في ظل التصعيد العسكري الإسرائيلي غير المسبوق الذي بلغ ذروته بقصف مفاوضي حماس في قلب العاصمة القطرية، ومع تزايد الشكوك الخليجية حول التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها، برزت دعوات جدية لتأسيس اتحاد دفاعي خليجي رسمي، وإعادة صياغة المنظومة الأمنية الإقليمية على أسس الاستقلالية والتكامل.
«في 9 سبتمبر 2025، شنت إسرائيل غارات جوية غير مسبوقة وقاتلة استهدفت مفاوضي حماس داخل قطر. وقد أقرّ خبراء أمنيون غربيون بأن هذا التصعيد، بقيادة حكومة نتنياهو المتطرفة، ستكون له تداعيات إقليمية هائلة».
سلّطت منى يعقوبيان، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، الضوء على «تضارب الرؤى» في المنطقة، مشيرة إلى أن «مركز ثقلها» في الخليج العربي يعطي الأولوية لخفض التصعيد والوساطة في النزاعات، في مقابل الاعتداءات الإسرائيلية «العنيفة» الممتدة من غزة إلى اليمن.
وقد تطرق محللون إلى الآثار الاستراتيجية طويلة المدى التي ستطال دول مجلس التعاون الخليجي. فقد كتبت سانام فاكيل، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية، في صحيفة «الجارديان»، أن إسرائيل قد أصبحت تمثل «التهديد الأمني الأكبر لدول الخليج»، متجاوزة بذلك إيران. واعتبر حسين إيبش، الباحث المقيم الأول في معهد دول الخليج العربية بواشنطن، أن الهجوم على الدوحة أعاد رسم «البنية الأمنية بين دول الخليج».
من جانبه، أشار جورجيو كافييرو، الرئيس التنفيذي لشركة «جلف ستيت أناليتيكس» أستاذ مساعد في جامعة جورج تاون، إلى أن التطورات الأمنية الأخيرة «تفرض على دول الخليج العربي مراجعة أمنية واسعة النطاق».
وفي أعقاب قمة القادة الإقليميين التي عُقدت في الدوحة بعد أيام من الهجوم، برزت تساؤلات حول كيفية الرد بشكل يتجاوز الإدانات التقليدية لسلوك إسرائيل والدعوات إلى وقف الحرب في غزة، حيث رأى بلال صعب، الزميل المشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية، أن ذلك يوضح «أهمية إنشاء اتحاد دفاعي خليجي رسمي».
إن تقييمات الخبراء الغربيين تؤكد أن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة غيَّر المشهد الأمني في المنطقة، رافعًا مستوى التهديد من حكومة نتنياهو إلى مستوى مماثل، إن لم يكن أعلى، من الخطر المزمن الذي يشكّله النظام الإيراني في طهران. وكما وثّقت سانام فاكيل، فإن دول الخليج، وعلى مدى عقود، كانت ترى في إيران ومحور المقاومة التهديد الرئيسي للأمن الإقليمي، ولكن منذ أكتوبر 2023، وبفعل تدمير إسرائيل لغزة، ومحاولتها إبادة الفلسطينيين، وتصعيدها للضم في الضفة الغربية، وهجماتها العنيفة الممتدة إلى لبنان وسوريا واليمن وإيران، والآن قطر، تغيّرت طبيعة الحوار، وتم التوصل إلى استنتاج واضح بأن إسرائيل باتت «التهديد الأكبر للاستقرار الإقليمي».
وبالعودة إلى قمة الدوحة، وصف مهران كامرافا، أستاذ الشؤون الحكومية في جامعة جورج تاون – قطر، البيان الصادر عن مجلس التعاون الخليجي الذي أدان الهجوم الإسرائيلي، بأنه «تعبير رمزي قوي عن الوحدة». كما رأت أندريا ديسي، الأستاذة المساعدة في العلاقات الدولية بجامعة روما، أن هناك «بداية لتقارب في المواقف، وتغيرًا في اللهجة، وتحولًا في العقلية» إزاء التهديدات الأمنية في المنطقة.
وفي هذا السياق، يبرز أيضًا دور الولايات المتحدة كضامن تقليدي للأمن في الشرق الأوسط. فقد كتبت فاكيل أن «رسالة» الهجمات الإسرائيلية ضد المفاوضين الساعين لإنهاء الحرب في غزة، تُعدّ تحديًا مباشرًا لافتراض دول الخليج القائم منذ زمن طويل بأن العلاقات الثنائية والقواعد العسكرية الأمريكية ستحميهم من أي هجوم.
وأضاف بلال صعب أن «الاتفاقيات الأمنية غير الرسمية» التي تربط واشنطن بدول الخليج، ومنها قطر التي صُنّفت حليفًا رئيسيًا من خارج الناتو منذ 2022، لم تمنع إسرائيل من ضرب العاصمة القطرية. وأشار إلى أن الخليج العربي أصبح الآن «عرضة للهجوم من قبل كل من صديق –إسرائيل- وعدو -إيران- للولايات المتحدة»، وفي كلتا الحالتين «لم تستطع واشنطن – أو الأسوأ، لم تكن مستعدة – لحمايتهم»، ما يفسر تنامي الشكوك لدى القادة الإقليميين بشأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنهم.
وفي ضوء تقاعس الولايات المتحدة عن الوفاء بتعهداتها الدفاعية، تشير فاكيل إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي ستسرّع من جهودها لتنويع شراكاتها الخارجية والأمنية بعيدًا عن واشنطن، وذلك من خلال الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع الصين، وتوسيع التعاون الدفاعي مع تركيا.
وفي هذا السياق، نال الاتفاق الدفاعي المشترك الذي وُقّع بين السعودية وباكستان في 17 سبتمبر 2025 اهتمامًا بالغًا من قبل المعاهد ووسائل الإعلام الغربية. فقد وصف نيفيل لازاروس من «سكاي نيوز» هذه الاتفاقية بأنها قد «تُغيّر مسار الشرق الأوسط» عبر تزويد المملكة بـ«رادع نووي» قد يتوسع لاحقًا ليشمل دولًا أخرى.
مع ذلك، شدد صعب على أن الاتفاق «لا يوفر ضمانة دفاعية»، مشيرًا إلى أن «الأولوية القصوى لإسلام آباد لا تزال هي التنافس مع الهند». كما أشار تيم ويلاسي ويلسي، الزميل المشارك الأول في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، إلى أن هناك «أسبابًا واضحة لعدم إمكانية اعتماد أي من الطرفين بشكل مفرط على الاتفاق».
أكد إيبش أن الصفقة الأمنية الأخيرة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية كانت «قيد الإعداد سنوات» وليست ردًا مفاجئًا على الهجوم الإسرائيلي على قطر، مشيرًا إلى أنها اتفاقية ثنائية لا تعزز بالضرورة موقف بقية دول مجلس التعاون الخليجي. ورغم ذلك، يتوقع مراقبون أن تسعى دول الخليج إلى توسيع شراكاتها الاستراتيجية، في ظل تراجع التزام واشنطن بالدفاع الإقليمي وتصاعد الهجوم الإسرائيلي.
في هذا السياق، أشارت فاكيل إلى أن أعضاء مجلس التعاون باتوا مستعدين «لتعميق التعاون فيما بينهم»، بينما أوضح إيبش أن التوجه نحو اعتبار أي هجوم على إحدى دول الخليج «هجوم على الجميع»، يعزز من إمكانات الرد العسكري ويمنح المنطقة «عمقًا استراتيجيًا» أكبر لمواجهة التهديدات، سواء من إسرائيل أو إيران أو غيرهما. كما شدد على أهمية توحيد الأولويات الأمنية بين دول المجلس ورأى إيبش أن دول المجلس يجب أن تستغل قدراتها المالية والعسكرية لبناء «أمن جماعي فعال»، محذرًا من الإفراط في الاعتماد على الشراكة مع الولايات المتحدة، التي لا تلتزم – على غرار المادة 5 من ميثاق الناتو– بالتدخل العسكري الفوري للدفاع عن الحلفاء.
وفي ضوء موافقة قادة الخليج خلال قمة الدوحة على تفعيل «آلية دفاع مشترك»، رأى صعب أن التكامل الأمني لا يشترط تأسيس تحالف مشابه للناتو من البداية. بل يمكن أن يبدأ التعاون في مجالات محددة، أبرزها: الخدمات اللوجستية وسلاسل التوريد، الابتكار التكنولوجي، إدارة وإنتاج الصناعات الدفاعية، تبادل المعلومات الاستخباراتية، والدفاع الجوي والصاروخي. وقد ركز المحللون على المجال الأخير، لا سيما في ظل الهجوم الإسرائيلي، حيث أشار إيبش إلى افتقار دول الخليج لمنظومات دفاع صاروخي وطائرات دون طيار متقدمة، قادرة على حماية البنى التحتية الحيوية من الهجمات.
ورغم عدم وضوح إطار زمني محدد لتفعيل التعاون الدفاعي العميق، يرى المحللون – بمن فيهم إيبش– أن الضربة الإسرائيلية على الدوحة تمثل نقطة تحول مفصلية في طبيعة العلاقات الأمنية الخليجية، سواء مع الولايات المتحدة أو في إطار الشرق الأوسط الأوسع. في السياق ذاته، أشارت فاكيل إلى قلق الحكومات العربية من «تقاعس» إدارة ترامب في الرد على التصعيد الإسرائيلي، فيما اعتبر صعب أن هذه اللحظة مناسبة لترسيخ قناعة بضرورة تعزيز «الجبهة الداخلية الجماعية»، بدلاً من الاعتماد فقط على الشركاء الخارجيين.
ومع أن الاتجاه العام في الخليج يشير إلى السعي نحو استقلالية استراتيجية أكبر، أشار صعب إلى أن هذا لا يتعارض مع رؤية الولايات المتحدة التي تسعى للعب دور «الميسّر والمحفّز» لتعميق التعاون الدفاعي بين دول الخليج، وليس بالضرورة الوجود العسكري المباشر.
وفي تطور لافت، نقلت يعقوبيان أن إسرائيل أصبحت الآن «التهديد الأبرز المتصور في المنطقة»، بدلًا من إيران، في ظل تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشن هجمات جديدة ضد خصوم إسرائيل في المنطقة. وفي هذا السياق، تساءل كافييرو عن مدى قدرة دول الخليج على إدارة تهديدات أمنية متزايدة في ظل «غياب المظلة الواقية» التقليدية التي كانت توفرها الولايات المتحدة.
ورجّح كافييرو أن تتسارع الجهود لتعزيز التنسيق الدفاعي داخل مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك إحياء التطلعات نحو إطار أمني مستقل على غرار الناتو، رغم ما يتطلبه ذلك من استثمارات طويلة الأجل. وقد ختم كافييرو بالقول: «إن بناء قدرات ردع موثوقة «أصبح مسارًا ضروريًّا بشكل متزايد».
مع تحوّل إسرائيل إلى التهديد الأمني الأكبر في نظر دول الخليج، وتآكل الثقة في المظلة الأمريكية، لم تعد الدعوات لاتحاد دفاعي خليجي خيارًا استراتيجيًا فحسب، بل ضرورة إقليمية ملحة لبناء جبهة داخلية موحدة وقادرة على حماية أمن واستقرار المنطقة في وجه المتغيرات المتسارعة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك