العدد : ١٧٤٣٢ - الأحد ١٤ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٣٢ - الأحد ١٤ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

تجربتي (2)

تحدثت‭ ‬بالأمس‭ ‬عن‭ ‬فرحتي‭ ‬العارمة‭ ‬عندما‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬صحف‭ ‬السودان‭ ‬ثلاثة‭ ‬مقالات،‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬جامعي،‭ ‬فحسبت‭ ‬أنني‭ ‬موعود‭ ‬بتسنّم‭ ‬ذروة‭ ‬المجد‭ ‬الصحفي،‭ ‬ثم‭ ‬عرضت‭ ‬عليكم‭ ‬واقعة‭ ‬تكليفي‭ ‬من‭ ‬جريدة‭ ‬إمارات‭ ‬نيوز‭ ‬الإنجليزية‭ ‬وشقيقتها‭ ‬العربية‭ ‬صحيفة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الإماراتية‭ ‬بمحاورة‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬ادموند‭ ‬ماسكي،‭ ‬فقررت‭ ‬استعراض‭ ‬عضلاتي‭ ‬الثقافية‭ ‬واللغوية‭ ‬وألقيت‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬سؤالا‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬المحاضرة،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬ظللت‭ ‬أرغي‭ ‬وأزبد‭ ‬لطرح‭ ‬السؤال‭ ‬بما‭ ‬يعطي‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنني‭ ‬شخص‭ ‬فهمان‭ ‬وخطير،‭ ‬ثم‭ ‬نظرت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬الإجابة،‭ ‬ولكن‭ ‬الرجل‭ ‬لم‭ ‬ينطق‭ ‬بحرف،‭ ‬وحسبت‭ ‬ان‭ ‬السؤال‭ ‬‮«‬صعب‮»‬،‭ ‬فأعدت‭ ‬طرحه‭ ‬بصيغة‭ ‬أخرى،‭ ‬ولم‭ ‬يستغرق‭ ‬مني‭ ‬ذلك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬دقائق،‭ ‬ولكن‭ ‬مفيش‭ ‬فايدة،‭ ‬فقررت‭ ‬طرحه‭ ‬بصيغة‭ ‬ثالثة،‭ ‬ولكن‭ ‬صوتا‭ ‬صدر‭ ‬منه‭ ‬اكد‭ ‬لي‭ ‬انه‭ ‬لا‭ ‬جدوى‭ ‬من‭ ‬محاورته‭. ‬فقد‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬الوزير‭ ‬كان‭ ‬بلا‭ ‬حراك‭ ‬وأنا‭ ‬أثرثر‭ ‬وأعربد‭ ‬مستعرضا‭ ‬قدراتي‭ ‬الصحفية‭ ‬واللغوية،‭ ‬وسرى‭ ‬الرعب‭ ‬في‭ ‬أوصالي،‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬راح‭ ‬فيها‭ ‬الرجل‭ ‬وكان‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬بلغ‭ ‬من‭ ‬الكبر‭ ‬عتيا؟‭ ‬سأكون‭ ‬هدفا‭ ‬للمخابرات‭ ‬الأمريكية‭ ‬وجيمس‭ ‬بوند،‭ ‬وكان‭ ‬معي‭ ‬مصور‭ ‬باكستاني‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬طمأنتي‭: ‬انت‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬خوف‭.. ‬هذا‭ ‬نفر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬موت‭.. ‬هو‭ ‬بس‭ ‬في‭ ‬نوم‭ ‬منشان‭ ‬هو‭ ‬واجد‭ ‬شيبة‭.. ‬أنا‭ ‬في‭ ‬يسوي‭ ‬شوية‭ ‬هركات‭ ‬بفلاش‭ ‬مال‭ ‬كاميرا‭ ‬بعدين‭ ‬هو‭ ‬يقوم‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭!! ‬ثم‭ ‬اقترب‭ ‬منه‭ ‬وأمطره‭ ‬بعدة‭ ‬فلاشات‭ ‬كادت‭ ‬تشوي‭ ‬وجهه‭ ‬المكرمش‭ ‬أصلا،‭ ‬فانتفض‭ ‬الرجل‭ ‬معتذرا‭ ‬لغفوته،‭ ‬ولولا‭ ‬بقية‭ ‬من‭ ‬حياء‭ ‬لـ«بست‮»‬‭ ‬أي‭ ‬قبّلت‭ ‬رأسه‭ ‬لأن‭ ‬سؤالي‭ ‬لم‭ ‬يقتله،‭ ‬وواصلنا‭ ‬الاسئلة‭ ‬والاجوبة‭ ‬وخرجت‭ ‬منه‭ ‬بشريطين‭ ‬مسجلين‭ ‬قمت‭ ‬بتفريغهما‭ ‬ونشر‭ ‬محتوياتهما‭ ‬كمانشيت‭ ‬للصحيفتين‭ ‬وكان‭ ‬اسمي‭ ‬مكتوبا‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الحوار‭ ‬المنشور‭ ‬الذي‭ ‬تناقلته‭ ‬وكالات‭ ‬الأنباء،‭ ‬فقلت‭: ‬خلاص‭ ‬يا‭ ‬ابو‭ ‬الجعافر،‭ ‬لازم‭ ‬تعتزل‭ ‬وانت‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬مجدك‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬صار‭ ‬اسمك‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬كل‭ ‬وكالة‭ ‬أنباء‭. ‬ولكن‭ ‬فرحتي‭ ‬لم‭ ‬تكتمل‭ ‬لان‭ ‬السفارة‭ ‬الامريكية‭ ‬بعثت‭ ‬بتكذيب‭ ‬للكلام‭ ‬الذي‭ ‬نسبته‭ ‬الى‭ ‬الوزير‭ ‬الأمريكي،‭ ‬واستدعاني‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬وهو‭ ‬يحسب‭ ‬انه‭ ‬وجد‭ ‬ذريعة‭ ‬للتخلص‭ ‬مني،‭ ‬وعاتبني‭ ‬على‭ ‬فبركة‭ ‬الحوار،‭ ‬ولكنني‭ ‬أبرزت‭ ‬له‭ ‬الشريط‭ ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الوزير‭ ‬قال‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬نسبتها‭ ‬اليه،‭ ‬وتم‭ ‬استدعاء‭ ‬الملحق‭ ‬الإعلامي‭ ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬أبو‭ ‬ظبي‭ ‬وجلست‭ ‬معه‭ ‬ليستمع‭ ‬إلى‭ ‬فحوى‭ ‬الشريط،‭ ‬فخرج‭ ‬من‭ ‬مبنى‭ ‬الصحيفة‭ ‬وقفاه‭ ‬يقمر‭ ‬عيش‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬الكسوف،‭ ‬وبكل‭ ‬هبالة‭ ‬شرحت‭ ‬لرئيس‭ ‬التحرير‭ ‬كيف‭ ‬ان‭ ‬الوزير‭ ‬نام‭ ‬أثناء‭ ‬طرحي‭ ‬للأسئلة‭!! ‬هنا‭ ‬صاح‭ ‬الرجل‭: ‬بالتأكيد‭ ‬انت‭ ‬شيوعي‭ ‬او‭ ‬عميل‭ ‬للسوفييت‭ ‬وتم‭ ‬تدريبك‭ ‬على‭ ‬تنويم‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الامريكية‭ ‬مغناطيسيا‭ ‬حتى‭ ‬تحصل‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬معلومات‭ ‬‮«‬سرية‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬فحوى‭ ‬شريط‭ ‬التسجيل‭ ‬نفى‭ ‬عني‭ ‬تهمة‭ ‬الشيوعية‭ ‬والعمالة‭ ‬للسوفييت،‭ ‬بل‭ ‬ونشرت‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬كلمات‭ ‬أتحدى‭ ‬فيها‭ ‬السفارة‭ ‬الامريكية‭ ‬ان‭ ‬تثبت‭ ‬أنني‭ ‬فبركت‭ ‬الحوار،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬غوانتنامو‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭.‬

والدرس‭ ‬المستفاد‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬على‭ ‬الصحفي‭ ‬الناشئ‭ ‬عدم‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الأسلوب‭ ‬الجعفري‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬صغار‭ ‬المطربين‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الراقصات،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬تكليفي‭ ‬لاحقا‭ ‬بمحاورة‭ ‬رئيسة‭ ‬وزراء‭ ‬بريطانيا‭ ‬السابقة‭ ‬مارغريت‭ ‬ثاتشر،‭ ‬ونجحت‭ ‬بكفاءة،‭ ‬وأحدث‭ ‬الحوار‭ ‬ضجة،‭ ‬وكان‭ ‬سر‭ ‬نجاح‭ ‬الحوار‭ ‬هو‭ ‬انها،‭ ‬وبغطرستها‭ ‬المعهودة،‭ ‬رفضت‭ ‬الجلوس‭ ‬معي‭ ‬وجها‭ ‬لوجه‭ (‬ربما‭ ‬خوفا‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬الفتنة‭)‬،‭ ‬وتلقت‭ ‬أسئلتي‭ ‬مكتوبة،‭ ‬وزودتني‭ ‬بالأجوبة‭ ‬مكتوبة،‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬شطبت‭ ‬نصف‭ ‬اسئلتي،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬إدارة‭ ‬الصحيفة‭ ‬تعلم‭ ‬بذلك،‭ ‬فمنحني‭ ‬رئيس‭ ‬التحرير‭ ‬حافزا‭ ‬تشجيعيا‭ ‬وقال‭ ‬خلال‭ ‬حفل‭ ‬تكريمي‭ ‬ان‭ ‬جعفر‭ ‬نجح‭ ‬كصحفي،‭ ‬لأنه‭ ‬فقد‭ ‬قدراته‭ ‬على‭ ‬التنويم‭ ‬المغناطيسي،‭ ‬وأن‭ ‬بقاء‭ ‬ثاتشر‭ ‬مستيقظة‭ ‬طوال‭ ‬حواري‭ ‬معها‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أخلو‭ ‬من‭ ‬جاذبية،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬مدحا‭ ‬ام‭ ‬ذما‭.‬

والشاهد‭: ‬إذا‭ ‬أردت‭ ‬ان‭ ‬تنجح‭ ‬كصحفي،‭ ‬أدرس‭ ‬المسيرة‭ ‬الجعفرية‭.. ‬ثم‭ ‬سر‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬المعاكس‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا