وراء كل اقتصاد مستقر ترتيبات دقيقة تحميه من المخاطر. أشياء لا يلتفت إليها الناس في العادة، لكنها تنعكس عليهم في الأسعار، وفرص العمل، وكذلك في ثقتهم بالمؤسسات. من هذا السياق أطلقت البحرين الاستراتيجية الوطنية لمكافحة غسل الأموال (2025–2027)، وهي جزء من الاستراتيجية الأوسع التي تشمل مكافحة تمويل الإرهاب. قد يعتقد البعض أنها تفاصيل فنية لا تتجاوز مكاتب المختصين، لكن الأمر أعمق من ذلك. أثرها يظهر في سوق أكثر هدوءًا، في أسعار لا تقفز بلا سبب، وفي معاملات مصرفية تسير بسلاسة. هذا الاستقرار الذي يلمسه المواطن في حياته اليومية ليس وليد المصادفة، بل ثمرة جهد منظم يضمن أن تظل الأسواق منضبطة وحياة الأفراد أكثر أمانا.
مصطلح «غسل الأموال» قد يبدو غامضا للوهلة الأولى، لكنه في حقيقته أبسط مما نتصور. هو مال غير مشروع يُمنح غطاءً شكليا ليظهر كأنه طبيعي. الخطر يبدأ حين يدخل هذا المال إلى الدورة الاقتصادية. عندها تختل قواعد المنافسة. فالتاجر الصغير الذي يعتمد على جهد يومي ورأس مال محدود يجد نفسه في مواجهة أنشطة لا تفكر بالربح والخسارة مثل غيرها. غايتها الأساسية إخفاء المال، لا خدمة السوق أو تطويره. النتيجة واضحة: السوق يفقد عدالته، ومعها تتراجع الثقة.
التقارير الدوليَّة كثيرا ما تلفت إلى أن سوق العقار من أكثر القطاعات عُرضة للتأثر بهذه الظاهرة. ففي بعض الدول، لوحظت ارتفاعات غير مبررة في الإيجارات أو انخفاضات مفاجئة في أسعار مشاريع جديدة، وربطها الخبراء بتدفّقات مالية تبحث عن غطاء. هذه الظواهر توضّح أهمية الرقابة والشفافية، لأن المواطن الباحث عن سكن معقول أو استثمار آمن هو أول من يتأثر عندما يختل الميزان.
أما التجارة الإلكترونية، فهي أكثر قربا مما نتصور من هذه الظاهرة. منصات تعرض منتجات لامعة بأسعار مغرية، من دون عنوان أو ضمان. رسائل قد تصل عبر تطبيقات تعرض صفقات سريعة مقابل عمولة. القصة تبدأ غالبا بإعلان مغر أو رسالة عابرة، لكنها قد تجر إلى مشكلات قد تمتد لتطال جوانب لم تخطر على بال. هنا يظهر دور الفرد، حين يتريث قبل الموافقة، أو يطلب إثباتا للتعامل، فإنه لا يحمي نفسه فقط، بل يسهم في حماية المجتمع أيضا. المنظومة تظل ناقصة إن لم يكملها وعي المجتمع ويقظته.
غسل الأموال جريمة لا تقف عند حدود بلد أو قطاع معين، فهي بطبيعتها عابرة للحدود. لهذا أصبح الالتزام بمكافحتها معيارًا رئيسيًا في تقييم الدول ضمن مؤشرات الشفافية والرقابة المالية.
وبالنسبة إلى البحرين، لا تقتصر هذه المؤشرات على بعدها الفني، بل ترتبط مباشرة بمدى ثقة المستثمر الأجنبي، وبشروط وكلفة التمويل الدولي الذي يمكن أن تحصل عليه الدولة. وكلما تعززت الشفافية والرقابة، ارتفعت ثقة المؤسسات الدولية، وانعكس ذلك إيجابًا على فرص الاستثمار، وتمويل المشروعات التنموية والخدمية بصورة أكثر استدامة.
ما يميّز الاستراتيجية الوطنية أنها بُنيت على تقييم واقعي يحدد بدقة القطاعات الأكثر عرضة للمخاطر، مثل المصارف، والعقار، وتجارة الذهب، وبعض المهن المالية والقانونية. الهدف أن تُغلق الثغرات قبل أن تتحول إلى مخاطر حقيقية، وأن يُعزز الاقتصاد بقدرة أكبر على الصمود. هذا النهج يضيف طبقة حماية مؤسسية تنعكس في النهاية على انضباط السوق وثقة الناس في تعاملاتهم اليومية.
ورغم وضوح الأهداف، يواجه التنفيذ تحديات واقعية لا تُغفل: سرعة تطوّر أساليب التحايل الرقمي، والحاجة المستمرة إلى تأهيل الكوادر ومواكبة المعايير الدولية، إضافةً إلى تحقيق توازن دقيق بين سهولة الاستثمار وحماية النظام المالي من الاستغلال. التعامل مع هذه التحديات بمرونة وشفافية يضمن أن تنتقل الاستراتيجية من الورق إلى الأثر، وتُقاس نجاحاتها بما تحققه من انضباط في السوق وثقة لدى الناس.
وبالمثل، يبقى الوعي المجتمعي عنصرًا لا غنى عنه. من مقاعد الدراسة إلى شاشات الإعلام، تبدأ رحلة بناء الوعي المالي في سن مبكرة. أن يتعلم الشاب كيف يفرّق بين الاستثمار الحقيقي والوهمي، وأن تدرك الأسرة أن العروض المبالغ في إغرائها ليست دائما آمنة. المعرفة المبكرة تصنع حصانة فردية، وتدعم الجهد الرسمي في بناء سوق يقوم على الشفافية والإنصاف.
الانعكاس الإنساني لهذه القضية لا يقل أهمية. فالشاب الذي يحلم ببدء مشروع ناشئ قد يجد نفسه في منافسة غير عادلة مع كيانات لا تبحث عن الربح بقدر ما تبحث عن إخفاء المال. والموظف الذي ادّخر سنوات طويلة يتردد قبل استثمار مدخراته لأنه لا يثق بكل ما يُعرض عليه من فرص. في مثل هذه اللحظات، تضيع فرص حقيقية، ويتحول الحذر المبالغ فيه إلى عبء يربك القرارات. فالمسألة لا تقف عند حدود الأرقام والتقارير، بل تمسّ جوهرها: حماية أحلام صغيرة قبل أن تكون حماية لمشاريع كبرى.
النزاهة المالية تُبنى خطوة بخطوة: حين نقرأ قبل أن نوقّع، ونسأل قبل أن نقبل، ونتوقف أمام ما يثير الريبة. هذه الممارسات البسيطة لا تحمي الفرد وحده، بل تعزز ثقة جماعية تجعل السوق أوضح وأكثر عدلًا للجميع.
خلاصة القول؛ القوانين تحدد الإطار، لكن فعاليتها الحقيقية تنعكس عندما تتحول إلى ثقافة يومية يلتزم بها الناس. والاستراتيجية الوطنية لمكافحة غسل الأموال (2025–2027) لم تُصغ لتبقى حبرًا على ورق، بل لتكون أداة عملية تحمي الاقتصاد من المخاطر وتؤسس لبيئة أوضح وأكثر عدلًا وثقة. وهي بهذا تتجاوز لغة الأرقام والتقارير لتؤكد جوهر الغاية: استقرار المجتمع وتعزيز ثقة المواطن.
فهل نملك الوعي الكافي لنكون جزءًا من هذه الاستراتيجية؟ أم سنبقى ننتظر أن تحمينا القوانين وحدها؟
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك