إن عنجهية إسرائيل وتصلب مواقفها ناتج عن تراجع تأثير العرب وضعف دورهم، وإصرارها على العربدة ينبع من صمت العرب تجاه هذه الأعمال العدوانية. ما قامت به إسرائيل من انتهاك لسيادة قطر بهجومها على قيادات حماس الموجودة هناك وبضوء أخضر أمريكي يعكس تمسكها بسياسة العربدة التي تقوم على لغة القوة في التعامل مع العالم العربي. لذلك هي جريئة فيما تُقدم عليه في كل زمان ومكان. يكفي الإشارة إلى أنها في يوم واحد شنت هجمات على جنوب لبنان وسوريا واليمن وقطاع غزة والضفة الغربية، وألحقت أضرارًا بالغة، دون خوف أو تردد، ودون اعتبار لأي رد فعل عربي شعبي أو رسمي.
لا شك أنه لولا الولايات المتحدة لما تجرأت إسرائيل على ما فعلت؛ فلولا دعمها لما استقوت إسرائيل ومارست جرائمها جهارًا نهارًا. لولا الولايات المتحدة لما انتهكت إسرائيل القانون الدولي وقامت بعمليات إعدام جماعي وسفك الدماء في أماكن متعددة، وتجاوزت كل الخطوط الحمراء باسم تحقيق ما تدعيه من أمن وسلام. لولا الولايات المتحدة لما قُتِل في غزة أكثر من 64 ألف فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن وذوي الاحتياجات، ولما حُوصروا وهُجِّروا وعانوا من العطش والجوع وتهاوت فوق رؤوسهم المساكن والمدارس والمساجد والكنائس والمستشفيات التي تدمرها إسرائيل. إن صمت الولايات المتحدة عن ذلك يخليها من المسؤولية؛ فصمتها هو مشاركة وموافقة.
رغم ادعا ء واشنطن الاهتمام بشراكات استراتيجية مع الدول العربية وعلاقات وثيقة معها، فهي في حقيقة الأمر لا تقيم للعرب وزنًا وتضع مصالحهم أحيانًا تحت أقدام تل أبيب. أي خطر يمس إسرائيل يُعتبر غير مقبول على الإطلاق، حتى وإن مسَّ العرب؛ فتتوالى الإدانة وتصريحات الشجب الأمريكية، فيما يُستخدم الفيتو إذا تعلق الأمر بإسرائيل. تصريحات مثل ما صرح به ترامب بأنه «لم يكن على علم بما جرى وليس سعيدًا به» حين تم الاعتداء على قيادات حماس في قطر، تعكس استخفافًا وتملصًا من المسؤولية، فإسرائيل لا تُقدم على خطوة إلا بعلم داعميها. لذلك فالنفي متناقض مع الواقع.
السياسات الأمريكية الظالمة والمنحازة لمصالحها تشجع إسرائيل على التمادي في العدوان وتجعل الحديث عن السلام في الشرق الأوسط أمرًا بعيد المنال. تلك السياسة تفتقر إلى أهم ركائز السلام: العدالة. لا يمكن الحديث عن سلام حقيقي في ظل علاقات دولية تُبنى على تفوق طرف على حساب إضعاف الأمة العربية والإسلامية، التي تُعامل في كثير من الأحيان كتهديد محتمل بدلا من أن تكون شريكًا في بناء الحضارة وجني المكاسب المشتركة التي تتيح للجميع حق التطور والتنمية والمساواة في سبل الوصول إلى تلك الأهداف المشروعة.
لا يتحقق الاستقرار العالمي بالإقصاء ولا بتحجيم فرص النهضة لدى الشعوب المستضعفة. كلما لاحت بوادر ظهور قوة عربية أو إسلامية متميزة، بادرت الولايات المتحدة، ومن خلفها إسرائيل والدول الغربية، إلى محاصرتها وتقويض فرص ازدهارها، ليس لأنها تهدد الأمن حقًا، بل لأنها تخرق صورة الهيمنة الأحادية التي يريدها الغرب مستقرة وخالية من المنافسة. ومن المؤسف أن يكون الخوف منصبًا على أمن إسرائيل فقط لا على أمن الشعوب، وهذا ما يحدد سياسات واشنطن في المنطقة. وإن كان السلام في نظر أمريكا مرادفًا لسكوت الآخرين وقبولهم بالأمر الواقع، فذلك ليس سلامًا بل استسلامًا مؤقتًا يولد كراهية وحقدًا عميقين في وجدان أجيال مقبلة.
لقد أضعفت هذه السياسة سمعة الولايات المتحدة، وتآكلت الثقة بها داخل الشرق الأوسط، ونمت لدى البعض مشاعر تؤكد استحالة وجود حالة سلام مع إسرائيل، ورفض قبولها ككيان فُرِض بالقوة لا بالقبول. الطريق الذي تسلكه الولايات المتحدة إذًا وعر ومملوء بالعقبات، ونهايته لا بد أن تكون خرابًا إذا استمرت على هذا المسار.
أخطر ما في هذه المعادلة الحرمان من حق الشعوب في التقدم. فبدلًا من أن تكون القوة وسيلة لحماية السلام، تحولت إلى وسيلة لفرض الصمت، وبدلًا من أن تكون العدالة مرجعية أصبحت الهيمنة المرجع الوحيد. آن الأوان أن يدرك الأمريكيون والغرب وإسرائيل أن القوة لا تصنع سلامًا حقيقيًا، وأن العلاقات بين الشرق والغرب لا يمكن أن تظل غير متكافئة إلى الأبد، ولا أن يُبنى الحوار على أساس الخوف أو تُفرض التعايشات تحت مظلة القلق والتبعية.
إن الحديث العربي المستمر عن شراكات استراتيجية مع الولايات المتحدة يشبه التعمية عن الحقيقة فمرجعية العرب ينبغي أن تنطلق من مصالحهم، ووحدتهم التي باتت الآن ضرورة لا بد منها. فترك إسرائيل تعيث في بلاد العرب والمسلمين خرابًا وتدميرًا هو تساهل ستكون نتيجته كارثية، تتمثل في بقاء العرب جاثمين في ذيل الأمم، ضعفاء لا يملكون قرارًا ولا يستطيعون التحرك أمام من يوجه إليهم الصفعات.
{ كاتب وباحث أكاديمي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك