
وهذا ما يطرح سؤالين أساسيين، ما المعايير التي تجعل من هذا المجمع ناجحا أكثر من ذاك؟ وهل يستوعب السوق المحلي كل هذا العدد من المجمعات التي يبدو بعضها مجرد نسخ مكررة من الأخرى؟
ونود أن نلفت هنا إلى أننا حاولنا مناقشة هذا الأمر مع عدد من ملاك أو مديري تلك المجمعات، لكنهم اعتذروا عن المشاركة.
العرض والطلب
في تصريح سابق لوزارة الصناعة والتجارة، أكدت أن أعداد السجلات التجارية في المجمعات تتغير بشكل مستمر، شأنها شأن أي نشاط تجاري آخر، وذلك نتيجة لعدة عوامل منها العرض والطلب، ونقل مواقع المتاجر والتحول المتزايد نحو التجارة الرقمية. وأضافت الوزارة أن مدى جاذبية المجمع التجاري يلعب دوراً محورياً في استمرارية الأنشطة التجارية فيه، حيث يتأثر الإقبال على المجمع بموقعه وسهولة الوصول إليه وتوافر مواقف السيارات، فضلاً عن التسويق الإلكتروني والتسهيلات المقدمة من الجهة المؤجرة.
وفي مقال له، أكد المستشار العقاري والرئيس التنفيذي لشركة رؤية، فيصل النهدي، أن تفعيل الفرص في المجمعات التجارية قد يكون أهم دوافع نجاحها، وأن المشاريع التي تحظى بالشعبية هي تلك التي تخدم فئة واسعة من الناس وتمكّن الاختلاف والتنوع، وهو ما يعكس عمق الفهم والرؤية المتحضرة.
أحد الاقتصاديين الأكاديميين -فضل عدم ذكر اسمه- أكد لنا أن نجاح أي مجمع لا يعتمد فقط على عدد المحلات التي يضمها، بل هي تجربة متكاملة ومترابطة، وهناك عدة عوامل تلعب في نجاح هذا المجمع من دون ذاك، منها طبيعة المنطقة والكثافة السكانية، وتوافر المواقف بشكل كاف، والخدمات المميزة المتوفرة والفرص الاستثنائية التي تجذب السياح والمشترين.
وأضاف: من الأمور المهمة أيضا هي كلفة التسوق في هذه المجمعات، وتنوع وتميز العلامات التجارية المتوافرة مع ضمان الموازنة بين العلامات الغالية مع العلامات الأخرى التي تكون أسعارها في متناول الفئة الكبرى من المجتمع. ويضاف الى ذلك الإدارة الذكية وتوفير تجربة فريدة للجمهور مثل الترفيه والديكورات والهوية البصرية والعمارة والأنشطة المتنوعة وغيرها.
ناجحة.. على الورق!
هذا الموضوع ناقشناه أيضا مع المتخصص بالشأن العقاري والتجاري، والمدير التنفيذي لشركة «راكوون للخدمات» عبدالله مراد، الذي أكد أن التساؤلات بخصوص فرص الاستثمار في المجمعات التجارية بالبحرين تزايدت في الآونة الأخيرة. والكثير من العملاء يستشيرونه في إمكانية إنشاء مجمع صغير على أرض في منطقة حيوية.
ويضيف مراد: هذا النوع من المشاريع يبدو واعداً على الورق، لكن التجارب الأخيرة لعدد من المراكز التجارية التي لم تصمد أمام المتغيرات الاقتصادية والتحولات الرقمية التي تفرض علينا التوقف والتحليل قبل المضي قدماً. فقد شهد السوق المحلي حالات إخفاق متكررة لمجمعات لم تستطع مجاراة رياح التغيير أو التكيف مع توقعات المستهلك الجديد، وهو ما يجعل دراسة الواقع وتحليل أسبابه ضرورة قبل المجازفة والانخراط بمشروع غير مستدام.
فالمشهد التجاري في البحرين اليوم مزيج من الفرص والتحديات. وهناك مجمعات كبرى نجحت في ترسيخ مكانتها، خاصة تلك التي تتمتع بعلامات تجارية عالمية، ومطاعم متنوعة، وأنشطة ترفيهية جاذبة للسياح والمقيمين على حد سواء. في المقابل، نجد مجمعات اخرى لا تملك هوية واضحة، وتعتمد على استقطاب الزائرين بشكل عشوائي، ما يجعلها أكثر عرضة لتقلبات السوق.
* ألا يلعب حجم السوق والمجتمع دورا في نجاح أو فشل المجمعات؟
** على الرغم من محدودية عدد السكان، فإن المشهد لا يعكس بالضرورة حالة تشبع كامل في عدد المراكز التجارية. فالتجارب في البحرين ودول الجوار تظهر أن أكثر المجمعات نجاحاً يمكن أن توجد بالقرب من بعضها من دون أن يؤثر ذلك سلباً على أدائها، شرط أن تتميز كل وجهة بعرض مختلف وقيمة مضافة واضحة. ومع ذلك، تشير بيانات ما بعد الجائحة إلى أن القدرة الشرائية للمستهلك البحريني تراجعت بشكل ملحوظ مقارنة بفترة ما قبل 2019، نتيجة عوامل مثل رفع الدعم عن الطاقة وفرض الرسوم والضرائب.
* إذن ما عوامل نجاح وفشل تلك المجمعات؟
** لفهم أسباب نجاح أو فشل المجمعات، يجب أولاً التمييز بين أنواعها. فالمجمعات السياحية الكبرى تستقطب الزوار عبر مزيج من التسوق الراقي، والمطاعم، والأنشطة الترفيهية، وهي مشاريع تحتاج إلى ميزانيات تسويقية ضخمة وتخطيط دقيق. أما المجمعات المكملة، فهي تتوزع بين المناطق السكنية وتلبي احتياجات السكان المحليين من خدمات يومية مثل السوبرماركت، محلات الاتصالات، الصرافة، ومحلات المستلزمات الدورية. هذه الأخيرة غالباً ما تكون أصغر حجماً وأقل كلفة، لكنها تعتمد على قاعدة زبائن ثابتة ومحدودة، هذا بالإضافة الى مجمعات الخدمات التي تعتمد على قاعدة زبائن منتظمة لعدد من زوار ومراجعي المؤسسات والجهات التي تفتح أفرع في مختلف المناطق.
وهنا يجب تأكيد ان إدارة المجمع تمثل عاملاً حاسماً في نجاحه، إذ تتولى تخصيص ميزانيات للترويج وتنظيم الفعاليات والمهرجانات والمسابقات لجذب الجمهور. الإدارة النشطة قادرة على خلق حيوية دائمة، بينما الإدارة الضعيفة تترك المرافق فارغة وتفقد قدرتها التنافسية.
ولا ننسى هنا عاملين مهمين أثّرا بشكل كبير على حركة التسوق في البحرين. الأول هو التحول الرقمي الذي تسارع بعد جائحة كورونا، حيث تغيّر سلوك المستهلكين بشكل جوهري، وأصبح جزء كبير منهم يفضل التسوق الإلكتروني لما يوفره من راحة وسرعة وخيارات واسعة، مع إمكانية الشراء من أسواق دولية بأسعار تنافسية وخدمات شحن أكثر كفاءة، مما قلل الإقبال على المتاجر التقليدية التي لم تقدم تجربة مميزة أو قيمة مضافة. أما العامل الثاني فهو التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، اللذان قللا من القوة الشرائية للأسر.
إلى جانب ذلك، يواجه اصحاب المجمعات تحدياً إضافياً في ظل المشاريع العملاقة التي دشنتها دول الجوار، والتي تقدم وجهات تسوق وترفيه بمستوى عالمي، مما يجعل جذب السائح الخليجي أكثر صعوبة إذا لم يكن هناك عنصر تفوق أو تميز محلي.
ويؤكد عبدالله مراد أن غياب الزوار عن المراكز التجارية لا يقتصر أثره على المستثمر أو المستأجر، بل يمتد إلى البيئة الاقتصادية والاجتماعية للمحيط الذي يوجد فيه المجمع. والمراكز المهجورة أو ضعيفة النشاط تخفض من جاذبية المنطقة، وتنعكس سلباً على قيمتها السوقية، كما تثير مخاوف المستثمرين الجدد، ما قد يحد من تدفق الاستثمارات.
ومن الناحية الاقتصادية، هذه المراكز تمثل استثمارات مجمدة لا تحقق عوائد كافية، وقد تتحول مع مرور الوقت إلى بيئات غير مريحة أو غير جاذبة للسكان والسياح.
لذلك فإن التحولات التي يشهدها قطاع المجمعات في البحرين تفرض على المستثمرين التفكير خارج الإطار التقليدي. فالنجاح لم يعد مرتبطاً فقط بتوفير محلات ومطاعم، بل بخلق بيئة ترفيهية واجتماعية متكاملة تجعل الزائر يختار المجمع كوجهة لتجربة متكاملة. والاستثمار الذكي اليوم هو الذي يدمج بين الخدمات والتجارب، ويوظف التسويق الرقمي، ويستجيب بسرعة لتغيرات السوق. وفي ظل المنافسة الإقليمية المتصاعدة، فإن القدرة على الابتكار والتكيف ستظل العامل الحاسم الذي يميز بين مشروع ناجح وآخر ينضم إلى قائمة الإخفاقات.
التخصص بدل التكرار
الأكاديمي العقاري والرئيس التنفيذي لمجموعة الفاتح جاسم الموسوي يدلي بدلوه في هذا الموضوع، لافتا الى ان المشكلة ليست في المجمعات نفسها، بل في جوانب أخرى غالبا ما تكون فنية، في مقدمتها البنية التحتية.
ويوضح ذلك بقوله: قبل أن نمنح ترخيصا لإنشاء أي مجمع، يجب إجراء دراسة وافية تتضمن طبيعة المداخل والمخارج وقربها من الطرق الرئيسية. وهذا ما يعني دراسة مرورية متكاملة. لذلك نرى ان المجمعات التي تقع بالقرب من الطرق الرئيسية وتتميز بمداخل ومخارج سهلة وجسور علوية ومواقف كافية وبمناطق استراتيجية، تكون أكثر نجاحا من غيرها. في حين نجد مجمعات ضخمة وحديثة لكنها في مناطق غير مناسبة أو هناك إشكالية في المداخل والمخارج، تعاني من حركة تجارية محدودة.
وهناك عوامل أخرى، منها كثرة المجمعات في مناطق متقاربة. ولدينا تجارب سابقة واضحة مثل شارع البديع وشارع المعارض التي باتت مكتظة بالمحلات والمجمعات بشكل يفوق طاقتها. وهذا ما يؤدي الى تراجع الحركة في المحلات الاقدم لصالح المشاريع الاحدث.
أضف الى ذلك، طبيعة سكان المنطقة التي يقع فيها المجمع، والكثافة السكانية. فليس من الحكمة مثلا ان ننشئ مجمعات ضخما في منطقة محدودة السكان. وكذلك الامر بالنسبة للتركيز على العلامات التجارية الغالية في مجمعات، ربما تكون أرخص في مجمعات دول مجاورة.
والى جانب ما سبق، هناك معيار لا يقل أهمية وهو التنوع والتخصص. فليس من المعقول ان نضيف مجمعات جديدة تعتبر نسخا مكررة للموجودة أساسا. وفي الكثير من الدول الأوروبية نرى مجمعات متخصصة في الملابس مثلا، وأخرى لمواد البناء، وغيرها للإلكترونيات، والمأكولات وهكذا. فهذا التخصص والتنوع يزيد من فرص نجاح كل مجمع، بدل ان نجد نفس الأسماء والمحلات والبضائع والمطاعم في كل مجمع تجاري.
ويضيف الموسوي: في الوقت الحالي، نحن بحاجة الى دراسة شاملة للمجمعات الخاوية وبحث آليات تنشيطها والتغلب على النواقص التي تعاني منها، مثل ان تكون بعض هذه المجمعات مراكز او مخازن لمنصات البيع الالكتروني كأمازون مثلا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك