هكذا أجبر مستثمرو السندات ترامب على تجميد الرسوم الجمركية
هكذا أجبر مستثمرو السندات ترامب على تجميد الرسوم الجمركية في الأيام التي سبقت فرض الرسوم الجمركية المنتظرة منذ فترة طويلة على معظم الواردات إلى الولايات المتحدة في 9 أبريل، لم يتراجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن موقفه. ولم يهتز أمام انهيار سوق الأسهم التي فقدت أكثر من 6 تريليونات دولار من القيمة السوقية. بل لم يتأثر أيضاً باعتراضات زعماء دول (وبعض أعضاء حزبه) على الرسوم.
لكن في الساعات التي تلت دخول الرسوم حيّز التنفيذ، انهارت سوق سندات الخزانة. وبدأ العديد من المستثمرين في السندات، الذين شعروا بالقلق من أن هذه الرسوم قد تؤدي إلى تسارع التضخم وانخفاض الطلب الأجنبي على الأصول الأمريكية، في التخارج من حيازاتهم بهدف الضغط على الإدارة الأمريكية للتراجع عن القرار.
نجح الأمر.. بعد 13 ساعة فقط من بدء تنفيذ الرسوم، أعلن ترامب تجميدها. وقال: «سوق السندات معقدة جداً»، مضيفاً: «كنت أراقبها».
إنذار السندات بسبب الرسوم
يعد البيع المكثف للسندات بمثابة إنذار من الدرجة القصوى لأي حكومة. فعندما يتم بيع السندات، ترتفع عوائدها، أي العائد الذي يتوقعه المستثمرون مقابل إقراضهم المال للحكومة. وارتفاع العائدات يعني أن على الحكومات أن تدفع مبالغ أكبر للاقتراض. وعادة ما تلجأ الحكومات إلى الاقتراض لتمويل الخدمات العامة التي تقدمها، لأن تكلفتها غالباً ما تتجاوز الإيرادات المحصّلة من الضرائب وغيرها من المصادر. وإذا استمرت الحكومة في الاقتراض مع عوائد مرتفعة، فإن مدفوعات الفوائد على الدين سترتفع بشكل كبير.
يمكن أن يؤدي استمرار البيع المكثف للسندات إلى جعل تنفيذ ترامب لخفض الضرائب، وهو هدفه المحلي الأبرز، أمراً مستحيلاً من دون أن يشهد العجز في الموازنة قفزة هائلة.
لذا فقد تراجع. بعد دخول رسوم 9 أبريل حيز التنفيذ، ارتفعت عوائد السندات المستحقة خلال 30 عاماً إلى أكثر من 5%، وهو أعلى مستوى في عامين. وعندما أعلن ترامب تجميد الرسوم، تراجعت العوائد إلى نحو 4.8%.
بالنسبة الى الخبير الاقتصادي إد يارديني، فإن تراجع ترامب يعد انتصاراً جديداً لما يُعرف بـ«مؤثري السندات»، وهم المستثمرون الذين يبيعون السندات للضغط على الحكومات لتغيير سياساتها الاقتصادية التي يعتبرونها متهورة.
كتب يارديني، وهو استراتيجي استثمار مخضرم، بعد إعلان ترامب تعليق الرسوم: «مستثمرو السندات عادوا إلى توجيه ضربة جديدة». أضاف: «فيما نراه، لا سيما في ما يتعلق بالأسواق المالية الأمريكية، هم الوحيدون الذين يحققون نسبة نجاح 100% على الإطلاق».
كيف يعمل المؤثرون في سوق السندات؟
عندما تنفق الحكومة بشكل يفوق ما تجنيه من إيرادات، أو تتبنى سياسات تُذكي التضخم، فإن قيمة السندات تميل إلى التراجع. وغالباً ما تمول الحكومة إنفاقها من خلال إصدار السندات، ومع تزايد المعروض منها، تتراجع قيمة السندات بحوزة المستثمرين، بافتراض ثبات العوامل الأخرى. كما يعني ارتفاع التضخم أن الفائدة التي يحصل عليها المستثمرون من حيازاتهم ستفقد قيمتها المستقبلية.
لإجبار الحكومة على تغيير سياستها وكبح فائض السندات أو التضخم، يقوم المستثمرون ببيع السندات بشكل جماعي. وبهذا التصرف، يشكّلون جبهة تأثير في سوق السندات.
مع تراجع أسعار السندات، ترتفع العوائد إلى مستويات تجعل من المستحيل على الحكومة مواصلة الاقتراض من دون خطر التخلف عن سداد ديونها واندلاع أزمة مالية. وفي ما يشبه «الإضراب عن الشراء»، يجبر مؤثرو السندات الحكومة على تغيير المسار وإعادة ترتيب وضعها المالي، وفق رؤيتهم.
كان يارديني هو من صاغ هذا المصطلح في تقرير بحثي عام 1983 بعنوان «مستثمرو السندات هم المؤثرون في الاقتصاد». وكتب حينها: «إذا لم تعمل السلطات المالية والنقدية على تنظيم الاقتصاد، فإن مستثمري السندات سيتكفلون بذلك». وأضاف: «سيتم تسيير الاقتصاد من قبل المؤثرين في سوق الائتمان».
ليس هناك أي إطار تنظيمي رسمي لمؤثري السندات ولا مستوى عائد مستهدف، ولا حتى شخصية عامة معروفة. في الواقع، عددهم لا يُحصى، وهم عبارة عن مستثمرين أفراد ومؤسسات، سواء الكبار منهم والصغار، ويتحركون بدافع المصلحة الذاتية.
هل سبق أن ضغط هؤلاء المؤثرون على قرارات الحكومات؟
نعم. ومن أشهر انتصارات المؤثرين في سوق السندات كانت في تسعينيات القرن الماضي، من خلال تهديدهم «بالإضراب»، أجبروا الرئيس بيل كلينتون على تقليص جدول أعماله المحلي الطموح، الذي كان يتضمن خفض الضرائب للطبقة الوسطى، للتركيز بدلاً من ذلك على تقليص العجز.
فوجئ كلينتون بمدى تحكم سوق السندات في مصير برنامجه، ففي كتاب الصحفي بوب وودوارد عن البيت الأبيض في عهد كلينتون، «الأجندة»، نُقل عن كلينتون قوله وهو غاضب لمساعديه: «أتقصدون أن نجاح البرنامج الاقتصادي وإعادة انتخابي يعتمدان على الاحتياطي الفيدرالي ومجموعة من متداولي السندات المتسلطين؟».
وأدى تأثير سوق السندات إلى أن يصرّح المستشار السياسي جيمس كارفيل في عام 1993 قائلاً: «كنت أعتقد أنني إذا عدت إلى الحياة مرة أخرى، أود أن أكون رئيساً أو بابا الفاتيكان أو لاعب بيسبول بنسبة نجاح 400، لكن الآن، أود أن أعود إلى الحياة كسوق السندات، لأنه يمكنه إخافة الجميع».
تدخل مؤثرو السندات أيضاً في السويد في تسعينيات القرن الماضي، في ذلك الوقت، سجلت الحكومة عجزاً كبيراً، بينما كان الاقتصاد بالكاد ينمو. أعلن بيورن وولراث، وهو مستثمر في شركة التأمين «سكنديا غروب» (Skandia Group) في ستوكهولم، في يوليو 1994، أنه لن يشتري «سنداً سويدياً واحداً» ما لم تقم الحكومة بخفض العجز. مع بدء مستثمري السندات في البيع، اضطرت الحكومة إلى خفض الإنفاق.
خلال العقود التالية، تراجع نشاط هؤلاء المؤثرين بشكل كبير. حتى بعد الأزمة المالية في 2008، حينما ارتفع الدين الأمريكي بفعل الحوافز وتراجع الإيرادات الضريبية، لم يكن للمستثمرين تأثير يُذكر على السياسات. وقطع عليهم الاحتياطي الفيدرالي الطريق عبر شراء تريليونات الدولارات من السندات الحكومية، ما أبقى أسعار الفائدة قرب الصفر. ساعدت هذه السياسات، إلى جانب التضخم المنخفض نتيجة النمو الاقتصادي الضعيف، على إبقاء العوائد عند مستويات متدنية تاريخيّاً. وأي عمليات بيع قام بها المؤثرون تم تجاوزها بفضل تدخل «الفيدرالي» القوي، فتم تحييد المؤثرين.
كيف غيّرت جائحة كوفيد-19 سوق السندات؟
عاد مستثمرو السندات بعد الجائحة. فقد أدت الحوافز الضخمة التي أطلقتها الحكومات حول العالم إلى تأجيج التضخم، ورفع الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة في الولايات المتحدة وغيرها. رداً على ذلك، رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة بشكل حاد، ما أدى إلى خسارة قياسية بلغت 17% في العوائد على السندات الحكومية عالميّاً في عام 2022.
في ذلك العام، ظفر مؤثرو السندات بضحية كبرى. فقد أُصيب المستثمرون بالذعر جراء خطة الحكومة البريطانية لتنفيذ أكبر خفض ضريبي منذ عام 1972، فقاموا ببيع السندات بشكل سريع وهائل. وأدى الانهيار في السوق إلى استقالة رئيسة الوزراء ليز ترَس بعد 44 يوماً فقط في منصبها.
في عام 2024، تجاوز الدين الحكومي العالمي 100 تريليون دولار للمرة الأولى، وتواجه مزيد من الحكومات ضغوطاً من مؤثري السندات. قال مارك داودينغ، كبير مسؤولي الاستثمار في وحدة الدخل الثابت بشركة «آر بي سي غلوبال أسيت مانجمنت» (RBC Global Asset Management): «المملكة المتحدة تُشبه طائر الكناري في منجم الفحم». وأضاف: «أول ما تريد سوق السندات رؤيته هو أن الدولة تعيش في حدود إمكانياتها».
هل تتجه الولايات المتحدة نحو أزمة ديون؟
قال جيه دي فانس، نائب الرئيس حالياً ورفيق ترامب في السباق الانتخابي، إنه قلق من احتمال حدوث «دوامة هلاك سوق السندات» في ولاية ترامب الثانية. في إشارة إلى سيناريو يؤدي فيه ارتفاع الدين إلى زيادة تكاليف الاقتراض، ما يقود إلى تباطؤ للاقتصاد، ويجعل سداد الدين أكثر صعوبة، ويفجر في النهاية أزمة اقتصادية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك