العدد : ١٧٣٦٢ - الأحد ٠٥ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٦٢ - الأحد ٠٥ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ١٣ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

السياسة الأمريكية في زمنِ العدالة الغائبة

بقلم: د. طارق عباس

الأحد ٠٥ أكتوبر ٢٠٢٥ - 02:00

إن‭ ‬عنجهية‭ ‬إسرائيل‭ ‬وتصلب‭ ‬مواقفها‭ ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬تراجع‭ ‬تأثير‭ ‬العرب‭ ‬وضعف‭ ‬دورهم،‭ ‬وإصرارها‭ ‬على‭ ‬العربدة‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬صمت‭ ‬العرب‭ ‬تجاه‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال‭ ‬العدوانية‭. ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬انتهاك‭ ‬لسيادة‭ ‬قطر‭ ‬بهجومها‭ ‬على‭ ‬قيادات‭ ‬حماس‭ ‬الموجودة‭ ‬هناك‭ ‬وبضوء‭ ‬أخضر‭ ‬أمريكي‭ ‬يعكس‭ ‬تمسكها‭ ‬بسياسة‭ ‬العربدة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬لغة‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬لذلك‭ ‬هي‭ ‬جريئة‭ ‬فيما‭ ‬تُقدم‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان‭. ‬يكفي‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬شنت‭ ‬هجمات‭ ‬على‭ ‬جنوب‭ ‬لبنان‭ ‬وسوريا‭ ‬واليمن‭ ‬وقطاع‭ ‬غزة‭ ‬والضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬وألحقت‭ ‬أضرارًا‭ ‬بالغة،‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬أو‭ ‬تردد،‭ ‬ودون‭ ‬اعتبار‭ ‬لأي‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬عربي‭ ‬شعبي‭ ‬أو‭ ‬رسمي‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أنه‭ ‬لولا‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لما‭ ‬تجرأت‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فعلت؛‭ ‬فلولا‭ ‬دعمها‭ ‬لما‭ ‬استقوت‭ ‬إسرائيل‭ ‬ومارست‭ ‬جرائمها‭ ‬جهارًا‭ ‬نهارًا‭. ‬لولا‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لما‭ ‬انتهكت‭ ‬إسرائيل‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬وقامت‭ ‬بعمليات‭ ‬إعدام‭ ‬جماعي‭ ‬وسفك‭ ‬الدماء‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬متعددة،‭ ‬وتجاوزت‭ ‬كل‭ ‬الخطوط‭ ‬الحمراء‭ ‬باسم‭ ‬تحقيق‭ ‬ما‭ ‬تدعيه‭ ‬من‭ ‬أمن‭ ‬وسلام‭. ‬لولا‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لما‭ ‬قُتِل‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬64‭ ‬ألف‭ ‬فلسطيني،‭ ‬غالبيتهم‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال‭ ‬وكبار‭ ‬السن‭ ‬وذوي‭ ‬الاحتياجات،‭ ‬ولما‭ ‬حُوصروا‭ ‬وهُجِّروا‭ ‬وعانوا‭ ‬من‭ ‬العطش‭ ‬والجوع‭ ‬وتهاوت‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسهم‭ ‬المساكن‭ ‬والمدارس‭ ‬والمساجد‭ ‬والكنائس‭ ‬والمستشفيات‭ ‬التي‭ ‬تدمرها‭ ‬إسرائيل‭. ‬إن‭ ‬صمت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬يخليها‭ ‬من‭ ‬المسؤولية؛‭ ‬فصمتها‭ ‬هو‭ ‬مشاركة‭ ‬وموافقة‭.‬

رغم‭ ‬ادعا‭ ‬ء‭ ‬واشنطن‭ ‬الاهتمام‭ ‬بشراكات‭ ‬استراتيجية‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬وعلاقات‭ ‬وثيقة‭ ‬معها،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬تقيم‭ ‬للعرب‭ ‬وزنًا‭ ‬وتضع‭ ‬مصالحهم‭ ‬أحيانًا‭ ‬تحت‭ ‬أقدام‭ ‬تل‭ ‬أبيب‭. ‬أي‭ ‬خطر‭ ‬يمس‭ ‬إسرائيل‭ ‬يُعتبر‭ ‬غير‭ ‬مقبول‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬مسَّ‭ ‬العرب؛‭ ‬فتتوالى‭ ‬الإدانة‭ ‬وتصريحات‭ ‬الشجب‭ ‬الأمريكية،‭ ‬فيما‭ ‬يُستخدم‭ ‬الفيتو‭ ‬إذا‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بإسرائيل‭. ‬تصريحات‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬صرح‭ ‬به‭ ‬ترامب‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بما‭ ‬جرى‭ ‬وليس‭ ‬سعيدًا‭ ‬به‮»‬‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬قيادات‭ ‬حماس‭ ‬في‭ ‬قطر،‭ ‬تعكس‭ ‬استخفافًا‭ ‬وتملصًا‭ ‬من‭ ‬المسؤولية،‭ ‬فإسرائيل‭ ‬لا‭ ‬تُقدم‭ ‬على‭ ‬خطوة‭ ‬إلا‭ ‬بعلم‭ ‬داعميها‭. ‬لذلك‭ ‬فالنفي‭ ‬متناقض‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭.‬

السياسات‭ ‬الأمريكية‭ ‬الظالمة‭ ‬والمنحازة‭ ‬لمصالحها‭ ‬تشجع‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬التمادي‭ ‬في‭ ‬العدوان‭ ‬وتجعل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬أمرًا‭ ‬بعيد‭ ‬المنال‭. ‬تلك‭ ‬السياسة‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬أهم‭ ‬ركائز‭ ‬السلام‭: ‬العدالة‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬سلام‭ ‬حقيقي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬علاقات‭ ‬دولية‭ ‬تُبنى‭ ‬على‭ ‬تفوق‭ ‬طرف‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬إضعاف‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬التي‭ ‬تُعامل‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬كتهديد‭ ‬محتمل‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شريكًا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الحضارة‭ ‬وجني‭ ‬المكاسب‭ ‬المشتركة‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬للجميع‭ ‬حق‭ ‬التطور‭ ‬والتنمية‭ ‬والمساواة‭ ‬في‭ ‬سبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الأهداف‭ ‬المشروعة‭.‬

لا‭ ‬يتحقق‭ ‬الاستقرار‭ ‬العالمي‭ ‬بالإقصاء‭ ‬ولا‭ ‬بتحجيم‭ ‬فرص‭ ‬النهضة‭ ‬لدى‭ ‬الشعوب‭ ‬المستضعفة‭. ‬كلما‭ ‬لاحت‭ ‬بوادر‭ ‬ظهور‭ ‬قوة‭ ‬عربية‭ ‬أو‭ ‬إسلامية‭ ‬متميزة،‭ ‬بادرت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ومن‭ ‬خلفها‭ ‬إسرائيل‭ ‬والدول‭ ‬الغربية،‭ ‬إلى‭ ‬محاصرتها‭ ‬وتقويض‭ ‬فرص‭ ‬ازدهارها،‭ ‬ليس‭ ‬لأنها‭ ‬تهدد‭ ‬الأمن‭ ‬حقًا،‭ ‬بل‭ ‬لأنها‭ ‬تخرق‭ ‬صورة‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأحادية‭ ‬التي‭ ‬يريدها‭ ‬الغرب‭ ‬مستقرة‭ ‬وخالية‭ ‬من‭ ‬المنافسة‭. ‬ومن‭ ‬المؤسف‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الخوف‭ ‬منصبًا‭ ‬على‭ ‬أمن‭ ‬إسرائيل‭ ‬فقط‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬أمن‭ ‬الشعوب،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يحدد‭ ‬سياسات‭ ‬واشنطن‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬أمريكا‭ ‬مرادفًا‭ ‬لسكوت‭ ‬الآخرين‭ ‬وقبولهم‭ ‬بالأمر‭ ‬الواقع،‭ ‬فذلك‭ ‬ليس‭ ‬سلامًا‭ ‬بل‭ ‬استسلامًا‭ ‬مؤقتًا‭ ‬يولد‭ ‬كراهية‭ ‬وحقدًا‭ ‬عميقين‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬أجيال‭ ‬مقبلة‭.‬

لقد‭ ‬أضعفت‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬سمعة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وتآكلت‭ ‬الثقة‭ ‬بها‭ ‬داخل‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬ونمت‭ ‬لدى‭ ‬البعض‭ ‬مشاعر‭ ‬تؤكد‭ ‬استحالة‭ ‬وجود‭ ‬حالة‭ ‬سلام‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل،‭ ‬ورفض‭ ‬قبولها‭ ‬ككيان‭ ‬فُرِض‭ ‬بالقوة‭ ‬لا‭ ‬بالقبول‭. ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬تسلكه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إذًا‭ ‬وعر‭ ‬ومملوء‭ ‬بالعقبات،‭ ‬ونهايته‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬خرابًا‭ ‬إذا‭ ‬استمرت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭.‬

أخطر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المعادلة‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬التقدم‭. ‬فبدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القوة‭ ‬وسيلة‭ ‬لحماية‭ ‬السلام،‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬وسيلة‭ ‬لفرض‭ ‬الصمت،‭ ‬وبدلًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬العدالة‭ ‬مرجعية‭ ‬أصبحت‭ ‬الهيمنة‭ ‬المرجع‭ ‬الوحيد‭. ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬الأمريكيون‭ ‬والغرب‭ ‬وإسرائيل‭ ‬أن‭ ‬القوة‭ ‬لا‭ ‬تصنع‭ ‬سلامًا‭ ‬حقيقيًا،‭ ‬وأن‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬غير‭ ‬متكافئة‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬يُبنى‭ ‬الحوار‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الخوف‭ ‬أو‭ ‬تُفرض‭ ‬التعايشات‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬القلق‭ ‬والتبعية‭.‬

إن‭ ‬الحديث‭ ‬العربي‭ ‬المستمر‭ ‬عن‭ ‬شراكات‭ ‬استراتيجية‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬يشبه‭ ‬التعمية‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬فمرجعية‭ ‬العرب‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬مصالحهم،‭ ‬ووحدتهم‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬الآن‭ ‬ضرورة‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها‭. ‬فترك‭ ‬إسرائيل‭ ‬تعيث‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬خرابًا‭ ‬وتدميرًا‭ ‬هو‭ ‬تساهل‭ ‬ستكون‭ ‬نتيجته‭ ‬كارثية،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬بقاء‭ ‬العرب‭ ‬جاثمين‭ ‬في‭ ‬ذيل‭ ‬الأمم،‭ ‬ضعفاء‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬قرارًا‭ ‬ولا‭ ‬يستطيعون‭ ‬التحرك‭ ‬أمام‭ ‬من‭ ‬يوجه‭ ‬إليهم‭ ‬الصفعات‭.‬

 

{ كاتب‭ ‬وباحث‭ ‬أكاديمي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا