القراء الأعزاء،
من أهم سمات هذا العصر أن تجد نفسك متصلاً بالكثير مما يحدث في العالم، والفضل في ذلك للعولمة وللشبكة المعلوماتية ولوسائل التواصل الاجتماعي، التي استطاعت أن تضعنا في مهب أحداث العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي ذلك من الإيجابيات والسلبيات معاً للشخص العادي، ومن أهم إيجابياتها العلم والمعرفة والاطلاع على الثقافات وعلى ما يجري خارج محيط الانسان وهو أمر جيد إذا ما تم تلقيّها بموضوعية ووعي ومراعاة المنطق عند تلقيها، ولا سيما مع بدء توظيف الذكاء الاصطناعي في فبركة الاحداث والاصوات بشكل مُربك، أما عن أهم سلبياتها فإنها تسببت في تنشيط بعض العقول الخاوية، التي لا تؤمن بالتخصص فهي تعلم كل شيء، وأصبحت تناقش وتفتي في كل المواضيع عن علم وعن غير علم، حتى اختلط حابل الفكر والعلم بنابله، وأصبح أكثرهم سياسيين وخبراء ومحللين رياضيين واقتصاديين، ولا يستبعد أن يتحدثوا عن انشطار الذرّة والاندماج النووي، لذا حتى إن لم يرغب الانسان بالعلم بما يجري حول العالم فإنه سيعلم به من الحوارات التي تدور في محيطه التي يجد نفسه مقحماً فيها اقحاماً.
ولكن يبقى الحديث عن الإنسانية حديثاُ مطلقاً لا يستوجب علماً ولا تخصصاً؛ لأنه شعور طبيعي يحاكي طبيعة الانسان وحقوقه التي يجب أن يتمتع بها بمجرد ولادته حيّاً، وهي حقوق طبيعية تمنحه إياها طبيعة خلقه كإنسان، وتلتزم الدول وفقاً لتعهداتها الدولية ضمن مواثيق حقوق الانسان بكفالة وصون وتعزيز وحماية واحترام هذه الحقوق للخاضعين لولايتها القضائية من مواطنين ومقيمين، منها حقه في الحياة، والحرية وعدم الخضوع للرقّ، المساواة وعدم التمييز بسبب اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل القومي، والأمان على شخصه، والحرية الشخصية، وحرية التنقل، وسلامة جسده وعدم خضوعه للتعذيب أو للمعاملة القاسية، والسكن، والغذاء الكافي، والصحة، وغيرها من الحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الانسان والعهدان الدوليان الخاصان بها.
لذا، هنا سأكتب عمّا اشعره كإنسانة، إذ لا يمكن لأي انسان سويّ أن يغضّ الطرف عن الألم الإنساني في أي بقعة على الأرض، ومن باب أولى عما يتعرض له أهل غزة من افتئات على جميع حقوقهم في مقدمتها الحق في الحياة والغذاء والصحة، وأن يُبدي رفضه لمثل هذه الممارسات غير الإنسانية التي تضرب جميع المواثيق الدولية لحقوق الانسان عرض الحائط، على الرغم من الأصوات الرافضة لهذه الممارسات على الصعيد الدولي رسمياً وشعبياً وقضائياً، وأن يتعاطف مع مأساة الغزاويين التي تعتبر مأساة القرن.
ومن المحزن حقا أن تكتب عن معاناة شعب وأنت آمن مُرفّه في سربك، لأن الألم الذي تشعره وتقاسمه لهذا الشعب لن يوازي ذرّة واحدة من ألم المعاناة التي يعيشها ويذوق مرارتها يوماً تلو الآخر، من غياب الأمان والخوف والقلق والتشريد والجوع والفقد، والأسوأ من ذلك هو ألا يُحرم من إمكانية وصول أي مساعدة إليه بمنطق ذاك الذي (لا يرحم ولا يخلّي رحمة الله تنزل عليهم)، فكان الله في عونهم.
وهنا يجدر التطرق إلى مبادرة ( اسطول الصمود العالمي) المكون من 42 سفينة من مختلف دول العالم بقيادة المجتمع المدني في مسيرة بحرية عالمية لكسر الحصار على قطاع غزّة وبمشاركة عدد كبير من مشاهير العالم في مجالات مختلفة، وكان لنُشطاء البحرين حضور فاعل فيها، وهي بادرة إنسانية شعبية جريئة تنبئ عن وعي حقيقي بالقضايا الإنسانية، يقودها العزم والإصرار والتفاعل الجاد مع مأساة غزّة، وتستحق الإشادة والدعم تعزيزاً لحقوق الانسان، ومهما كان ما واجهه هذا الاسطول أو سيواجهه، وحتى إن استطاع أن يوصل المساعدات إلى أهل غزة أو لم يستطع إلا أنه استطاع أن يؤكد أن الضمير الإنساني مازال نابضاً بالحياة، ولم يخطئ درويش فإنه (على تلك الأرض ما يستحق الحياة).
ومن المؤكد أن مسيرة اسطول الصمود العالمي البحرية كانت في حد ذاتها رسالة واضحة لرفض ممارسات انتهاكات حقوق الانسان، وقد وصلت إلى العالم وأضافت للرسائل الكثيرة التي وجهتها الشعوب وبعض الحكومات، وأن تعطيل هذه المسيرة يُعد إضافة لتلك الممارسات، فتحيّة للمشاركين جميعاً.
وبناء عليه فإن معاناة أهل غزة تُشكّل تحدياً عصرياً حقيقياً للأسس التي أنشأت عليها الأمم المتحدة وهي إيجاد عالم يسوده السلام والأمن وتُحترم فيه الكرامة الإنسانية، وهو ما لم يتحقق في غزة حديثاً منذ قرابة العامين كما لم يتحقق في فلسطين بأكملها عبر أكثر من سبعين عاماً.
النصر لغزة والعزّة للعرب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك