هل توفر المواصلات العامة حلا للاختناقات المرورية؟
أخبار الخليج تتجول فـي «النقل العام» وترصد الإيجابيات والسلبيات
تصوير- عبد الأمير السلاطنة
تشير الإحصائيات في المملكة إلى أن عدد المركبات المسجلة يزداد سنويا بنسبة 3,26% بإضافة 20 ألف مركبة. وبالتالي ارتفع عدد المركبات من 545,155 مركبة عام 2013 إلى 749,376 مركبة في نهاية 2023، وصولا الى 760 ألف مركبة في منتصف هذا العام 2024.
كما شهدت البحرين زيادة في الكثافة السكانية بنسبة 16,5%، لتبلغ 1979,1 نسمة لكل كيلومتر مربع. وبنفس الوقت يعتمد المجتمع البحريني بشكل أساسي على السيارات الخاصة في التنقلات اليومية، وتشير الاحصائيات الأخيرة إلى أن أقل من 0,5% فقط يستخدمون المواصلات العامة!
هنا يبرز سؤال مهم: إلى أي مدى يمكن لوسائل النقل البديلة كالنقل العام –مع الغياب الحالي للمترو– ان تلعب دورا في تخفيف وطأة المشكلة من خلال تشجيع الافراد على استقلال وسائل النقل الجماعي بدل المركبات الخاصة، لا سيما عند التوجه الى الدوام والعودة منه. فالباصات تعتبر من أفضل الحلول التي تتبعها المدن المزدحمة للتعامل مع مشكلة الاختناقات المرورية. وبحسبة بسيطة، يمكن من خلال استقلال باص واحد، تقليل ما لا يقل عن 40 مركبة خاصة في الطرقات العامة.
النقل الجماعي
وفي دراسة حول جغرافيا النقل نشرها محمود قديد في كتابه (تخطيط النقل الحضري)، قارنت الدارسة بين النقل العام والنقل الخاص من حيث استهلاك المساحة، وذلك عن طريق حساب المساحة المطلوبة بالمتر المربع لكل راكب وفقا لسرعة المركبة. ووجدت الدراسة أنه لسرعة 40 كم في ساعة يتطلب الراكب الواحد في الباص مساحة 1,5 متر، بينما يتطلب مساحة 30 مترا في حالة المركبة الخاصة.
بشكل عام، تثبت تجارب العديد من الدول المتقدمة ان وسائل النقل العامة تعتبر بديلا حيويا للتنقل مع تحقيق مميزات عديدة منها تقليل نفقات النقل وحماية البيئة وتقليص مدد الرحلات. وبالطبع يتحقق ذلك بوجود وسائل النقل المريحة والبنية التحتية المهيأة بما في ذلك مسارات خاصة لمركبات النقل العام، ما يجعل التنقل فيها أسرع من المركبات الخاصة.
كما يتم في ساعات الذروة تخصيص باصات تجمع الركاب من كل منطقة تم تنطلق مباشرة الى المناطق الحيوية من دون توقف في المحطات. وهذا ما يضمن سرعة كبيرة في النقل.
ماذا عن البحرين؟
السؤال الذي يطرح هنا نفسه: الى أي مدى يمكن للنقل الجماعي ان يمثل حلا لمشكلة الاختناقات المرورية بالبحرين؟ وإلى أي مدى يمكن أن يتقبل الأفراد هذا البديل في تنقلاتهم اليومية خاصة في الذهاب والعودة من العمل، وهي الأوقات التي تمثل ساعات الذروة؟
هناك معايير تتحكم في تقبل الافراد لهذه الوسائل، منها طبيعة الثقافة المجتمعية، ومدى قدرة هذه البدائل على تلبية الاحتياجات من خلال وجود شبكات رحلات منظمة تلبي الاحتياجات، وكذلك مدى تقليص الوقت الجهد في التنقل، واحتساب فارق الكلفة، وطبيعة الخدمات التي يقدمها النقل الجماعي مع ضمان الراحة.
الاحصائيات الأخيرة تشير الى ان اجمالي اسطول حافلات النقل العام المشغلة فعلا في المملكة يبلغ 114 حافلة من أصل 140، وتنقل هذه الحافلات ما معدله 332 ألف شخص في اليوم على شبكة نقل مكونة من 26 خطا، وتضم هذه الخطوط 583 محطة.
ويبلغ عدد الرحلات اليومية لهذه الحافلات 726 رحلة تغطي حوالي 80% من المناطق السكنية في البحرين. ومنذ تدشين شركة النقل العام في فبراير 2015 وحتى نهاية سبتمبر الماضي 2024، نقل اسطول الشركة أكثر من 98 مليون راكب (98,036,021 راكبا).
ولكن السؤال هنا كم نسبة البحرينيين من هؤلاء الركاب؟
معايشة التجربة
«أخبار الخليج» عايشت التجربة ورصدت الواقع عن كثب، وتنقلت عدة مرات في حافلات النقل العام، بين محطات عدة للوقوف على ما إذا كانت هذه الوسائل يمكن ان تمثل خيارا جيدا للموظف والعامل البحريني خاصة خلال فترات الذروة. وخلال الرحلات التقينا ركابا بحرينيين وعربا واسيويين وأفارقة ممن يعتمدون على الباصات في تنقلاتهم اليومية.
الانطلاقة كانت من محطة مدينة عيسى، والهدف هو التوجه إلى المنامة والمحرق، لقياس الوقت وطبيعة الخدمات في الرحلة. وكان هناك خط خاص ينقل الركاب من مدينة عيسى الى مطار البحرين الدولي مرورا بالمنامة.
المعيار الأول الذي كان لا بد من رصده هو الكلفة. وهذا ما تشرحه اللافتات الواضحة عند مدخل كل حافلة، الذي يشير الى ان كلفة الرحلة الواحدة هي 300 فلس إذا كان الدفع نقدا. ولكن هناك خيارات أوفر وهي شراء بطاقة (GO)، فبقيمة 12 دينارا يشحنها الراكب في البطاقة، يمكنه استخدام الحافلات مدة 28 يوما بشكل لا محدود. وبقيمة 3 دنانير يستخدم الحافلات مدة أسبوع. وكبار السن من حاملي البطاقة يحصلون على خصم 50%. أما المواطنون من ذوي العزيمة فرحلاتهم مجانية.
منذ الوهلة الأولى تبدو الأسعار مناسبة جدا خاصة مع خدمة البطاقة، لكنها قد تكون مكلفة لمن يعتمد على الدفع النقدي. فرحلة الذهاب والإياب بالمشوار الواحد قد تكلف 1,2 دينار، وهو مبلغ قد يكون كبيرا للبعض لو تراكم بشكل شهري.
انطلقت الحافلة من محطة مدينة عيسى في تمام الساعة 10:26 صباحا. لم تكن الشوارع في هذا التوقيت مزدحمة، وجميع الركاب من الاسيويين عدا راكب بحريني واحد.
الباصات تبدو بحالة جيدة، مكيفة مع خدمة انترنت مجانية متوافرة لجميع الركاب. خيارات الدفع متوافرة بين النقد او مسح البطاقة. شاشات متعددة تعرض المعلومات والنصائح. كراس خاصة لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والسيدات. والملفت هو الخدمات الالكترونية، حيث يمكن تتبع مسارات الحافلات ومعرفة الباص بشكل دقيق والوقت الصحيح لوصول الحافلة أو مغادرتها. ولكن الكراسي غير مريحة خاصة في الرحلات الطويلة.
انطلقت الحافة من المحطة مرورا بتوبلي وإشارة الشيخ عزيز ثم مستشفى السلمانية وحديقة الاندلس والسوق المركزي ورأس رمان، فجسر المحرق وبعده سوق المحرق وصولا الى المحطة الأخيرة في المطار في تمام الساعة 11:54 صباحا. علما بأن الحافلة تمر في هذه الرحلة بـ32 محطة فرعية قبل أن تصل إلى الوجهة النهائية.
استغرق الوقت بين مدينة عيسى ومستشفى السلمانية 40 دقيقة، والى السوق المركزي بالمنامة 55 دقيقة كاملة. فيما استغرقت الرحلة من بدايتها في مدينة عيسى إلى سوق المحرق ساعة و13 دقيقة.
وكان اجمالي الوقت للرحلة من بدايتها وصولا الى المطار هو ساعة و28 دقيقة. فيما تطلبت رحلة العودة ساعة و32 دقيقة. ما يعني أن الراكب سيحتاج الى ثلاث ساعات كاملة ذهابا وإيابا في هذا الخط الذي يعتبر من أطول خطوط النقل، مع الإشارة الى أن الطرقات في هذا التوقيت من اليوم لم تكن مزدحمة. وهنا كان لا بد من رحلة أخرى في أوقات الازدحام للمقارنة.
مقارنة التوقيت
كان لا بد من تجربة ذات المسار ولكن بتوقيت مختلف. وهذه المرة انطلقنا من مدينة عيسى مساء، وتحديدا في رحلة الساعة 6:10، وهو توقيت يعتبر أكثر ازدحاما نوعا ما. وكما في الرحلة الأولى، كان اغلب الركاب اسيويين، عدا راكبين بحرينيين وراكب عربي.
استغرقت الرحلة من محطة مدينة عيسى الى السلمانية 29 دقيقة. والى السوق المركزي ساعة و4 دقائق. والى سوق المحرق ساعة و20 دقيقة. فيما كان مجمل الرحلة من المدينة الى المطار ساعة و39 دقيقة. وكان مجموع رحلة الذهاب والعودة 3 ساعات و9 دقائق. بالمقابل، تكون مدة الرحلة بالسيارة الخاصة في نفس التوقيت ومن مدينة عيسى الى المطار 32 دقيقة، أي ان الفارق حوالي ساعة واحدة. وبسؤال السائقين عن اقصى مدة يمكن استغراقها في الباص أشاروا الى ان الرحلة الواحدة قد تصل الى ساعة و45 دقيقة.
آراء الركاب
خلال الرحلة التقينا عددا من الركاب، اولهم مواطن بحريني متقاعد دأب كما يؤكد على استقلال النقل العام في تنقلاته بعد ان باع سيارته قبل سنوات. قال لنا انه يعتمد على باصات النقل العام في تنقلاته اليومية الى مختلف المناطق في البحرين، حيث يجدها مريحة وبسعر مناسب نوعا ما. ولكنه يواجه اشكاليتين، الأولى هي محطة الباص عند منطقة البلاد. حيث توجد المحطة بجانب سور ممتد على الطريق، ما يعني ان الوصول الى المحطة يتطلب المشي مسافة طويلة او القفز على السور، وهو امر يصعب على كبار السن والنساء. والاشكالية الأخرى هي اضطراره أحيانا الى استقلال أكثر من حافلة للوصول الى وجهته. فضلا عن الوقت الطويل. فلكي يذهب الى موعد المركز الصحي في سند، يتطلب الامر ساعة ونصف الساعة من التنقل بين الباصات حتى يصل. وبسؤاله عما إذا كان البحرينيون يستخدمون النقل العام أكد انه لا يجد سوى المتقاعدين وكبار السن من الجنسين.
في الرحلة ذاتها حاورنا أحد العمال الاسيويين الذي يعتمد على شحن بطاقته بثلاثة دنانير ويستخدمها طوال الأسبوع. وهي كما يؤكد كلفة مريحة بالنسبة اليه. ويوضح ذلك بقوله: اسكن في سترة، وهناك خيارات متعددة للحافلات، ولكن المشكلة الأساسية هي الاضطرار الى تغيير الباص في بعض الرحلات، وطول مدة الرحلة التي تتجاوز أكثر من ساعة ذهابا ومثلها إيابا. وأكد انه نادرا ما يجد بحرينيين يستقلون هذه الحافلات.
من الأشخاص الذين التقيناهم موظف عربي يسكن في المحرق ويعمل في الرفاع. أكد ان المشكلة الأساسية التي يواجهها هي المدة الطويلة وعدم الالتزام بالمواعيد. وأضاف: اضطر الى استقلال الباص من المحرق الى مدينة عيسى، وهذا يتطلب حوالي الساعة ونصف الساعة. وبعدها انتظر ما لا يقل عن نصف الساعة للباص التالي الى الرفاع. ليكون مجموع الرحلة ساعتين ونصف الساعة وأحيانا قرابة الثلاث ساعات. ما يعني انني استغرق أكثر من خمس ساعات في اليوم في الحافلة.
وهذا ما عقب عليه راكب آخر بانه يضطر الى استقلال حافلتين حتى يصل الى مدينة حمد.
أحد المقيمين الأفارقة بيّن لنا انه يسكن في منطقة جد حفص، وهو يعتمد على النقل العام بشكل يومي، حيث يشتري بطاقة شهرية بقيمة 12 دينارا، وهو مبلغ مناسب جدا بالنسبة اليه، ولكن المشكلة التي يواجهها هي الوقت الطويل الذي تستغرقه الرحلة الوحدة. ويضيف: أضعت محفظتي مرتين في الحافلة. وعلى الفور اتصلت على المكتب الرئيسي وأبلغتهم، وقاموا بالتواصل مع السائق الذي وجدها على الكرسي، وأعادوا لي المحفظة في المرتين. وهذا أمر يحسب للشركة.
راحة نفسية
فيصل يوسف مواطن متقاعد يعتمد على النقل العام منذ سنوات. حدثنا عن تجربته قائلا: بشكل يومي استخدم الحافلات من مدينة عيسى الى المنامة أو الحورة. ولا اواجه اي مشاكل عدا طول الوقت والازدحامات، لدرجة انني اضطر أحيانا الى النزول من الحافلة والمشي لان ذلك أسرع في الوصول إلى وجهتي. والأمر الآخر انني اضطر في بعض الرحلات الى تغيير الباص لأنه لا توجد رحلات مباشرة. عدا ذلك أنا مرتاح من الخدمة.
من المشاهد الملفتة هي اعتماد بعض الاسيويين على النقل العام للذهاب الى المطار. وهذا كان مع اسيوي دخل الحافلة بحقيبة كبيرة. سألناه عن وجهته فقال انه مسافر في إجازة مدة شهر، وانه يستخدم الباص بشكل دائم في مثل هذه التنقلات.
ومن المشاهدات أيضا، مواطن كبير في السن، استقل الحافلة في مدينة عيسى، ووصل الى المحطة الأخيرة في المطار، ثم ركب حافلة العودة الى مدينة عيسى. تحدثنا معه خلال الرحلة عن سبب ذلك فأجاب: انا متقاعد واشعر أحيانا بالملل، لذلك اخرج في جولة بالنقل العام واشاهد معالم البحرين والطرقات، وهذا ما يجعلني اشعر بالراحة النفسية. ففي كل مرة اذهب الى منطقة مختلفة. وفي الواقع هذه المواصلات بالنسبة لنا نعمة كبيرة وتساعدنا كثيرا.
خلاصة
بعد هذه الجولات والحوارات، يمكننا ان نلخص ما رصدناه في جانبين، الأول هو إيجابيات استخدام النقل الجماعي، وهذا ما يشمل الخدمات الجيدة كالإنترنت والمساحات الواسعة وكثرة الرحلات، والاسعار المناسبة والالتزام بالتوقيت إلى حد ما.
وعلى الجهة الأخرى، تكمن الإشكاليات في جانبين أساسيين، هما عدم وجود رحلات مباشرة تربط الكثير من المناطق. والأمر الاخر هو طول مدة الرحلات. فليس من المعقول ان يقضي الموظف مثلا ما لا يقل عن ثلاث ساعات يوميا في التنقل برحلتي الذهاب والعودة. وهذا ما يجعله خيارا غير عملي اطلاقا. أضف إلى ذلك أن الثقافة العامة ما زالت لا تتقبل استخدام النقل العام في التنقل. وهو ما يتطلب استحداث منظومة متكاملة ومتطورة للنقل العام تسهم في تخفيف حدة الازمات المرورية التي تعاني منها طرقات المملكة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك