زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
تجربتي (2)
تحدثت بالأمس عن فرحتي العارمة عندما نشرت في صحف السودان ثلاثة مقالات، وأنا طالب جامعي، فحسبت أنني موعود بتسنّم ذروة المجد الصحفي، ثم عرضت عليكم واقعة تكليفي من جريدة إمارات نيوز الإنجليزية وشقيقتها العربية صحيفة الاتحاد الإماراتية بمحاورة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ادموند ماسكي، فقررت استعراض عضلاتي الثقافية واللغوية وألقيت على الرجل سؤالا أقرب إلى المحاضرة، بمعنى أنني ظللت أرغي وأزبد لطرح السؤال بما يعطي الانطباع بأنني شخص فهمان وخطير، ثم نظرت إليه في انتظار الإجابة، ولكن الرجل لم ينطق بحرف، وحسبت ان السؤال «صعب»، فأعدت طرحه بصيغة أخرى، ولم يستغرق مني ذلك أكثر من خمس دقائق، ولكن مفيش فايدة، فقررت طرحه بصيغة ثالثة، ولكن صوتا صدر منه اكد لي انه لا جدوى من محاورته. فقد اكتشفت أن الوزير كان بلا حراك وأنا أثرثر وأعربد مستعرضا قدراتي الصحفية واللغوية، وسرى الرعب في أوصالي، ماذا لو راح فيها الرجل وكان وقتها قد بلغ من الكبر عتيا؟ سأكون هدفا للمخابرات الأمريكية وجيمس بوند، وكان معي مصور باكستاني عمل على طمأنتي: انت ما في خوف.. هذا نفر ما في موت.. هو بس في نوم منشان هو واجد شيبة.. أنا في يسوي شوية هركات بفلاش مال كاميرا بعدين هو يقوم إن شاء الله!! ثم اقترب منه وأمطره بعدة فلاشات كادت تشوي وجهه المكرمش أصلا، فانتفض الرجل معتذرا لغفوته، ولولا بقية من حياء لـ«بست» أي قبّلت رأسه لأن سؤالي لم يقتله، وواصلنا الاسئلة والاجوبة وخرجت منه بشريطين مسجلين قمت بتفريغهما ونشر محتوياتهما كمانشيت للصحيفتين وكان اسمي مكتوبا على رأس الحوار المنشور الذي تناقلته وكالات الأنباء، فقلت: خلاص يا ابو الجعافر، لازم تعتزل وانت في قمة مجدك بعد ان صار اسمك على لسان كل وكالة أنباء. ولكن فرحتي لم تكتمل لان السفارة الامريكية بعثت بتكذيب للكلام الذي نسبته الى الوزير الأمريكي، واستدعاني رئيس التحرير وهو يحسب انه وجد ذريعة للتخلص مني، وعاتبني على فبركة الحوار، ولكنني أبرزت له الشريط الذي يؤكد أن الوزير قال كل كلمة نسبتها اليه، وتم استدعاء الملحق الإعلامي في السفارة الأمريكية في أبو ظبي وجلست معه ليستمع إلى فحوى الشريط، فخرج من مبنى الصحيفة وقفاه يقمر عيش من فرط الكسوف، وبكل هبالة شرحت لرئيس التحرير كيف ان الوزير نام أثناء طرحي للأسئلة!! هنا صاح الرجل: بالتأكيد انت شيوعي او عميل للسوفييت وتم تدريبك على تنويم وزير الخارجية الامريكية مغناطيسيا حتى تحصل منه على معلومات «سرية»، ولكن فحوى شريط التسجيل نفى عني تهمة الشيوعية والعمالة للسوفييت، بل ونشرت في اليوم التالي كلمات أتحدى فيها السفارة الامريكية ان تثبت أنني فبركت الحوار، ولحسن حظي لم تكن هناك غوانتنامو في ذلك الزمان.
والدرس المستفاد من تلك التجربة هو أن على الصحفي الناشئ عدم اللجوء إلى الأسلوب الجعفري في الحوار حتى مع صغار المطربين أو حتى الراقصات، وقد تم تكليفي لاحقا بمحاورة رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر، ونجحت بكفاءة، وأحدث الحوار ضجة، وكان سر نجاح الحوار هو انها، وبغطرستها المعهودة، رفضت الجلوس معي وجها لوجه (ربما خوفا على نفسها من الفتنة)، وتلقت أسئلتي مكتوبة، وزودتني بالأجوبة مكتوبة، بعد ان شطبت نصف اسئلتي، ولم تكن إدارة الصحيفة تعلم بذلك، فمنحني رئيس التحرير حافزا تشجيعيا وقال خلال حفل تكريمي ان جعفر نجح كصحفي، لأنه فقد قدراته على التنويم المغناطيسي، وأن بقاء ثاتشر مستيقظة طوال حواري معها دليل على أنني لا أخلو من جاذبية، وإلى يومنا هذا لا أعرف هل كان ذلك مدحا ام ذما.
والشاهد: إذا أردت ان تنجح كصحفي، أدرس المسيرة الجعفرية.. ثم سر في الاتجاه المعاكس.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك